الأخبار

المعرفة الإلهية

إنّ السرّ الكامن وراء أصل الخلق هو حصول المعرفة. وحيث إنّ المعرفة المعلوماتية لا تتجاوز دائرة الذهن والوجود الصوريّ، فإنّها لا يمكن أن تكون مقصودة أوّلاً وبالذات؛ لعدم تحقّق الهدف الإلهيّ الغائيّ الذي يجعل الإنسان العارف على مقربة من الكمال المطلق، ولكن دون الإحاطة به. 
إنّ المعرفة الواقعة هدفاً أوّليّاً لإبداع الخلق هي المعرفة التحقّقية لا التحقيقية(1)، أي: تلك المعرفة التي تمنح المتحقّق فيها سقفاً وجوديّاً حقيقيّاً آخر قد يُعبَّر عنه أيضاً بالوجود السِّعي، وهذا السقف المعرفيّ تعجز المعرفة الصورية عن منحه تماماً. 
بعبارة أخرى: إنّ السير المعرفيّ الذي يمنح الإنسان إيماناً وطمأنينة وقُرباً وسعة وجودية هو السير المعرفيّ التحقّقيّ الذي به يتحقّق العارف نتيجة انفتاحه على العوالم المعرفية الوجودية خارج إطار الذهن. 
ولا ريب أنّ شطراً عظيماً من هذا السنخ المعرفيّ متحقّق لدى الأعمّ الأغلب من الناس، إلاّ أنّ دائرة الغفلة قد أُطبقت على منافذ القلوب فأصمّت آذانها وأخرست ألسنتها وفقأت أعينها، وهذا السقوط المعرفيّ تختلف مراتبه كما هو حال اختلاف مراتب الحصول على السنخ المعرفيّ. 
فبعض قد صارت الغفلة عين وجوده لا عارضاً عليه، فصار الصممُ سمعَه والبكمُ نطقَه والعمى بصرَه. 
وبعض قد فتح نافذة في جدار الغفلة وأطلّ منها على قليل من الصحو فأشار بوجوده الصحويّ هذا نحو إشراقات يجهل لغتها وسرّها ونجواها. 
وبعض دخل أبواباً سترَتْها الغفلةُ عنه من قبلُ فأبصر حقّاً وثبّت قدماً في أُفق التوحيد، فتنفّس الصُّعداءَ ومزّقَ حجبَ الظُلمة، ولكن مزّقته حجب النور، ذلك من بقي شيء من إنّيّته، يتحرّك قلبه وفيه رواسب من غَيريّته. 
وبعض ممّن شمخ بسيره فغادر الكلّ إلى الكلّ وطوى الظلّ إلى ذيه، فصار المقصود حاضراً له في كلّ مشهود، فأينما تولّى يُبصر وجه الحقّ سُبحانه. 
إنّ هذه المراتب الجامعة ـ التي تكمن بينها مراتب كثيرة ـ تُسجِّل لنا بقوّةٍ حقيقية السير المعرفيّ بمعناه التحقّقيّ لا التحقيقيّ، سواء كان باتجاهه الإيجابيّ أو السلبيّ. 
إنّ هذين النمطين المعرفيّين وما يكمن فيهما من مراتب، يُعدّ إبرازهما والوقوف على حقائقهما من الضرورات القصوى، حيث يتعيّن على كلّ إنسان الوقوف عندهما مليّاً وجليّاً ليتميّز له الخبيث من الطيّب ويتبيّن له الخيط الأبيض من الخيط الأسود، فيكون على بيّنة من أمره. 
ولا ريب أنّ مجموع الدراسات العَقَدية تُبرز لنا ـ بقوّة ـ جملة من مراتب النمط التحقيقيّ البرهانيّ، وتغفل في مجمل مطالبها النمط التحقّقيّ الشهودي إلاّ بإشارات ضئيلة جدّاً قد لا تُسمِنُ وَلا تُغنِي مِن جوع. 
إنّ هذا السمت المعرفيّ لا تبتعد عنه كثيراً مجموعُ الدراسات الفلسفية التقليدية(2)التي تبذل جهدها في البرهنة العقلية، وهي محاولة ترميمية حاولت من خلالها معالجة إخفاق المتكلّمين في إعطاء رؤية كونية إلهية كاملة، إلاّ أنّها أخفقت هي الأُخرى حين بقيت حبيسة إجابات قاصرة تبعاً لقصور العقل عن نيل تلك الحقائق. 
