الأخبار

بيان لسماحة المرجع الديني السيد كمال الحيدري في ذكرى استشهاد الصدر المقدس

في مثل هذا اليوم الموافق للتاسع من شهر نيسان عام 1980م رحل عنّا سماحة آية الله العظمى الإمام الشهيد السيد محمد باقر الصدر(رضوان الله عليه)، وما زلنا وبعد كل هذه العقود من السنين نستشعر حجم الجريمة النكراء التي اقترفها النظام البعثي المقبور وفداحة الخسارة التي مُني بها العالم الإسلامي ـ بل والعالم أجمع ـ بفقدان مثل هذه الشخصية الروحية العظيمة والعقل العلمي الخلاَّق.

ليس بوسع هذه الدقائق أن توضح أبعاد هذه الفاجعة أو أن تبين عمق هذا العقل الجبار وما قدمه من أفكار على المستوى العلمي أو ما كان باستطاعته أن يقدمه للعالم فيما لو بقي حيّاً حتى يومنا هذا. يعرف هذه الحقيقة أولئك الباحثون الذين أطلعوا على تراث الإمام الشهيد(رضوان الله عليه) بوعي ودراية دون من يتعامل معه كذكرى احتفالية سنوية تلقى فيها القصائد الشعرية وكلمات المديح أو من يجمد هذا التراث في مجموعة محدودة من الأفكار المدرسية التي يتلقاها على مقاعد الدراسة الحوزوية فقط.

ما زال تراث أستاذنا الصدر لم يلقى ما يستحقه من البحث والقراءة العلمية بالرغم من كثرة الأعمال الصادرة بهذا الشأن, حسبنا في هذه العجالة التذكير بهذا الواقع المؤسف لنشير إلى بعض الخصوصيات التي تمتعت بها هذه الشخصية الربانيّة والتي نحن بأمس الحاجة إلى استيعابها في كل مقاربةٍ لفهم هذه الشخصية والحديث عنِ مواقفها وعطائها الفكري الكبير ودورها الذي لعبته كمرجعية دينية رشيدة وواعية بحق :

الخصوصية الأولى: أنه (رضوان الله عليه) كان عالم دين وليس عالم فقه فقط

يدرك جميع من له اتصال بأروقة الفكر المعاصر مقدار الضغط الذي يتحمل مسؤوليته المشتغلون بشؤون هذا الفكر ومسائله، والأسئلة التي يثيرها والإرباك النفسي والفكري الذي يخلّفه في عقول الكثير من شرائح مجتمعاتنا, ليس أقلها هذا التدفق الهائل للمعلومات والأفكار والقيم الذي تقدمه وسائل الاتصال من انترنت وتلفزة فضائية وغيرها. هذا دون أن نتحدث عن النظريات الحديثة في عالم السياسة وإدارة الحكم والدولة، أو نُظُم إدارة الاقتصاد والمال، أو النظريات الاجتماعية بشأن قيم الفرد والأسرة.

هذا الواقع الجديد هو ما يُشعر البعض منّا بأزمة الدراسات الإسلامية وضيق أفقها حين تختصر مفهوم الدراسة الدينية بدراسة الفقه, بل وتختصر الفقه في جزء ضئيل منه هو عبارة عن أبحاث بعض الأبواب الفقهية المعروفة كالطهارة أو الصلاة أو الحج. حينها يتم اختزال مفهوم “عالم الدين” بمفهوم “الفقيه” فقط ويصبح جُلَّ ما يتطلع إليه الدارسون هو معرفة مسائل هذه الأبواب دون الرؤية الشاملة لما تحفل به حياتنا المعاصرة من تنوع اختصاصات وتعدد حقول علمية واتساع في ما تفرزه من أفكار وقيم واعتقادات يتجاوز كثيراً ـ سواء على مستوى المضمون أو على مستوى المنهج ـ مجرد أن يكون المرء عالماً بقضايا الفقه والأحكام الشرعية بصيغتها التقليدية تبعاً لتقسيم الأبواب الفقهية المعروفة.

