القرآن َيعدّ المعجزة برهاناً على صحّة الرسالة لا دليلاً عامياً
مرّ علينا أنّ الدليل القطعي لإثبات النبوّة هو إقامة المعجزة على يد مدّعي الرسالة أو النبوّة، إلاّ أن الجدير بالبحث في هذه الفقرة هو أنّ دعوى النبيّ أو الرسول تتوافر على حقيقتين، هما:
الأولى: الارتباط بالله سبحانه وتعالى وأنّه يوحى إليه من السماء.
الثانية: ادّعاء صحّة المعارف التي يخبر عنها بواسطة رسالته التي أتى بها من الله عزّ وجلّ كمعارف المبدأ والمعاد وأصول التوحيد وقوانين الأخلاق والفضائل وغيرها.
في ضوء هاتين الحقيقتين يثار السؤال الآتي:
ما هو الغرض الذي تضطلع به المعجزة؟ أهو إثبات الحقيقة الأولى أم الحقيقة الثانية؟
أيريد النبيّ إثبات اتصاله بالسماء فقط من خلال المعجزة، أم إنه بصدد إثبات حقانية المعارف التي يتكلّم بها عن طريق الوحي؟ يضعنا هذا السؤال أمام باب كبير لابدّ من فتحه والدخول إلى فناء إحدى الظواهر التي انبثقت منذ فجر الإنسانية، ألا وهي ظاهرة النبوّة، والسفارة عن السماء.
لكي نميط اللثام عن حقيقة هذه الظاهرة التي غيّرت تاريخ البشرية في كثير من حقب الزمان وأحدثت تحوّلات ضخمة على طول مسير الحياة الإنسانية، وبالاستناد إلى حقيقة النبوّة والسفارة الإلهية، يمكننا الاقتراب وبشكل كبير من جواب السؤال المطروح في هذه الفقرة. في هذا الباب ذكر المحقّقون أنّ العقل لا يرى تلازماً بين صدق الرسول في دعوته إلى الله سبحانه واتّصاله بالسماء، وبين صدور أمر خارق للعادة على يديه، بل يظهر ذلك من القرآن أيضاً فيما يحكيه من قصص بعض الأنبياء، فإنهم وبحسب ما يقرّره القرآن الكريم حينما بثّوا دعوتهم وسفارتهم عن السماء سُئلوا عن الآية التي تدلّ على حقيّة دعواهم؛ بل نرى بعض الأنبياء أنهم أعطوا المعجزة قبل أن تتوجّه إليهم أممهم بالسؤال، كما قال تعالى في موسى وهارون عليهما السلام: ( اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآياتِي وَلا تَنِيا فِي ذِكْرِي)(1). وكذلك الأمر بالنسبة إلى إعطاء القرآن كمعجزة للنبي الأكرم صلى الله عليه وآله. في ضوء ذلك نستنتج أن العقل الصريح لا يرى تلازماً بين حقيّة ما أتى به الأنبياء والرسل من معارف المبدأ والمعاد وبين صدور أمر يخرق العادة عنهم(2). ثم إن إمكان الاستدلال العقلي واتّباع المنهج البرهاني في إثبات معارف التوحيد والمبدأ والمعاد وما شابهها يغني عن إقامة المعجزة والنظر في أمرها. وحينئذ فما هو الغرض من إقامة المعجزة؟ يقرّر الطباطبائي جواب ذلك بما يلي:
إن الأنبياء والرسل عليهم السلام لم يأتوا بالآيات المعجزة لإثبات شيء من معارف المبدأ والمعاد مما يناله العقل كالتوحيد والبعث وأمثالهما، وإنما اكتفوا في ذلك بحجة العقل والمخاطبة من طريق النظر والاستدلال، كقوله تعالى: (قالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللّهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَالأرْضِ)(3) في الاحتجاج على التوحيد، وقوله تعالى: (وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالأرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلاً ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ ! أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ)(4) في الاحتجاج على البعث. وإنما سئل الرسل المعجزة وأتوا بها لإثبات رسالتهم وتحقيق دعواها(5).
في ضوء معطيات النصّ القرآنيّ نرى أنّ دعوى الرسالة عن السماء متحصّل عند النبيّ من خلال الوحي والتكليم الإلهي أو نزول الملائكة ونحو ذلك، كما قال تعالى: (وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللّهُ إلاَّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإذْنِهِ ما يَشاءُ إنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ)(6).
أمام هذه الطرق التي يقرّرها القرآن في كيفية الاتصال بعالم ما وراء الطبيعة نرى أنها جميعاً خارقة للعادة في نفسها لأنها تختلف عن سنخ الإدراكات الظاهرة والباطنة التي تعارف عليها عامّة الناس، بل هي إدراكات لا تنالها عامّة النفوس مع أن الأنبياء لا يختلفون عن البشر الآخرين من ناحية القدرات البشرية. ولهذا السبب واجه الأنبياء موجة عارمة وحملات شعواء من الإنكار والاستنكار من عامّة المجتمعات التي بُعثوا فيها، وهذا يؤكّد أن الاتصال بالسماء لا يمثّل بعداً بشرياً محضاً في حياة الناس، وإلا فلماذا الاستنكار والتشكيك وعدم التصديق؟!!