إنّ هذا السِّفر الجليل (معرفة الله) يحاول الإسهام في تأسيس معرفيّ في موارد، والتركيز في موارد أُخرى على أهمّية إعادة النظر في التركيبة والسير المعرفيّ الكامن وراء ما ينتهي إليه الإنسان الموحّد في الرؤية الكونية الإلهية. 
وقد حاول هذا الكتاب التركيز كثيراً على أصالة هذه الرؤية من القرآن الكريم والسنّة الشريفة، وليس ذلك دفعاً منه لدخل مقدّر! وإنّما هو حقيقة ينطق بها الشارع المقدّس آناء الليل وأطراف النهار. 
وحاول أيضاً دفع عجلة القارئ المتخصّص نحو إشارات ولطائف ظهر بعضها وكمُن بعضها الآخر ؛ لتكون رحلة قراءته تأمّلية أكثر ممّا هي تلقينية.
ولا ريب أنّ الرحلة المعرفية إذا ما نحتْ بقدم تأمّلية فإنّها سوف تُسجِّل نجاحات باهرة، شريطة أن يواكبها صفاء قلبيّ وتوفيق إلهيّ، وإلاّ فالجعبة الممزّقة لا تُبقي من المتاع شيئاً. 
إنّ الغاية المعرفية التي يحاول الكتاب الوصول إليها والوقوف عندها مليّاً هي بعينها غاية البحث العَقَدي المرتبط فطريّاً بوجود الإنسان، وهي الوصول إلى أعلى المراتب الكمالية لا مجرّد حصول اتّزان معرفيّ، وإن كان الاتّزان هو نوع كمال مطلوب بنفسه إلاّ أنّه لا يملأ مساحة هدفية وجود الإنسان، فالهدف هو أن يتحقّق الإنسان في سيره المعرفيّ بأعلى مراتب الكمال التي تُضيّق دائرة إمكانه لتفتح أمامه آفاقاً جديدة تغطّي سعته الوجودية في سقفها الجديد اللايقفي، وهذا تعبيرٌ آخر عن القرب الإلهيّ الذي لا يعني الوقوف عند مرتبة بعينها، فكلّ تحقّق كماليّ جديد هو قُرب جديد من الكمال المطلق، والعكس بالعكس تماماً. فليس البُعد والقرب زمانيّين أو مكانيّين بمعناهما العُرفيّ، وليسا (3) ـ لو قطعنا النظر عن الزمكان ـ قرباً وبُعداً وجوديّين بمعنى اقتراب أو ابتعاد وجود الإنسان عن وجود الله تعالى، فهذا توهّم محض، بل هو خطأ فاحش في فهم حقيقة التوحيد، وإنّما هما القُرب والبُعد الكماليّان. فكلّما كان الموجود الإمكاني متحقّقاً بأكبر قدر ممكن له من الكمالات، فهو الأقرب إلى الكمال المطلق. فإذا ما عُبّر عن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله بأنّه أقرب الخلق إلى الله تعالى فذلك تعبير آخر عن أشدّية كمالاته الشريفة ورُقيّه المعرفيّ . 
جديرٌ بالذكر أنّ هذا الكتاب لا يتكفّل بإيصال القارئ إلى تلك المراتب أو بعضها، فذلك لم يقع هدفاً للكتاب. هذا فضلاً عن كون هذا الأمر مرتبطاً بما ينطوي عليه الشخص من رُقيّ فكريّ وصفاء قلبيّ وخُلوص في النيّة، ناهيك عن كون ما نحن فيه هو مقام إثباتيّ لا ثبوتيّ، ومن الواضح أنّ حيّز الوصول والتحقّق بشقّه الثاني هو الثبوت لا الإثبات. 
نعم، يحاول الكتاب أن يفتح أمامنا نوافذ عديدة يطلّ من خلالها على طلائع وبوادر السير المعرفيّ في شقّيه الذهني والقلبي. 
بعبارة أُخرى: إنّها محاولة للتعريف بأبجدية قراءة السير المعرفيّ في شقّيه لاسيّما الثاني، ولكنّها أبجدية تتمتّع بمستوى رفيع من النضج والتأثير، وهو هدف سامٍ بحدّ ذاته، إلاّ أنّ هذا لا يعني انحصار أهداف الكتاب به؛ فللكتاب أهداف أُخرى صميمية أهمّها شدّ أواصر القارئ بالقرآن الكريم والسنّة الشريفة، كما أنّه عمِلَ على فتح نوافذ عديدة لإعادة قراءة جملة من القضايا الأساسية والمصيرية في حياة الإنسان أهمّها معرفة الله تعالى وتوحيده حيث سعى للوقوف على أهمّ مفاصل هذه المعرفة ببُعدها التحقّقيّ تاركاً الأبواب مُشرعة أمام السائرين في هذا المسار ليقرؤوا من خلاله بعض ما هم عليه. 