هذا هو تحديداً أحد تصورات أشكال الأزمة التي تمر بها معاهد الدراسات الدينية وهو واحد من أهم مصادر الشعور بالإحباط بشأن أولئك المتصدين لمعالجة ـ أو هكذا يفترض بهم ـ هذا الواقع الجديد، وتنامي اعتقاد البعض بعجز أمثال هؤلاء عن استيعاب المستجدات في عالم الفكر والواقع فضلاً عن المشاركة الجادة في حل ما تنتجه من أسئلة وقيم ومفاهيم.

إن واحدة من أهم خصوصية أستاذنا الشهيد(رضوان الله عليه) هي هذه القدرة الفريدة من نوعها على توزيع اهتماماته على أكثر من اختصاص وانشغاله بأكثر من حقل معرفي دون أن ينغلق على فرع واحد من فروع المعرفة الإنسانية. وإلقاء نظرة على إنتاجه الفكري، مهما كان مستوى هذه النظرة وحتى لو لم تكن من أهل الاختصاص, يتضح أن الإمام الشهيد الصدر لم يكن مجرد فقيه فقط, بل كان الفيلسوف والاقتصادي والمؤرخ والمنظر السياسي و… ومن هنا كان بحق “مرجعاً للدين” لم يتخلف عن أي موقع أريد له بحسب وظيفته المرجعية أن يكون فيه أو يتصدى له وهو ما يختلف كثيراً عمَّا نلاحظه اليوم في بعض المتصدين لهذه المهملة الجليلة ممن تقعده الخبرة والإلمام بالواقع المعاصر, الفكري والحياتي, عن أداء وظيفته بالنحو الذي ينبغي.

من هنا نحن نعتقد بضرورة التمييز بين المرجعية “الدينية” والمرجعية “الفقهية” وأن من شأن الخلط بينهما ومنح الأخيرة جميع صلاحيات ومواقع الأولى يخلّف الكثير من الأزمات والتناقضات.

الخصوصية الثانية: أنه كان(رضوان الله عليه) مفكراً

لا يقتصر مفهوم كون الإنسان “عالم دين” على مجرد دراسته للعلوم الدينية ولا حتى على سعة إطلاعه على ما تحفل به أفكار ونظريات وآراء. ليس ما نعنيه بهذا المفهوم هو كون الإنسان مجرد حاسوب يجمع البيانات بنحوٍ آلي, ليس مفهوم عالم الدين مفهوماً تراكمياً مدرسياً فقط, إنّما هو مفهوم حيوي متحرك يجعل من صاحبه إنساناً مفكراً مبدعاً وليس مجرد ذاكرة تتسع دون أن تعالج طبيعة مضمون هذه الذاكرة.

ماذا يعني أن يكون الإنسان مفكراً؟

يعني أنه يكرس نفسه ليس لمجرد “تجميع” المعلومات وإنما لـ”كيفية” معالجتها وموازنتها و”استنتاج” ما هو جديد منها.. وهذا هو ما يسمى “إبداعاً”، وهذه العملية “الفكرية” تشبه كثيراً العملية “الهضمية” التي يقوم بها الجسم؛ فكما أن المعدة تأخذ على عاتقها “هضم” الطعام الذي تُزَود به وتمنح كل عضو ما يحتاج إليه, كذلك يقوم العقل “المفكِّر” بمعالجة “المعلومات” التي يحصل عليها لينتج منها ويستخرج منها ما يحتاجه. نعم, من الصحيح أن نجاح عملية الهضم ومدى فائدتها يتوقف على طبيعة “الطعام” الذي يتناوله الإنسان وكذا هو الحال في شؤون الفكر, إلاّ أنّ أساس نجاح المرء في المجال الفكري وصيرورته “مفكِّراً” هو مواصلته بنحو دائم عملية التفكير والاستنتاج دون الاكتفاء فقط بمجرد “جمع” المعارف وتراكمها.

لقد سألت أستاذنا(رضوان الله عليه) في يومٍ من الأيام ـ وهذه الحادثة نقلتها في أكثر من مناسبة ـ كيف صار السيد محمد باقر الصدر “محمد باقر الصدر”؟ فأجابني: صار كذلك بفضل عشرة في المئة “المطالعة” وتسعين في المئة “التفكير”. لا يريد السيد الصدر هنا الانتقاص من أمر المطالعة(وعليكم التفكير بأن نسبة عشرة في المئة إنما كانت بالنسبة للإمام الصدر.. فكما عساها تكون؟!) وإنما يريد التركيز على أنَّ كون الإنسان مفكِّراً لا ينفك عن التفكير والإبداع واستخراج ما هو جديد مما يقرأه أو يطلّع عليه.

