الأخبار

الإيمان بالله في ضوء المذهب التجريبي

حينما بدأت التجربة تبرز على صعيد البحث العلمي كأداة للمعرفة، وأدرك المفكّرون أن تلك المفاهيم العامّة لا تكفي بمفردها في مجال الطبيعة لاكتشاف قوانينها والتعرّف على أسرار الكون، آمنوا بأنّ الحسّ والملاحظة العلميين هما المنطق الأساس للبحث عن تلك الأسرار والقوانين. وكان هذا الاتجاه الحسّي في البحث مفيداً على العموم في تطوير الخبرة البشرية بالكون وتوسيعها إلى درجة كبيرة.
وقد بدأ هذا الاتجاه مسيرته بالتأكيد على أن الحسّ والتجربة أداتان من الأدوات التي ينبغي للعقل وللمعرفة البشرية أن تستعملهما في سبيل اكتشاف ما يحيط بالإنسان من أسرار الكون ونظامه الشامل، فبدلاً عن أن يجلس مفكّر كأرسطو في غرفته المغلقة الهادئة يفكّر في نوع العلاقة بين حركة الجسم في الفضاء من مكان إلى مكان والقوّة المحرّكة فيقرّر أن الجسم المتحرّك يسكن فور انتهاء القوّة المحرّكة، بدلاً عن ذلك يباشر غاليلو تجاربه ويمارس ملاحظاته على الأجسام المتحرّكة ليستنتج علاقة من نوع آخر تقول: إن الجسم إذا تعرض لقوّة تحرّكه فلن يكفّ عن الحركة وإن انتهت تلك القوّة إلى أن يتعرّض إلى قوّة توقفه.
وهذا الاتجاه الحسّي يعني تشجيع الباحثين في قضايا الطبيعة وقوانين الظواهر الكونية على التوصّل إلى ذلك عن طريق مرحلتين:
الأولى: مرحلة الحسّ والتجربة وتجميع معطياتهما.
الثانية: مرحلة عقلية وهي مرحلة الاستنتاج والتنسيق بين تلك المعطيات للخروج بتفسير عامّ مقبول.
ولم يكن الاتجاه الحسّي في واقعه العلمي وممارسات العلماء له يعني الاستغناء عن العقل, ولم يستطع أيّ عالم من علماء الطبيعة أن يكتشف سرّاً من أسرار الكون أو قانوناً من قوانين الطبيعة عن طريق الحسّ والتجربة إلا بالعقل، إذ كان يجمع في المرحلة الأولى الملاحظات التي تزوّده بها تجاربه وملاحظاته ثم يوازن في المرحلة الثانية بينها بعقله حتى يصل إلى النتيجة.
ولا نعرف فتحاً علمياً استغنى بالمرحلة الأولى عن الثانية ولم يمرّ بمرحلتين على هذا النحو، حيث تكون قضايا المرحلة الأولى أموراً محسوسة وقضايا المرحلة الثانية أموراً مستنتجة ومستدلّة يدركها العقل ولا تقع تحت الحسّ المباشر. ففي قانون الجاذبية مثلاً لم يحسّ نيوتن بقوّة الجذب بين جسمين إحساساً مباشراً ولم يحسّ بأنها تتناسب عكسياً مع مربّع البعد بين مركزيهما وطردياً مع حاصل ضرب الكتلتين، وإنما أحسّ بالحجر وهو يسقط على الأرض إذا هوى وبالقمر وهو يدور حول الأرض وبالكواكب وهي تدور حول الشمس، وبدأ يفكّر فيها معاً واستمرّ في محاولة عامّة لتفسيرها جميعاً مستعيناً بنظريات غاليلو في التعجيل المنتظم للأجسام الساقطة على الأرض والمتدحرجة على السطوح المائلة، ومستفيداً من قوانين كبلر التي تتحدّث عن حركة الكواكب والتي يقول في أحدها: إن مربّع زمن دوران كلّ كوكب حول الشمس يتناسب مع مكعّب بُعده عنها. وفي ضوء كلّ ذلك اكتشف قانون الجاذبية، فافترض قوّة جذب بين كلّ كتلتين تتناسب وتتأثّر بحجم الكتلة ودرجة البعد.