ولم يغفل الكتاب أهمّية إغناء القارئ ـ بمختلف مستوياته المعرفية والذهنية ـ برصيد معرفيّ ينبغي لطالب المعارف الإلهية والإنسانية بآن واحد، فأسهم في ذلك بنحو معتدّ به. ولا ريب أنّ هذا الإسهام المعرفيّ تختلف دائرته ـ سعةً وضيقاً ـ بحسب الأوّليّات التي توفّر عليها القرّاء الكرام، لذا سوف يجد بعضهم أبواب الفهم مشرعة أمام جُلّ مطالب الكتاب أو نصفها، ويجدها مغلقة أمام مطالب أُخرى اقتضى بعضها الاستتار؛ اكتفاءً بالإشارة لا بالإشهار، واقتضت المصلحة في بعضها الآخر نحواً من الإسرار.
ولعلّ من الأُمور الجليلة التي سيلمحها القارئ الكريم في (معرفة الله) الارتقاء المعرفيّ والترتّب الطوليّ في عرض المقدّمات والوصول إلى النتائج. 
وهذا الارتقاء المعرفيّ الذي يقع في جملة أهداف الكتاب، يقودنا هو الآخر مرّةً أُخرى ـ بل يضطرّنا ـ إلى استجلاء الهدف الأساسيّ من خلق الخلق عموماً والإنسان خصوصاً بنحو من التفصيل يُناسب المقام. 
إنّ من الثابت في محلّه اختلاف وجهات النظر في تحديد الهدف الأساسيّ من وجود الإنسان. فبعضٌ يرى أنّه منحصر بالعبادة؛ وفقاً لقول الله تعالى: ((وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ))(4)، وبعضٌ آخر يرى أنّه قد وُجد بغية تحصيل الكمالات، وبعض آخر يرى أنّ الهدف معرفيٌّ خالص؛ وفقاً لمؤدّى الحديث القُدسيّ ((كنت كنزاً مَخفيّاً، فأحببتُ أن أُعرف؛ فخلقت الخلق لأُعرف))(5). 
الظاهر لنا في المقام: أنّ هذه التوجيهات هي تعابير مختلفة لمقصود ذي مراتب مختلفة، وهو التحقّق المعرفيّ بمعناه الوجوديّ التكوينيّ لا الصوريّ، وهذا ما يُحاول الكتاب إثباته بصورة مباشرة أو غير مباشرة في جُلّ مطالبه. 
فالهدف معرفيّ تحقّقيّ خالص يُمثِّل حاجة إنسانية فطرية لا كسبية. بعبارة أُخرى: إنّ السير المعرفيّ ليس أمراً عارضاً على وجود الإنسان وإنّما هو ضرورة منبثقة من أصل وجوده. 
وهذه الحاجة تحديداً ـ المعرفة التحقّقية ـ هي الحدّ الفاصل بين التوحيد والشرك والإلحاد، فمن تحقّق بها كان موحِّداً، ومن أخطأ في تحديد مصداقها كان مُشركاً، ومن أنكرها رأساً كان مُلحداً. وفي كلّ مرتبة من هذه المراتب الثلاث ـ التوحيد والشرك والإلحاد ـ مراتب لا حصر لها. 
وما نفهمه هو أنّ الإنسان ما دام طالباً لتلك المعرفة التحقّقية فهو خارج عن دائرة الإلحاد، وكلّ إنسان سائر معرفيّاً ولم يقف أو يعيّن ما وصل إليه فهو خارج عن دائرة الشرك، وبذلك تكون دائرة التوحيد هي أوسع الدوائر قاطبةً. 
إنّ الهدف الغائيّ بطبيعته لا يمكن الوصول إليه؛ لقصور في السائر لا في السير ولا في المسير إليه، وهو ما يُعبّر عنه أيضاً بقصور القابل لا الفاعل. 
