أهمية التفكر
(اعلم أن أول شروط مجاهدة النفس والسير باتجاه الحق هو التفكر، وقد وضعه بعض علماء الأخلاق في بدايات الدرجة الخامسة، وهذا التصنيف صحيح أيضاً في محله). ويسبق (التفكر) الذي ابتدأ به الإمام الخميني(قدس سره) مراحل أربع في رتبة (البدايات) التي قلنا ـ فيما سبق ـ بأن لها عشرة مقامات أو منازل أو مراحل، وهذه الأربعة السابقة هي:
اليقظة: وهي مرحلة الخلاص من الغفلة، وقد ورد: (الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا)1 لأن الموت يوقظ الإنسان من الغفلة (لَّقَدْ كُنتَ في غَفْلَة مِن هَذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ)2 وعلى الإنسان أن يميت نفسه قبل أن يحلّ به الموت الذي لا مفرّ منه، (موتوا قبل أن تموتوا)3 وذلك بأن يميت في نفسه الشهوات بأن يجعلها تحت إمرة الشرع والعقل، فإذا فعل ذلك واستيقظ من غفلته دخل في حصن ذكر اللّه المنيع واطمأن به (أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئنُّ الْقُلُوبُ)4 وأمن من شياطين الجن والإنس، بل ورد في الروايات أن الحيوانات لا تصطاد إلا إذا كانت في غفلة عن ذكر اللّه تبارك وتعالى ناهيك، عن الإنسان.
ولا يخطر على بال أحد بأن مرادنا من الذكر هنا هو الذكر اللساني فقط وإن كان هذا مرتبة من المراتب أيضاً بل لابد للقلب أيضاً أن يكون ذاكراً لله تبارك وتعالى حتى تتم اليقظة المطلوبة.
التوبة: وهي المنزلة الثانية التي يصلها الإنسان بعد يقظته، ونعني بها الرجوع من المخالفة إلى الموافقة، من مخالفة اللّه عزّ وجلّ إلى موافقته سبحانه وتعالى.
المحاسبة: وتلي منزلة التوبة، حيث يحاسب الإنسان نفسه على ما صدر منها، ليتهيأ بذلك إلى منزلة الإنابة.
الإنابة: فبعد أن يحاسب الإنسان نفسه ينتقل إلى مرحلة الإنابة وفرقها عن التوبة أن الإنسان بتوبته يرجع من المخالفة إلى الموافقة، وفي الإنابة يرجع من الموافقة إلى الله سبحانه وتعالى (كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى الله قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ)5.
التفكر: وفي هذه المنزلة عدة بحوث:
البحث الأول: في أهمية التفكر
وهناك مجموعة من الروايات الشريفة تبين أهمية التفكر; منها: الأولى: عن عطاء قال: انطلقت أنا وعبيد بن عمير إلى عائشة وبيننا وبينها حجاب… إلى أن قال: فقال ابن عمير: أخبرينا بأعجب شيء رأيتيه من رسول اللّه (صلى الله عليه وآله)، قال: فبكت وقالت: كل أمره كان عجباً، أتاني في ليلة…إلى أن تقول الرواية: قال (صلى الله عليه وآله): (ذريني أتعبد لربي عزّ وجلّ) فقام إلى القربة فتوضأ منها ثم قام يصلي فبكى حتى بلّ لحيته، ثم سجد حتى بلّ الأرض ثم اضطجع على جنبه حتى أتى بلال يؤذنه بصلاة الصبح، فقال: يا رسول اللّه ما يبكيك وقد غفر اللّه ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فقال: (ويحك يا بلال ما يمنعني أن أبكي وقد أنزل الله علىّ في هذه الليلة (إِنَّ في خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ الَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَات لاُِّولِى الأَلْبَابِ)7.6.
الثانية: عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: (الفكر يدعو إلى البر والعمل به) 8.
الثالثة: وعنه (عليه السلام) أيضاً أنه قال: (نبّه بالتفكر قلبك، وجافِ عن الليل جنبك، واتقِ الله ربك)9.
البحث الثاني: في حقيقة التفكر وكيفية حصوله
إذا أراد الإنسان أن يتفكر فلابد له من رأسمال علمي يستند عليه في تفكيره، لأنه يحتاج إليه كحاجة التاجر إلى الرأسمال التجاري لكي يزاول عمله في السوق.
وكما أن هناك كثيراً ممن يمتلك الرأسمال التجاري ولا يتاجر فيه، فإن هناك الكثير ممن يمتلك الرأسمال العلمي ولا يستفيد منه، ومن هنا جاء الحث على التفكر وبيان أهميته وحاجة الإنسان إليه، وكيف يمكن للإنسان أن يتفكر بالطريقة الصحيحة والمثمرة مستغلاً ما لديه من معارف وعلوم. كيف يفكر الإنسان؟
بعد حصول العلم لدى الإنسان، كعلمه بالمعاد والآخرة مثلاً، يبدأ عملية تفكيره من خلال ترتيب مقدمات:
المقدمة الأولى: وهي أن يسأل نفسه هل الآخرة أدوم وجوداً أم الدنيا؟ وليس المرء بحاجة إلى أن يكون عالماً كبيراً حتى يعرف أن الآخرة هي الأدوم والأبقى، بشهادة ما يراه من محدودية هذه الدنيا وانتهائها.