وكان بالإمكان لهذا الاتجاه الحسّي والتجريبي في البحث عن نظام الكون أن يقدّم دعماً جديداً وباهراً للإيمان بالله سبحانه وتعالى بسبب ما يكشفه من ألوان الاتساق ودلائل الحكمة التي تشير إلى الصانع الحكيم. غير أن العلماء الطبيعيين بوصفهم علماء طبيعة لم يكونوا معنيّين بتجلية هذه القضية التي كانت ولا تزال مسألة فلسفية حسب التصنيف السائد لمسائل المعرفة البشرية وقضاياها.
وسرعان ما نشأت على الصعيد الفلسفي وخارج نطاق العلم وما يجري فيه نزعات فلسفية ومنطقية حاولت أن تفلسف أو تمنطق هذا الاتجاه الحسّي، فأعلنت أن الوسيلة الوحيدة للمعرفة هو الحسّ وحيث ينتهي الحسّ تنتهي معرفة الإنسان، فكلّ ما لا يكون محسوساً ولا يمكن تسليط التجربة عليه بشكل وآخر فلا يملك الإنسان وسيلة لإثباته.
وبهذا استخدم الاتجاه الحسّي والتجريبي لضرب فكرة الإيمان بالله تعالى. فما دام الله سبحانه ليس كائناً محسوساً بالإمكان رؤيته والإحساس بوجوده، فلا سبيل إذن إلى إثباته. ولم يكن هذا الاستخدام على يد العلماء الذين مارسوا الاتجاه التجريبي بنجاح، بل على يد مجموعة من الفلاسفة ذوي النزعات الفلسفية والمنطقية التي فسّرت هذا الاتجاه الحسّي تفسيراً فلسفياً أو منطقياً خاطئاً.
وقد وقعت هذه النزعات المتطرّفة في تناقض تدريجاً. فمن الناحية الفلسفية وجدت هذه النزعات نفسها مضطرّة إلى إنكار الواقع الموضوعي أي إنكار الكون الذي نعيش فيه جملة وتفصيلاً، لأننا لا نملك سوى الحسّ، والحسّ إنما يعرّفنا على الأشياء كما نحسّها ونراها لا كما هي، فنحن حين نحسّ بشيء يمكننا أن نؤكّد وجوده في إحساسنا، وأما وجوده خارج نطاق وعينا وبصورة مستقلّة وموضوعية ومسبقة على الإحساس فلا سبيل إلى إثباته. فحينما ترى القمر في السماء تستطيع أن تؤكّد فقط رؤيتك للقمر وإحساسك به في هذه اللحظة، وأما هل القمر موجود في السماء حقاً؟ وهل كان له وجود قبل أن تفتح عينك وتراه؟ فهذا ما وجد أصحاب تلك النزعات أنفسهم غير قادرين على تأكيده وإثباته، تماماً كالأحول الذي يرى أشياء لا وجود لها فهو يؤكّد رؤيته لتلك الأشياء ولكنّه لا يؤكّد وجود تلك الأشياء في الواقع.
وبهذا قضت النزعة الحسّية الفلسفية في النهاية على الحسّ نفسه كوسيلة للمعرفة، وأصبح هو الحدّ النهائي لها بدلاً عن أن يكون وسيلة، وعادت المعرفة الحسّية كلّها مجرّد ظاهرة لا وجود لها بصورة مستقلّة عن وعينا وإدراكنا.
 ومن الناحية المنطقية اتّجهت النزعة الحسّية في أحدث تيّار من تيّاراتها إلى الوضعية القائلة بأنّ كلّ جملة لا يمكن التأكّد من صدق مدلولها أو كذبه بالحسّ والتجربة فهي كلام فارغ من المعنى، شأنها شأن حروف هجائية مبعثرة تردّدها على غير هدى. وأمّا الجملة التي يمكن التأكّد من صدق مفادها وكذبه فهي كلام له معنىً، فإن أكّد الحسّ تطابق مدلولها مع الواقع فهي جملة صادقة وإن أكّد العكس فهي كاذبة. فإن قلت: (المطر ينزل من السماء في الشتاء) فهي جملة لها معنىً وصادقة في مدلولها. وإن قلت: (المطر ينزل في الصيف) فهي جملة لها معنىً وكاذبة في مدلولها. وإن قلت إن شيئاً لا يمكن أن يُرى أو يحسّ به ينزل في ليلة القدر فهذه جملة ليس لها معنىً فضلاً عن أن تكون صادقة أو كاذبة، إذ لا يمكن التأكّد من صدق المدلول وكذبه بالحسّ والتجربة، فهي تماماً كما تقول ديز (كلمة مهملة تقال عادة كمثال للكلمة الفارغة من المعنى) ينزل في ليلة القدر، فكما لا معنى لهذه الجملة كذلك لا معنى لتلك الجملة.