فإذا تحقّق الإنسان معرفيّاً بمرتبة من مراتب المعرفة الحقّة واعتقد أنّه بلغ غاية المطاف فهو واقع في مرتبة من مراتب الشرك، بنحو من الأنحاء. وحيث إنّه لا يُوجد عادةً من يدّعي الوصول إلى غاية المطاف (ما عرفناك حقّ معرفتك)(6)، فإنّه سوف يخرج بديمومة سيره المصحوب بالإقرار بعجزه، وبذلك ـ لا غير ـ يخرج عن دائرة الشرك ليدخل أو يبقى في دائرة التوحيد الحقّيّ، وهذا ما قصدناه من السطور السابقة والتي سوف تتّضح فكرته بنحو أفضل وأشمل في مطاوي الكتاب. 
إنّ الدافع الغيبيّ أو الحركة الاضطرارية التي تنحو بالإنسان باتّجاه السعادة الحقيقية التي تملك وجدانه وتتحكّم به لهي صمّام الأمان الذي يُحافظ ـ قدر الإمكان ـ على الإعدادات الأوّلية في تركيبة الإنسان وفطرته، أعني: فطرة التوحيد. فإذا ما حصل انحراف في مسار الفطرة لوجود إغراءات ظاهرية أو اجتهادات عقلية حاولت السير بقدم واحدة، فإنّ الوجدان والفطرة سوف يُعبّئان كلّ صوت ليهتف بالإنسان إلى وقت العروج، ولكن هذه النداءات كثيراً ما تفتقد القدرة على التأثير نتيجة التراكمات المادّية، ومن هنا تبرز الحاجة الملحّة في تصفية القلب وتطهير الروح من تلك الأدران المادّية التي تحوم حول النفس مُشكِّلة دوائر مانعة عن استجلاء حقائق الوجود برمّته. 
والذي نعتقده في المقام هو أنّه لا تُوجد روح أو نفس إنسانية شرّيرة وأخرى خيّرة في أصل خلقتها، فالروح خيرٌ محض ((وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي))(7)، وإنّما هي تمحّلات وغشاوات ورين يُغيّب فيها الإنسان فطرته الأُولى وتحجبه عن إبصار حقيقته خصوصاً والكون عموماً. 
قال الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله: ((لولا تَمزّع قلوبكم وتزيّدكم في الحديث لسمعتم ما أسْمع)) (8). 
وعنه صلى الله عليه وآله أيضاً: ((لولا أنّ الشياطين يحومون على قلوب بني آدم لنظروا إلى الملكوت))(9). 
فالروح طاهرة مُطهّرة في أصل خلقتها ولكن أغشية الزيغ والتمزّع بأوحال التمرّد والأنا تُلقي بالإنسان من حضيرة القدس إلى براثن الدنس. 
((اللّهمَّ ألهمنا طاعتك، وجنّبنا معصيتك… واكشف عن قلوبنا أغشية المرية والحجاب))(10). 
إنّ أصل طهارة القلب وخيرية الروح من دواعي السير نحو الوصول إلى الفطرة الأُولى والعلم الأوّل (11) الذي لا يحتاج الحصول عليه إلى درس وكسب بقدر ما يحتاج إلى التفات ويقظة وانتباه من سكرة النوم قبل الانقضاء والفوت. 
ولا ينبغي الإغفال عن كون العبادات والرياضات الشرعية غير مقصودة لذاتها وإنّما هي وسائل تطهيرية رسمها لنا الشارع المقدّس لابدّ منها ولا بديل لها البتّة، بها تنجلي الغبرة عن أصل الأُصول وفصل الفصول وغاية غايات المعقول والمنقول والمشهود ومنتهى الكمال الإمكانيّ في وجوده الظاهريّ وهو التوحيد الحقّي الذي به يصير الوجود طُرّاً، ظاهراً وباطناً، حاضراً وغائباً، ناطقاً وصامتاً، أوّلاً وآخراً، سابقاً ولاحقاً، عامّه وخاصّه، حيث يهتف بوجود الحقّ سبحانه، وعندئذ يُبصر العابد معبوده، ويُدرك بالحقّ معنى وجوده، وتصير روحه الطاهرة المطهّرة معلّقة بعزّ قُدسه. 
إنّ العقيدة الحقّة هي التوحيد الحقّ المقتضي للإيمان بالنبوّة والمعاد، وهذا التوحيد الحقّ سُلَّمه ومسيره المعرفيّ الحقّ هو ما اصطلح عليه في هذا الكتاب بالسير التحقّقي أو المعرفة التحقّقية لا التحقيقية. فإذا كانت العقيدة حاجة وضرورة إنسانية مُلحّة وثابتة تؤمّن للإنسان السويّ الوصول إلى أعلى مراتب الكمال الذي لا يمكن نيله إلاّ بقدم توحيدية خالصة، فإنّ السير المعرفيّ الحقّي سوف يُمثِّل حاجة وضرورة إنسانية مُلحّة تؤمّن للإنسان السائر معرفيّاً الوصول إلى حقيقة الوجود برمّته. 