وهذا بحد ذاته يعلِّمنا شيئين:

أولاً: يطلعنا على سيرة هذا الرجل الفذ وما يمثله لنا من قدوة حسنة في حياتنا العلمية وأساليب التعليم والتحصيل المعرفي.

وثانياً: يعرّفنا على أن الإمام الشهيد لم يكتفي بكونه رجلاً مختصاً بالمعرفة الدينية والحقول المعرفية المتصلة بها, بل وإنه كان أيضاً “مفكِّراً” تهمه المعرفة والإبداع في جميع ميادين المعرفة مهما كان حقلها أو مجالها.

الخصوصية الثالثة: أنّه كان(رضوان الله عليه) عارفاً بزمانه

لن يكفي الإنسان أن يكون عالماً متضلعاً بالدين ومفكراً مبدعاً في شؤون المعرفة البشرية أن يكون بذلك مرجعاً للدين بحق, ما كانه الشهيد الصدر(رضوان الله عليه) هو أنه بالإضافة إلى ذلك كان رجلاً عارفاً بزمانه، أعني: أنه لم يكن مجرد فقيه يستنبط الأحكام الفقهية ويحدد المواقف الشرعية لمقليده بنحوٍ عام, بل وكان أيضاً يعرف ملابسات واقع مقليده, بل وعموم المرحلة التي كان هو يعيش في خِضمِّها أو يشهدها المجتمع الإسلامي برمته, عندها لم يكن الشهيد الصدر عارفاً بأحكام الشرع فقط، أو عارفاً ومفكراً بكل ما تبدعه حقول المعرفة المتنوعة، بل وكان أيضاً “عارفاً بزمانه”، والمقصود من “زمانه” هو كل ما له علاقةٌ بشؤون المجتمع الإسلامي الذي يمثله أو يُعد “مرجعاً” له, سواء على صعيد سياسي أو اقتصادي أو اجتماعي.. وغيرها من الصُعد التي تتصل بأداء وظيفته بنحوٍ صحيحٍ وسليمٍ وناجحٍ.

بكلمةٍ واحدة لقد كان الشهيد الصدر(رضوان الله عليه) ـ وهذا هو أحد التعابير الواردة في روايات أئمة أهل البيت(عليهم السلام) ـ على بصيرة من أمره، يعرف ما يقتضيه زمانه، يعرف متى يسكت حينما ينبغي له السكوت ويعرف متى يتكلم حينما ينبغي له التكلم، يعرف تطبيقات الأحكام الشرعية وموضوعاتها لا أنه يعرفها دون مواردها ومصاديقها.

لقد حفلت حياة الشهيد الصدر بالكثير من الشواهد على أنه كان من أكثر علماء الدين بصيرةً بزمانه وأنّه من أكثر من تصدى لشؤون المرجعية وكان على درايةٍ ومعرفةٍ بأحوال زمنه ومجتمعه والعالم الذي يُحيط به.

البصيرة غير الدين وغير العلم, قد يكون المرء متديناً وقد يكون عالماً.. ولكن ذلك لا يعني إطلاقاً أنه على بصيرةٍ من زمانه, ما هو رائعٌ في الشهيد الصدر أنه كان أنصع صورةٍ لهذه المفاهيم مجتمعة.

