الأخبار

الآيات الدالّة على الشفاعة التكوينية

الآية الأولى:(اللهُ لا إلهَ إلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الأرْضِ مَنْ ذا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إلاَّ بـِإذنِهِ..). (البقرة: 255).
ولكي تتّضح دلالة الآية؛ هل الشفاعة الواردة فيها هي التكوينية فقط أم الأعمّ من التكوينية والتشريعية، لابدّ من الوقوف على بعض المقاطع التي سبقت قوله تعالى: (مَنْ ذا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إلاَّ بـِإذنِهِ ).
(القيّوم) فيعول من (قام، يقوم) وهو وزن مبالغة، وأصله قيْوُوم، فاجتمعت الواو والياء وسبقت إحداهما بالسكون فقلبت الواو ياءً واُدغمتا، وهو وصف يدلّ على المبالغة، والقيام حفظ الشي‏ء وفعله وتدبيره وتربيته والمراقبة عليه والقدرة عليه، كلّ ذلك مأخوذ من القيام بمعنى الانتصاب؛ للملازمة العادية بين الانتصاب وبين كلّ منها، وقد أثبت الله تعالى أصل القيام بأمور خلقه لنفسه في كلامه حيث قال: (أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْس بـِما كَسَبَتْ )(الرعد: 33). وقال تعالى: (شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إلهَ إلاَّ هُوَ وَالمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قائِماً بـِالْقِسْطِ لا إلهَ إلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (آل عمران: 18) فأفاد أنه قائم على الموجودات بالعدل فلا يعطي ولا يمنع شيئاً في الوجود – وليس الوجود إلا الإعطاء والمنع – إلا بالعدل، بإعطاء كلّ شي‏ء ما يستحقّه، ثم بيّن أن هذا القيام بالعدل مقتضى اسميه الكريمين: العزيز الحكيم، فبعزّته يقوم على كلّ شي‏ء، وبحكمته يعدل فيه.
والحاصل: لمّا كان تعالى هو المبدأ الذي يبتدئ منه وجود كلّ شي‏ء وأوصافه وآثاره، ولا مبدأ سواه إلا وهو ينتهي إليه، فهو القائم على كلّ شي‏ء من كلّ جهة بحقيقة القيام الذي لا يشوبه فتور وخلل، وليس ذلك لغيره قطّ إلاّ بإذنه بوجه، فليس له تعالى إلا القيام من غير ضعف وفتور، وليس لغيره إلا أن يقوم به.
(لاَ تَأخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ) مقرِّرة لمضمون جملة (الْحَيُّ الْقَيُّومُ) ولرفع احتمال المبالغة فيها. فالجملة منزّلة منزلة البيان لمعنى (الْحَيُّ الْقَيُّومُ) ولذلك فُصلت عن التي قبلها. والسنة (فعْلة) من الوسن وهو أوّل النوم، والنوم هو الركود الذي يأخذ حواسّ الحيوان؛ لعوامل طبيعية تحدث في بدنه. ونفي استيلاء السنة والنوم على الله تعالى تحقيق لكمال الحياة ودوام التدبير، وإثبات لكمال العلم، فإن السنة والنوم يشبهان الموت، فحياة النائم في حالهما حياة ضعيفة وهما يعوقان عن التدبير وعن العلم بما يحصل في وقت استيلائهما على الإحساس.
وتقديم السِنة على النوم – مع أنه خلاف الترتيب الذي تقتضيه البلاغة لأن المقام مقام الترقيّ، والترقّي في الإثبات إنما هو من الأضعف إلى الأقوى كقولنا: فلان يقدر على حمل عشرة أمنان بل عشرين منّاً، وفي النفي‏ بالعكس كما نقول: لا يقدر فلان على حمل عشرين بل ولا عشرة، فكان ينبغي أن يقال: لا تأخذه نوم ولا سنة – فهو لبيان هذه النكتة وهي: لما كان أخذ النوم أقوى تأثيراً وأضرّ على القيّومية من السِنة، كان مقتضى ذلك أن ينفى تأثير السنة وأخْذها أوّلاً، ثم يترقّى إلى نفي تأثير ما هو أقوى منها تأثيراً، ويعود معنى (لا تَأْخُذُه سنَةٌ وَلا نَوْم)إلى مثل قولنا: لا يؤثّر فيه هذا العامل الضعيف بالفتور في أمره ولا ما هو أقوى منه.
(لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْض) تقرير لانفراده بالإلهية، إذ جميع الموجودات مخلوقاته، وتعليل لاتّصافه بالقيّوميّة، لأن من كانت جميع الموجودات مِلكاً له تعالى فهو حقيق بأن يكون قيّومها وألاّ يهملها، ولذلك فُصلت الجملة عن التي قبلها.
واللام للمِلك، والمراد من السموات والأرض استغراق أمكنة الموجودات، فقد دلّت الجملة على عموم الموجودات بالموصول وصلته، وإذا ثبت ملكه للعموم ثبت أنه لا يشذّ عن مِلكه موجود، فحصل معنى الحصر. إذن فقد تمّ بقوله: (الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الأرْضِ) أن السلطان المطلق في الوجود لله سبحانه، لا تصرّف إلا وهو له ومنه. إذا كان الأمر على ذلك – وهو كذلك – فما هو إذن دور هذه الأسباب والعلل الموجودة في العالم وما شأنها؟ وكيف يتصوّر فيها ومنها التأثير ولا تأثير إلا لله سبحانه؟
فأجيب بقوله: (مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إلاَّ بـِإذنِهِ) أي إن تصرّف هذه العلل والأسباب في هذه الموجودات المعلولة توسّط في التصرّف، وبعبارة أخرى: شفاعة في موارد المسبّبات بإذن الله سبحانه، فإنما هي شفعاء، والشفاعة – وهي بنحوٍ توسّطٌ في إيصال الخير أو دفع الشرّ وتصرّفٌ ما من الشفيع في أمر المستشفع – إنما تنافي السلطان الإلهي والتصرّف الربوبيّ المطلق إذا لم ينته إلى إذن الله ولم يعتمد على مشيئة الله تعالى، بل كانت مستقلّة غير مرتبطة. وما من سبب من الأسباب ولا علّة من العلل إلاّ وتأثيره بالله ونحو تصرّفه بإذن الله، فتأثيره وتصرّفه نحو من تأثيره وتصرّفه تعالى، فلا سلطان في الوجود إلا سلطانه ولا قيّوميّة إلا قيّوميّته المطلقة عزّ سلطانه.
وبهذا يتّضح أن الشفاعة في الآية أعمّ من الشفاعة التكوينية وهي توسّط الأسباب في التكوين، والشفاعة التشريعية التي سيأتي الكلام عنها لاحقاً، وذلك أن هذا المقطع من الآية مسبوق بحديث القيّوميّة والمِلك المطلق الشاملين للتكوين والتشريع معاً، بل إن الحديث عن القيّومية والملك المطلق أكثر انسجاماً مع الشفاعة التكوينية. وعليه فلا موجب لتقييد القيّومية والسلطنة المستفادة من الملكية المطلقة بالأمور التشريعية، حتى يستقيم تذييل الكلام بالشفاعة التشريعية المخصوصة بيوم القيامة، وهي التوسّط في مرحلة المجازاة التي يثبتها الكتاب والسنّة في يوم القيامة.
الآية الثانية:(إنَّ رَبَّكُمُ الله الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّام ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ مَا مِن شَفِيعٍ إلاَّ مِن بَعْدِ إذنِهِ ذلِكُمُ الله رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ) (يونس: 3) ومثله قوله تعالى: (الله الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُم مِن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ ) (السجدة: 4). ذكرت الآية في صدرها خلق السموات والأرض وحدّدت مدة الخلق والإيجاد بستّة أيام، ثم نصّت على سعة قدرة الله تعالى على جميع ما خلق وإحاطته بهم، وأنه بعدما خلق السماوات والأرض استوى على عرش القدرة وأخذ بتدبير العالم.