وعلى هذا الأساس لو قلت (الله موجود) لكان بمثابة أن تقول ديز موجود، فكما لا معنى لهذه الجملة كذلك تلك، لأنّ وجود الله تعالى لا يمكن التعرّف عليه بالحسّ والتجربة.
وقد عرفنا سابقاً الإشكالات التي ترد على هذا الاتجاه في المنطق التجريبي، وذكرنا أن هذه النزعة المنطقية تواجه تناقضاً بسبب أن قولها هذا وما فيه من تعميم هو نفسه شيء لا يمكن التعرف عليه بالحس والتجربة المباشرة، فهو كلام فارغ من المعنى بحكم ما يحمل من قرار. فهذه النزعة المنطقية التي تدّعي أن كلّ جملة لا يتاح للحسّ والتجربة اختبار مدلولها فهي فارغة من المعنى تُصدر بهذا الادّعاء تعميماً، وكلّ تعميم فهو يتجاوز نطاق الحسّ لأنّ الحسّ لا يقع إلا على حالات جزئية محدودة. وهكذا تنتهي هذه النزعة إلى تناقض مع نفسها إضافة إلى تناقضها مع كلّ التعميمات العلمية التي يفسّر بها العلماء ظواهر الكون تفسيراً شاملاً، لأنّ التعميم ـ أيّ تعميم ـ لا يمكن الإحساس به مباشرة وإنما يُستنَتج ويُستدلّ عليه بدلالة ظواهر حسّية محدودة.
ومن حسن الحظ أن العلم لم يعبأ في مسيرته وتطوّره المستمرّ بهذه النزعات، فكان يمارس عمله الاكتشافي للكون دائماً مبتدئاً بالحسّ والتجربة ومتجاوزاً بعد ذلك الحدود الضيّقة التي فرضتها تلك النزعات الفلسفية والمنطقية، ليبذل جهداً عقلياً في تنسيق الظواهر ووضعها في أطر قانونية عامّة والتعرّف على ما بينها من روابط وعلاقات.
وقد تضاءل النفوذ الفلسفي والمنطقي لهذه النزعات المتطرّفة على صعيد المذاهب الفلسفية المادّية. فالفلسفة المادّية التي يمثّلها بصورة رئيسية المادّيون الجدليون ترفض تلك النزعات بكلّ وضوح وتعطي لنفسها الحقّ في أن تتجاوز نطاق الحسّ والتجربة التي يبدأ العالم بها بحثه، وتتجاوز أيضاً المرحلة الثانية التي يختم بها العالم بحثه، وذلك لكي تقارن بين معطيات العلم المختلفة وتضع لها تفسيراً نظرياً عامّاً، وتعيّن أوجه العلاقات والروابط التي يمكن افتراضها بين تلك المعطيات. وبهذا فإن المادّية الجدلية التي هي الوريث الحديث للفكر المادّي على مرّ التاريخ أصبحت بنفسها غيبية من وجهة نظر تلك النزعات الحسّية المتطرّفة حين خرجت بتفسير شامل للكون ضمن إطار ديالكتيكي.
 
وهذا يعني أن المادّية والإلهية معاً قد اتّفقتا على تجاوز النطاق الحسّي الذي دعت تلك النزعات المادّية المتطرّفة إلى التقيّد به، وأصبح من المعقول أن تتّخذ المعرفة مرحلتين:
مرحلة لتجميع معطيات الحسّ والتجربة.
ومرحلة لتفسيرها نظرياً وعقلياً.
وإنما الخلاف بين المادّية والإلهية على نوع التفسير الذي تستنتجه عقلياً في المرحلة الثانية من معطيات العلم المتنوّعة. فالمادّية تفترض تفسيراً ينفي وجود صانع حكيم، والإلهية ترى أن تفسير تلك المعطيات لا يمكن أن يكون مقنعاً ما لم يشتمل على الإقرار بوجود صانع حكيم.
وسنعرض فيما يلي نمطين من الاستدلال على وجود الصانع الحكيم سبحانه، يتمثّل في كلّ منهما معطيات الحسّ والتجربة من ناحية وتنظيمها عقلياً واستنتاج أن للكون صانعاً حكيماً من خلال ذلك.