فالحقيقة الحقّة هي التوحيد الحقّ، والتوحيد الحقّ هو المعرفة الحقّة، والمعرفة الحقّة هي المعرفة التحقّقية لا التحقيقية، وإن كانت المعرفة التحقيقية لها مرتبتها وشرفها، ولكن أين صورة المشهود من عين الشهود؟
لقد حاول هذا الكتاب أن يُقدِّم إلى جنب رسالته المعرفية ورافديّته للثقافة العامّة والخاصّة فرصاً عديدة للتأمّل وآفاقاً جديدة لجملة من الأحاديث الشريفة التي اعتيد قراءتها بسقف معرفيّ محدود جدّاً، ولعلّ من أبرزها المرويّ عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام: ((اللّهمَّ عرّفني نفسك…)) (12) ، حيث لفت الكتاب إلى نُكات بكْر، بل لا تكاد تجد مورداً روائيّاً إلاّ وقد أُبرز فيه نكتة أو نُكات خفيّة جديرة بالاهتمام، بل لا تكاد تعدم ذلك في مجمل الآيات القرآنية الوارد ذكرها في الكتاب، حيث قدّم في جملة منها سقفاً معرفياً رفيعاً وقريباً جدّاً من الوجدان مُستمدّاً من نفحات أهل البيت عليهم السلام. 
وهذا النتاج المعرفيّ الإبداعيّ يُضمّ إلى ما تقدّمت الإشارة إليه من خصوصيّات وأهداف هذا السفر الجليل. 
ينبغي الإشارة أيضاً إلى الأصل الذي اعتُمد في خطّة عمل هذا الكتاب ومنهج العرض فيه، حيث اعتمدنا مبدأ اليُسر والتيسير في عرض مطالبه العلمية بأكبر قدر ممكن؛ وذلك رغبةً منّا بالوصول إلى أوسع دائرة ممكنة من القرّاء الكرام مهما اختلفت مشاربهم وأذواقهم ومعارفهم ومقدّماتهم المعرفية، إيماناً منّا بضرورة وحتميّة الوصول إلى معارف ومنابع أهل العصمة وشجرة العلم الأُولى وعيبة علم الله تعالى أهل البيت عليهم السلام، ثمّ إيصالها إلى الناس كافّة؛ قال تعالى: ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ…))(13). إنّه خطاب عامّ لا يخصّ طبقة دون أخرى، وسوف يتّضح لنا في تفصيلات الفصل الثاني من الكتاب أنّ المقصود الأبرز من العبادة هو المعرفة، فيكون المفاد خطاباً لكلّ الناس ليعرفوا ربّهم، ولذا لم يُبعث الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله لفئة دون أخرى، وإنّما هو مبعوث للناس أجمعين ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ…)) (14)، بل هو مُرسل ومبعوث للخلائق أجمع ((وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ))(15 ). 
وهكذا حمل الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله رسالته ينطق بالحقّ ((وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بـِضَنِينٍ))(16)، فكان حقّاً رحمةً لهم، وقد أمره المولى أن يُعرّف نفسه للناس بذلك: ((قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً..))(17 ). 
ونحن جميعاً لنا في رسول الله صلى الله عليه وآله أُسوةٌ حسنة حيث نشر العلم وتعليمه، فلم يقبض صلى الله عليه وآله كفّاً ولم يكتم حقّاً، فكان شعاره التوحيد وحكمته التعليم ولسانه: اقرأ. 
ولست أدري من أين جاء الشحّ في العلم ونشره؟ وكيف ينسجم ذلك مع الترويج للمعارف الإلهية؟ أو ليس ((جمال العلم نشره))( 18)؟ ولا ينقضي العجب ممّن يرى الشحّ حكمة والكتم ضرورة فيسلك سبيل المنع ويقطع سبيل المعروف. 
ونشر العلم وتعليمه لا يعنيان عدم توخّي التدرّج في التعليم ونشره، فشتّان بين التدرّج وبين المنع، فالأوّل حكمة وحنكة وعلم بخلاف الآخر. 