ثم عقّبت الآية بقوله تعالى: (مَا مِنْ شَفِيعٍ إلاَّ مِنْ بَعْدِ إذنِهِ). والآية لمّا كانت في‏ مقام وصف الربوبيّة والتدبير التكويني، فلابد أن يكون المراد من الشفاعة الشفاعة في أمر التكوين، وهي السببية التي توجد في الأسباب التكوينية التي هي وسائط بين الحوادث والكائنات وبينه تعالى كالنار المتخلّلة بينه وبين الحرارة التي يخلقها، فنفي الشفاعة والسببية عن كلّ شي‏ء إلاّ من بعد إذنه هو لإفادة التوحيد في الخالقية والتوحيد في التدبير والربوبيّة، فلا خالق إلاّ هو (اللهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْ‏ء) (الرعد: 16) كما لا مدبّر إلاّ هو (الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) (الحمد: 2)، (يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاء إلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) (السجدة: 5)، فما يتراءى في صفحة الوجود من الخلق والتدبير فليس على ظاهرهما، وإنما تقوم سائر العلل بالخلقة والتدبير مستمدّاً من حوله وقوّته، فيرجع معنى الآية إلى أنه لا مؤثّر في الكون إلاّ من بعد إذنه.
إذا اتّضح ما قلناه فلا يناسب حمل الشفاعة في الآية على الشفاعة التشريعية التي تدور حول التكاليف والتشريعات وعصيان العباد ومخالفتهم لها، ثم توسيط الشفعاء لغفران ذنوبهم وحطّ سيّئاتهم. فهذه الآيات ونظائرها تثبت وجود شفاعة في نظام التكوين ووجود شفعاء مأذون لهم من قبل الله تبارك وتعالى أن يتوسّطوا بينه وبين غيره لنشر رحمته التي لا تنفد ونعمته التي لا تحصى إلى خلقه وصنعه.
ولعلّ من أهمّ هذه الوسائط هم الملائكة الذين عبّر عنهم القرآن الكريم بقوله (فَالمُدَبِّرات أَمْراً) (النازعات: 5) حيث جعلهم رسلاً أولي أجنحة (الْحَمْدُ للهِِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ) (فاطر: 1) الظاهر بإطلاقه في أنهم خلقوا وشأنهم أن يتوسّطوا بينه تعالى وبين خلقه، ويرسَلوا لإنفاذ أمره، الذي يستفاد من قوله تعالى في صفتهم: (بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ ٭ لا يَسْبـِقُونَهُ بـِالْقَوْلِ وَهُم بـِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ ) (الأنبياء: 26- 27) وقوله: (يَخَافُونَ رَبَّهُم مِن فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ) (النحل: 50)، ولعلّ جعل الجناح لهم إشارة إلى ذلك.
(ولا ينافي هذا الذي ذُكر في توسّطهم بينه تعالى وبين الحوادث – أعني كونهم أسباباً تستند إليها الحوادث – استناد الحوادث إلى أسبابها القريبة المادّية، فإن السببية طولية لا عَرْضية، أي أن السبب القريب سبب للحادث، والسبب البعيد سبب للسبب، كما لا ينافي توسّطهم واستناد الحوادث إليهم استناد الحوادث إليه تعالى وكونه هو السبب الوحيد لها جميعاً، على ما يقتضيه توحيد الربوبيّة، فإن السببية طولية كما سمعت لا عَرْضية.
فمثل الأشياء في استنادها إلى أسبابها المترتّبة القريبة والبعيدة وانتهائها إلى الله سبحانه بوجه بعيد، كمثل الكتابة يكتبها الإنسان بيده وبالقلم، فللكتابة استناد إلى القلم ثم إلى اليد التي توسّلت إلى الكتابة بالقلم، وإلى الإنسان الذي توسل إليها باليد وبالقلم، والسبب بحقيقة معناه هو الإنسان المستقلّ بالسببية، من غير أن ينافي سببيّته استناد الكتابة بوجه إلى اليد وإلى القلم)(1).
 ____________________
 (1) الميزان في تفسير القرآن: ج20 ص 183.

  • جديد المرئيات