النمط الأول: نطلق عليه اسم الدليل الفلسفي.
النمط الثاني: نطلق عليه اسم الدليل العلمي أو الاستقرائي.
وقبل أن ندخل في الحديث عنهما يجب أن نتساءل: ما هو الدليل الفلسفي؟ وما الفرق بينه وبين الدليل العلمي؟ وما هي أقسام الدليل؟
إن الدليل ينقسم إلى ثلاثة أقسام هي:
الدليل الرياضي.
الدليل العلمي.
الدليل الفلسفي.
فالدليل الرياضي كما عرفنا هو الدليل الذي يُستعمل في مجال الرياضيات البحتة والمنطق الصوري الشكلي، ويقوم هذا الدليل دائماً على مبدأ أساسيّ وهو مبدأ عدم التناقض القائل إن (أ) هي (أ) ولا يمكن أن لا تكون (أ). فكلّ دليل يستند إلى هذا المبدأ وما يتفرّع عنه من نتائج فقط يُطلَق عليه اسم الدليل الرياضي، وهو يحظى بثقة من الجميع.
والدليل العلمي، هو الدليل الذي يُستعمل في مجال العلوم الطبيعية ويعتمد على المعلومات التي يمكن إثباتها بالحسّ أو الاستقراء العلمي إضافة إلى مبادئ الدليل الرياضي.
والدليل الفلسفي، هو الدليل الذي يعتمد لإثبات واقع موضوعيّ في العالم الخارجي على معلومات عقلية. والمعلومات العقلية هي المعلومات التي لا تحتاج إلى إحساس وتجربة، إضافة إلى مبادئ الدليل الرياضي.
وهذا لا يعني بالضرورة أن الدليل الفلسفي لا يعتمد على معلومات حسّية واستقرائية، وإنما يعني أنه لا يُكتفى بها، بل يعتمد إلى جانب هذا أو بصورة مستقلّة عن ذلك على معلومات عقلية أخرى في إطار الاستدلال على القضية التي يريد إثباتها. فالدليل الفلسفي إذن يختلف عن الدليل العلمي في تعامله مع معلومات عقلية لا تدخل في نطاق مبادئ الدليل الرياضي.
وعلى أساس ما قدّمناه من مفهوم الدليل الفلسفي قد نواجه السؤال التالي: هل بالإمكان الاعتماد على المعلومات العقلية أي على الأفكار التي يوحي بها العقل بدون حاجة إلى إحساس وتجربة أو استقراء علميّ؟
والجواب على ذلك بالإيجاب؛ لما تقدّم سابقاً من أن هناك في معلوماتنا ما يحظى بثقة الجميع، كمبدأ عدم التناقض الذي تقوم عليه كلّ الرياضيات البحتة، وهو مبدأ يقوم إيماننا به على أساس عقليّ وليس على أساس الشواهد والتجارب في مجال الاستقراء.
والدليل على ذلك أن درجة اعتقادنا بهذا المبدأ لا تتأثّر بعدد التجارب والشواهد التي تتطابق معها. ولنأخذ تطبيقاً حسابياً واضحاً لهذا المبدأ وهو التطبيق القائل 2+2=4 فإن اعتقادنا بصحّة هذه المعادلة الحسابية البسيطة اعتقاد راسخ لا يزداد بملاحظة الشواهد، بل إننا لسنا مستعدّين للاستماع إلى أيّ شاهد عكسيّ، ولن نصدّق لو قيل لنا إن اثنين زائداً اثنين يساوي في حالة فريدة خمسة أو ثلاثة. وهذا يعني أن اعتقادنا بتلك الحقيقة ليس مرتبطاً بالإحساس والتجربة وإلا لتأثر بهما إيجاباً وسلباً.
فإذا كنّا نثق كلّ الثقة باعتقادنا بهذه الحقيقة على الرغم من عدم ارتباطه بالإحساس والتجربة، فمن الطبيعي أن نسلّم أن بالإمكان أن نثق أحياناً بالمعلومات العقلية التي يعتمد عليها الدليل الفلسفي. وبكلمة أخرى: إن رفض الدليل الفلسفي لمجرّد أنه يعتمد على معلومات عقلية لا ترتبط بالتجربة والاستقراء، يعني رفض الدليل الرياضي أيضاً لأنه يعتمد على مبدأ عدم التناقض الذي لا يرتبط اعتقادنا فيه بالتجربة والاستقراء.

  • جديد المرئيات