في خضمّ أمواج الاستنكار والمقاومة العنيفة لدعوى الأنبياء والمرسلين يقرّر القرآن الكريم أن الاستنكار وقع على نوعين:
الأول: استدلال المجتمع البشري على إبطال دعوى الأنبياء بأنهم لا يختلفون عن سائر الناس من الناحية البشرية، وحيث أن عامّة الناس لا تجد في نفسها ما يقوله الأنبياء حول طرق الاتصال بما وراء الطبيعة فنستنتج عدم صحّة دعواهم أو صدقها.
قال تعالى على لسان المستنكرين لظاهرة الاتصال بالسماء: (قالُوا إنْ أَنْتُمْ إلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا)(7).
فمن خلال المماثلة البشرية يجزم هؤلاء بعدم صحّة دعوى الاتصال بما وراء الطبيعة من قبل الأنبياء والرسل. ولكن ما هي حقانية هذا الاستدلال وما مدى صحّته؟ وماذا قال الأنبياء لمجتمعاتهم في ردّ هذا النوع من الاستدلال؟
هل قالوا إننا لسنا من نوع البشر لنماثلكم في القوى والإدراكات؟! كلا… لا هذا ولا ذاك. وإنما يقرّر القرآن الكريم نقلاً عن لسان الأنبياء أنهم لم يخرجوا عن دائرة البشرية ولم يتجاوزوا حدود الإنسانية إلى غيرها، بالرغم من أنهم متّصلون بما وراء الطبيعة ومكلَّمون بالوحي الإلهي، كما يقول سبحانه: (قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إنْ نَحْنُ إلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلكِنَّ اللّهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ)(8).
فالمماثلة وأن الجميع بشر حقيقة ثابتة لا ينالها الشك، إلا أن الامتياز ببعض النعم الخاصّة لا يتنافى مع المماثلة، فللناس أو أفراد البشر اختصاصات يمتاز بها بعضهم عن بعضهم الآخر وإن كان الجميع يدورون في محيط الدائرة البشرية، ومن تلك الاختصاصات ظاهرة الوحي والتكليم الإلهي لبعض البشر الذين يتوافرون على صفات خاصّة وقدرات لا يملكها غيرهم من بني البشر. وهل ثمّة عاقل يستنكر تفاوت أفراد الناس من جهة الإدراكات العقلية والقوى النفسانية؟! ومع ذلك لا نحكم بخروج من يتميز ببعض القوى العقلية ذات المستوى العالي عن قائمة أفراد البشر.
وقد تعرّض القرآن الكريم لذكر أمثال هذا النوع من الاستدلال في غير موضع؛ كقوله تعالى: (أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا)(9).
الثاني: أن المجتمع البشري لمّا رأى أن الدعوة التي يدّعيها الأنبياء تشتمل على أمور تستنكرها النفس الاعتيادية ولم يعرف لها العقل مثيلاً من قبل، قام بسؤال الحجّة وطلب البيّنة على صدق الدعوة والسفارة الإلهية، والبيّنة المطلوبة ليست هي إلا المعجزة والأمر الخارق للعادة.
(فإن الوحي والتكليم الإلهي وما يتلوه من التشريع والتربية الدينية مما لا يشاهده البشر من أنفسهم، والعادة الجارية في الأسباب والمسبّبات تنكره فهو أمر خارق للعادة، وقانون العلّية العامّة لا يجوّزه، فلو كان النبيّ صادقاً في دعواه النبوّة والوحي كان لازمه أنه متّصل بما وراء الطبيعة، مؤيَّد بقوّة إلهية تقدر على خرق العادة…)( 10).
ومادام الأمر كذلك وأن خرق العادة لو وقع مرّة فيمكن أن يقع أخرى، وأن الله سبحانه وتعالى يريد أن يصدّق النبوّة والوحي الذي يدّعيه النبيّ، فمن الممكن أن يصدر خارق آخر للعادة لكي يحصل به تصديق دعوى الاتصال بالسماء وتقام به الحجّة على الناس. وهذه الحقيقة هي التي دعت المجتمعات البشرية إلى طلب المعجزة لإثبات صدق دعوى النبوّة ليس إلاّ، وليس للدلالة على حقانية المعارف التي ادّعاها الأنبياء في التوحيد والمعاد وغيرها من أصول الدين لأن ذلك مما يناله العقل ويثبته البرهان.
__________________
(1) طه: 42.
(2) راجع الميزان في تفسير القرآن ج1 ص85.
(3) إبراهيم: 10.
(4) ص: 27- 28.
(5) الميزان في تفسير القرآن: ج1 ص86.
(6) الشورى: 51.
(7) إبراهيم: 10.
(8) إبراهيم: 11.
(9) ص: 8.
(10) الميزان في تفسير القرآن: ج1 ص88.