الأخبار

العلامة الحيدري، التغيير، واستحقاقات المرحلة (2)

العلامة الحيدري، التغيير، واستحقاقات المرحلة
التأصيل العقائدي نموذجاً (2)
الشيخ ميثاق العسر
التغيير على مستوى الخطاب
الخطاب يتلون تبعاً لمستوى المخاطب، فما يُخاطب به الجمهور ينبغي أن يكون بسيطاً ساذجاً؛ كي يفهمه بسلاسة دون تعقيد، كما أنَّ الخطاب التخصصي يمتاز بلغة خاصة لا يعرفها إلا أصحابها، مع ضرورة الحفاظ على وحدة الخطاب النوعية بمقوماتها الذاتية.
إنَّ التأسيس للمشتركات الأبستومولوجية أحد أهمّ العوامل التي ينبغي أن يُؤسس الخطاب السليم عليها، فما لم يُؤسس لمشتركات بين الأنا والآخر ـ تجعل الأنا يقبل من الآخر وكذا العكس ـ لا يمكن أن يصاغ خطاب صحيح على الإطلاق، وتبقى الحوارات تدور في حلقة فارغة، فهي أشبه بالجدل المعلوم النتائج مسبقاً.
وجراء عدم وجود التأسيس الابستومولوجي الصحيح لم نلحظ اهتماماً من العلامة الحيدري للدخول في جدل أو حوار طائفي أو ما شابه ذلك؛ لعدم اعتقاده بوجود المشتركات المعرفية أصلاً، أو وجودها مع تعدد الأفهام المتغايرة فيها، فيؤمن كل طرف بجواز الاستناد إلى ما لا يعده الطرف الأخر مرتكزاً سليماً يصح الاستناد عليه.
هذا الأمر يؤدي إلى حوار فارغ لا يولّد سوى البغضاء والشحناء بين الأطراف، وليونة عريكة أي طرف لا تؤدي بالحوار إلى نتائج موفقة. والحوارات الدائرة بين الأطراف دون هذا التأسيس المعرفي بين يديك للمحاكمة.
المرحلية الخطابية عامل أساسي آخر في خطاب الحيدري، فقد رحل الزمن الذي كانت تقتصر مفردات الخطاب فيه على المفردات التاريخية والاجتماعية والتربوية والنفسية، بل يرى الحيدري ضرورة صياغة خطاب تشكلُ مفرداته من البحث العقائدي أولاً ـ بعد التأسيس للمشتركات الابستمولوجية ـ ومن ثمَّ الانتقال إلى المفردات الأخرى. فما لم يضمن المخاطِب استعداد مخاطَبِه لتقبل ما يقول يضحى خطابه مع كل مفرداته عبثاً لا طائل من وراءه.
لقد بقي خطابنا الشيعي ـ على المستوى العقائدي بشكل خاص ـ يراوح مكانه دون أخذ المرحلة وتطور أفرادها بعين الاعتبار، إذ بقي بتلك اللغة القديمة المؤثرة في زمانها لتناسبها معه، من غير أن يعكف لتأسيس خطابٍ جديدٍ يتناسب مع هذه المرحلة، ويأخذ بعين الاعتبار الاستحقاقات الملحة التي تطرأ وتفرض نفسها كإشكاليات تستدعي الحلَّ المناسب لها.
إنَّ فكرة التعذر من عدم طرح الخطاب العقائدي السليم بدعوى أنَّ ذلك إسفافاً لا يفهمه الجمهور خاطئة ـ في رأى الحيدري ـ ، فقد كنا ولا زلنا وجلين من طرح الخطاب العقائدي المؤَسس ـ وفقاً لثوابتنا ـ خوفاً من المحاذير المتقدمة حتى بدأت القواعد تهتز واحدة تلو الأخرى، جراء عدم التعبة والتأسيس الصحيح.
من هنا فلم يوجّه العلامة الحيدري خطابه للجمهور بالدرجة الأولى، بل وجهه لذوي الاختصاص الذين ينبغي عليهم معرفة عمق منهجنا وعمق مفرداته، فالمرحلة تقتضي أن يفهم الآخر فكرنا وثوابتنا، فيفهم الحقّ والحقيقة من دون لبس ودغش.
تأسيساً على هذا، رأى الحيدري ضرورة التشكيك الخاصي في الخطاب، يعود ما به الامتياز منه إلى ما به الاشتراك، ففي عين الوقت الذي يُمارس فيه (X) خطاباً عقائدياً يتناسب فهمه مع طبقة خاصة دون أن يفقد حالته الخطابية الواحدة، يمارس (Y)  أيضاً خطاباً عقائدياً أعلائياً يتناسب مع طبقة أعلى، مراعين في ذلك روح هذا الخطاب الواحدة منهجاً ومفرداتً..
وخروج العلامة الحيدري على الفضائيات والإذاعات المحلية والدولية يعتبر ترسيخاً لهذه الضرورة، حيث قام بطرح خطابه العقائدي الأعلائي إلى المتخصصين؛ ليعرفوا عمق ما توصلت إليه مدرسة أهل البيت ‘في مثل هذه الميادين. على أنَّ هذا اللون من المنهج الخطابي يحتوي على مضار متعددة علينا ملاحظتها.
نحن بأمس الحاجة ـ والكلام للحيدري ـ في الوقت الراهن إلى أهل تخصص في الحقل العقدي، يبعدون من لا علم له ولا معرفة من الحديث في أبواب هذا الحقل، ويؤول الناس إليهم عند كل شاردة وواردة في هذا المجال، بذلك نحافظ على الإيمان والتثبت المطلوب في أصولنا العقائدية، مدللين على ذلك بوجوهٍ مبرهنة لا مرية فيها.