على أيّ حال، فقد حاولنا في (معرفة الله) إيصال مواضيعه إلى مسامع الناس أجمعين، وكلٌّ بحسبه، وقد توخّينا مخاطبة الوجدان أكثر من مخاطبتنا للعقل، لا لقصور التالي وإنّما لجامعية الأوّل، فليس كلّ الناس يأنسون بالمقدّمات والنتائج البرهانية رغم أهمّيتها، إلاّ أنّ الوجدان والحسّ المشترك في الجميع هو الأقرب في الجذب والدفع، ولذلك ارتأينا اعتماد الخطاب الوجدانيّ في الجانب الروائيّ خصوصاً لما يُوفّره من أُنس ورغبة ودافعية كبيرة لتلقّي المطالب العلمية وصولاً إلى هدفنا السامي الكامن في حقيقة التوحيد والمعرفة الحقّة. 
جديرٌ بالذكر أنّ مادّة الكتاب الأُولى كانت عبارة عن مجموعة محاضرات ألقاها سيّدنا الأُستاذ كمال الحيدري (دام موفّقاً) في مناسبات عديدة، منها ما كان في محضر الدرس وأُخرى في محضر النصح، حاولنا من خلال تتبّع دقيق وعمل دؤوب إبرازها بهذا الشكل وهذه الحُلّة التي بين أياديكم الكريمة. 
وقد اقتضى منّا ذلك مقداراً من الإضافة والحذف وإعادة تنظيم وترتيب وتوحيد للمواضيع المترابطة، وإدخال جملة من التفريعات المبتنية على الأصل, وإثارة تساؤلات مفصلية غذّت البعدين المعرفيّ والمعنويّ في الكتاب, فضلاً عن تصدير الأدلّة والشواهد وتحقيق المطالب ضمن حدود سقفنا العلميّ والتحقيقيّ. 
وسوف يقف القارئ على جملة من التوضيحات والتعليقات الفنّية والعلمية التي حاولنا من خلالها تقريب مقاصد أبحاث الكتاب, وسيجد القارئ أيضاً تعليقات يسيرة للسيّد الأستاذ أشرتُ إليها بكلمة (منه). 
وأخيراً أسأل الله سبحانه وتعالى أن يتقبّل هذا اليسير وأن يجعله عملاً صالحاً تقرُّ به العيون، ودعوة مستجابة تسكن إليها القلوب، وأن يكتب لنا بإحسانه أجراً جزيلاً ويُضاعفه وهو خير المحسنين ويرفع أجره برحمته كاملاً إلى سيّدنا ومولانا أمير المؤمنين وسيِّد الموحِّدين الإمام عليّ بن أبي طالب عليه السلام. 
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.
ــــــــــــــــــ
(1) سوف يأتي بيان هذين الاصطلاحين في بحث معرفة الله (الفصل الثاني).
(2) المقصود بذلك هو خصوص الفلسفة الإسلامية وحكماؤها، أمّا سواهم فغير معنيّين بذلك البتّة، ولذا فهم خارجون عن حريم البحث تخصّصاً.
(3) كما نعتقد.
(4) الذاريات: 56.
(5) شرح أصول الكافي للمولى محمد صالح المازندراني: ج1 ص 22.
(6) من دعاء للرسول الأكرم صلى الله عليه وآله، انظر: بحار الأنوار للشيخ محمّد باقر المجلسي، مؤسّسة الوفاء، الطبعة الثانية المصحّحة، 1983م، بيروت: ج66ص292.
(7) الحجر: 29.
(8) ميزان الحكمة للشيخ محمد الري شهريّ، نشر وتحقيق دار الحديث، الطبعة الأولى، 1416 هـ : ج3 ص 2605 ح 16956.
(9) المصدر السابق: ج3 ص 2604 ح 16945.
(10) من مناجاة المطيعين، للإمام زين العابدين عليه السلام.
(11) سوف يأتي بيان ذلك في الفصل الثاني من الكتاب .
(12) الأصول من الكافي، لأبي جعفر محمد بن يعقوب الكليني الرازي، دار الكتب الإسلامية، الطبعة السادسة، طهران: ج 1 ، ص 337 ، ح 5 .
(13) البقرة: 21.
(14) النساء: 170.
(15) الأنبياء: 107.
(16) التكوير: 24.
(17) الأعراف: 158.

(18) حديث لأمير المؤمنين عليّ عليه السلام، انظر: غرر الحكم ودرر الكلم، عبد الواحد الآمدي، تحقيق السيد جلال الدين الآرموري، نشر جامعة طهران، الطبعة الثالثة: ج1، ص 370، ح37.

  • جديد المرئيات