الخصوصية الرابعة: أنه(رضوان الله عليه) كان شجاعاً

ما يميّز المرجعية الدينية أنها ليست مجرد هيئة علمية تقتصر مهمتها على تحديد الوظيفة الشرعية لأتباعها، وإنّما هي نحو من “إدارة” لوضع الأمة و”تصدٍّ” لرعاية شؤونها وقضاياها لا يحدّها مكان دون آخر ولا تفصلها الفوارق العرقية أو اللغوية أو الثقافية للمجتمعات التي تخاطبها. ليست المرجعية الدينية حالة فئوية أو حزبية من شأن هذه الأمور أن تقيّدها وتقلل من نشاطها. نعم، على المرجعية أن تأخذ ملابسات كل واقع تتحرك فيه وتمتد إليه، وهو ما تحدثنا عنه قبل قليل في الخصوصية السابقة حين قلنا: إن على المرجع أن يكون عارفاً بزمانه بصيراً بأحوال مجتمعه وهو ما كانه شهيدنا الصدر في مرجعيته، إلا أن هذا لا يعني أقلمة المرجعية بقدر ما يعني معرفتها لواقع الأقاليم التي تنهض بمهمة كونها مرجعية لها في قضايا الدين. كما أننا حين نصف المرجعية بكونها تصدياً لأوضاع الأمة و”إدارة” لشؤونها فلا نعني بالإدارة أن المرجعية تحل محل الدولة في وظائفها وأنها تباشر تلك “المناصب” الإدراية بنحو مباشر, إنما نعني أن المرجعية الدينية هي مؤسسة روحية وشرعية لمن يرتبطون بها، تهتم بشؤونهم فيما يتعلق بهذا الاتجاه.

وهذه مهمةٌ بالرغم من جلالتها وخطورتها تتطلب بالإضافة إلى كل ما تقدم ذكره مما وجدناه في مرجعية هذا الشهيد العظيم من كونه عالماً ومفكِّراً وبصيراً بزمانه, تتطلب أيضاً شجاعة وروحاً مقدامة على خوض هذه الأمور وليس شخصية ضعيفة أو مترددة أو متهيّبة.

إن مما تتطلبه وظيفة المرجعية الدينية وهي تقارب شؤون الواقع المجتمعي لأتباعها بكل تنوعه وثرائه أن تستدعي هذا التنوع وهذا الثراء في الواقع من مواقفها وتصديها. لن يقتصر الأمر على شؤون الفقه والعقيدة فقط, بل وسيمتد إلى شؤون السياسة أيضاً, وهذه حقيقة لا ينبغي لنا إنكارها وتجاهلها.. فما عسى المرجعية الدينية أن تفعل في هذا الصدد؟

لقد أثبت تاريخ المرجعية الدينية أنه الأشد احتراماً لما يسمّى اليوم بالشؤون الداخلية للبلدان ولكن هذا لا يعني أن المرجعية اعتزلت شؤون أتباعها أو رفضت بيان موقفها من مجريات الأمور فيما يتعلق بأتباعها؛ إنما يعني أنها تركت التدخل التحريضي في شؤون تلك البلدان واحترمت الواقع السلمي لمجتمعاتها بل ودعت إلى توحد الكلمة ورص الصفوف وترك الفرقة والاختلاف. نعم هذه هي مبادئ راسخة في تاريخ المرجعية الدينية الشريفة, ولكن وفي الوقت ذاته, فإن المرجعية لم تتخلى عن دورها ووظيفتها في أداء مسؤولياتها في الدفاع عن أبنائها وحمايتهم ونصرتهم.

هذا الأمر الذي نشير إليه أعلاه لا يتعلق بعلم المرجع الديني ولا ببصيرته بزمانه وإنما يتعلق بنقطة أخرى هي عبارة عن شجاعة المرجع ومبدئيته في أداء مسؤولياته مهما كلّفه الثمن. هنا تحديداً يمثل المرجع الشهيد الصدر خير مثال وأفصح مثال في هذا الأمر.. أمر شجاعته الفريدة من نوعها وروحه المقدامة في سبيل إيمانها بقضاياها والتزامها الشرعي أمام أتباعها.

لقد حفل لنا التاريخ بالكثير من الشخصيات التي تمتعت بالعلم والمعرفة, ولكنها خذلت الحق ولم تنتصر له! ولم يكن سبب ذلك إلا لخلو تلك الشخصيات من فضيلة الشجاعة التي تحمل المرء على التمسك بالامتثال لصوت الواجب مهما كانت الأثمان. شخصية عبد الله بن عمر كانت عالمة.. عرفت الحق ولم تجهله.. ولكن كان ينقصها الشجاعة فلم تبايع الإمام علي ابن أبي طالب وخذلته ثم بايعت بني أمية بكل ذل وخنوع

  • جديد المرئيات