أما إذا ترك المجال مفتوحاً ـ كما هي بوادره في الوقت الحاضرـ لكل من هبَّ ودبَّ، فسوف تعيش الأمة ضياعاً منقطع النظير، لا تجد ركناً وثيقاً تؤول إليه إلا الادعاءات الفارغة التي تتمسك ببعض الأمور الخرافية الباطنية غير المدللة، وهذه نهاية محتمة للعلم والقول الصحيح.
استخدام المنهج والمفردات السليمة آية كل مختص يريد الدخول للبحث العقدي ليؤسس خطاباً موفقاً اجتهد في مبادئه، وله حق الدفاع عنه عند الاحتكام. فلكل باحث حق الدخول في هذه الميادين، شريطة أن يمتلك أدوات معرفية سليمة يفهم أفقها، ويجيد استخدامها في تحصيل الموقف العقائدي السليم.
ملاحظات ختامية
لعل من أهم الأسباب التي حدت لعدم تطور البحث العقدي هو فتوى الفقهاء الشهيرة بعدم جواز التقليد في أصول الدين، فقد أبقت هذه الفتوى الجمود يعشعش داخل المعرفة العقائدية، وبالرغم من كثرة التساؤلات التي تطرحها الأمة، إلا أنَّ الإجابات عليها ضلت يكتنفها المزيد من الغموض في التأصيل والتقعيد.
تأسيساً على ما تقدم نرى: بأنََّ الدعوة لإجازة الرجوع إلى المجتهد العقائدي الجامع للشرائط ضرورة ملحة سوف تلقي بظلالها المعرفية على كثير من الحقول الفكرية الأخرى، وتساهم بشكل وبآخر في تطوير عديدٍ من  القطاعات العلمية.
لعلنا لا نجازف إذا ما قلنا بأنَّ كتابة رسائل عملية عقائدية مفهوم ينبغي أن يدخل حيز المفكَّر فيه، ليتم الانتقال به ـ بعد ذلك ـ إلى حيز التنفيذ، وفقاً لضوابط المنهج التي دعا الحيدري إلى إرسائها.
إنَّ صدورنا تتسع لسماع أي إثارة وتساؤل في كل حقول المعرفة العقائدية، شريطة أن تتحلى هذه الإثارات والتساؤلات بروح البحث المعرفي الخالص، بعيداً كل البعد عن روح الإثارة لأجل الإثارة فقط، من غير أن يكون هاجس التأصيل النظري هو المقياس الذي تُطرح هذه الأمور على أساسه.
إننا إذا أردنا أن نعطي براءة نية للاستيضاحات المعاصرة التي تطلق من خارج حريم الدائرة الواحدة، فإننا لا يمكن أن نعطي براءة ذمة للاستيضاحات الداخلية التي تنطلق على شكل تساؤلات يُراد لها التأثير على واقع الأمة العقائدي، دون الأخذ بعين الاعتبار ضرورة حصرها بين المتخصصين؛ كي يجدوا الإجابة الشافية لها.
إنَّ فتح الباب أمام المراكز العقائدية المؤسَّسة للعمل المنظم ـ وفقاً للمنهج المزبور ـ كفيل بإيصاد الباب أمام طرح مثل هذه الإثارات غير المبرّرة. إثارات تريد الوقيعة بين أبناءنا الذين تعمقت العقائد في أفكارهم، ولا سبيل إلا للمعرفة والعلم الصحيح لاقتلاعها.
إننا نتطلع لرؤية اتساع رقعة تطبيق هذه الدعوة إلى جميع زوايا البحث العقدي ومرتكزاته، وتحديدها ـ عملاً ـ بزاوية واحدة أو زوايتين لا يوافق عليه البحث المعرفي، فإنَّ تمامية أي نظرية منوطة بإعطائها الحلول المناسبة لكل الإشكاليات.
كما نتطلع أيضاً أن نشاهد علم أصول الاستنباط العقائدي مكتوباً ومحرراً بقواعد مبرهنة في القريب العاجل بإذنّ الحكيم المتعال، نسدُّ بذلك باب التخبط العقائدي الذي بدأ يدبُّ في جسد أمتنا ـ جراء عدم وجود التأسيس المعرفي الصحيح ـ  لاستنباط الأحكام العقائدية، وضرورة حصر هذا الاستنباط بأيادي المتخصصين.
لا ننسى أن نؤكد في نهاية هذه الأسطر بأنَّ الدعوة التي بدأها علامتنا الحيدري لن يُكتب لها النجاح الكامل ما لم تستطع إبراز التبرير المعرفي لمنهجها ومفرداتها وخطابها، ومن غير إبراز هذا التبرير تمسي عملية التبشير لها والدعوة إليها خالية من التنجيز والتعذير الموضوعيين.

وأخيراً ونحن قد طرحنا عنوان التغيير كمحورٍ لبحثنا، نجد من الوفاء استذكار الروح التغييرية للفقيه الكبير، والراحل الشهيد السيد محمد باقر الصدر +. لقد حملت هذه الروح التغيير  في ثناياها خشبةً تبحث عن من يصلبها عليها، وشاءت الأقدار أن تطال يد الغدر والخيانة روح الراحل الشهيد، فكان بحقٍ شهيد التغييِّرين.

  • جديد المرئيات