المقدمة الثانية: وهي أن يسأل نفسه إذا دار الأمر بين اختيار الأبقى وجوداً وغيره، أيهما يختار ويقدم، وأيهما يترك ويؤخر؟
النتيجة: ثم إن الإنسان وبعد علمه بالمقدمتين السابقتين أي (الآخرة أبقى) و(الأبقى أولى بالاختيار والإيثار) بإمكانه أن يطبق الشكل الأول من القياس المنطقي فيحذف الطرف المتكرر أي (الأبقى) ليتوصل إلى النتيجة المطلوبة، وهي (الآخرة أولى بالاختيار والإيثار). وهذه النتيجة هي ما يختاره عقلاء البشر.
ولا يوجد عاقل يختار ويقدم المحدود والمنقطع والمنتهي على الدائم الباقي، خصوصاً وإن هذا المحدود قد قرنت لذّاته وخلطت بالألم والتعب والمشقة، وإن ما هو غير محدود قد خلصت لذّاته وصفت ولم تخلط بأي نوع من الآلام والمنغصات.
قد يقال: إن بإمكان الإنسان أن يجمع بينهما فيختار الدنيا والآخرة معاً، إلاّ أننا سنبين فيما بعد، إن شاء اللّه تعالى، أن الدنيا والآخرة ـ في أغلب الأحيان ـ ضرتان كلما اقترب الإنسان من إحداهما ابتعد عن الأُخرى، بل يمكن القول باستحالة الجمع بينهما مطلقاً إذا كانت الدنيا هي التعلق بغير اللّه، و الآخرة هي التعلق به عزّ وجلّ (مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُل مِّن قَلْبَيْنِ في جَوْفِهِ)10 فإن امتلأ القلب بحب الدنيا فرغ عن حب اللّه تعالى وإن امتلأ بحب اللّه تعالى فرغ عن حب غيره.
كمثال آخر نقول: إن الإنسان بطبعه طالما يبحث عن معبِّر للرؤيا التي يراها في منامه، فعندما يرى أنه يشرب اللبن أو الماء يقال له ـ مثلاًـ بأن الماء هو الحكمة أو العلم، فللبن ظاهر وهو هذا اللبن الذي نراه ونشربه وله باطن هو الحكمة والعلم، فالظاهر إذن ممر للوصول إلى الحقيقة، كالمجاز في اللغة الذي هو ممر للوصول إلى المعنى الحقيقي.
وهكذا تكون هذه الدنيا كلها ـ وليس النوم فقط ـ هي المعبر إلى الحقيقة لا هي الحقيقة ذاتها، فهي دار الممر ومن خلالها يستطيع الإنسان الوصول إلى غايته ومقصده وهي «الدار الآخرة» التي هي دار المقر (يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ)11 وهي الحياة الحقيقية. (وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ)12. وبإمكان الإنسان أن يزاول عملية التفكير من خلال هذه المعلومات فيرتب المقدمات منها ليستخلص بعد ذلك النتيجة المطلوبة، فيقول:
كمقدمة أولى: إن الدار الآخرة هي الحياة الحقيقية ودار المقرّ
وكمقدمة ثانية: إن الحياة الحقيقية هي الأولى بالعمل من أجلها.
فينتج: إن الآخرة هي الأولى بالعمل من أجلها.
وهكذا فإن العاقل هو من يلتزم بهذه النتيجة فيختار الآخرة ويقدمها على الدنيا لأن العمل للممر دون المقر ولما هو زائل وغير حقيقي دون الحقيقي الباقي عمل بلا فكر، وهو عمل الجاهلين.
إن عمليتي التفكير السابقتين مصداقان من مصاديق عملية التفكير الصحيحة والتي على الإنسان أن يداوم عليها من أجل حصوله على النتائج المطلوبة التي يحتاجها ويريد الوصول إليها في حياته.
التفكير مقدمة لحصول الإيمان
إن الإنسان وإن فكّر وحصل على النتيجة المطلوبة وهي أن الآخرة هي الأبقى والأدوم والأحسن إلاّ أنه لن يعمل من أجلها إلاّ بعد أن يحصل له الإيمان بهذه الأمور.
وهذا الأمر من طبع الإنسان ذاته، فهو لا يضع يده في النار ـ مثلاً ـ لا لأنه يعلم فقط بأنها تحرق بل لأنه يعلم ويؤمن بذلك، وإلاّ فإن الطفل الذي لم تحترق يده بالنار بعدُ يُدخلها فيها وإن أُخبر وعلم بأنها حارة محرقة ولا يمتنع عنها إلاّ بعد أن تحرق يده ويؤمن بذلك.
إن كثيراً منا وإن بلغنا الثلاثين أو الأربعين أو الخمسين، لازلنا نعيش بفكر الأطفال لا بفكر البالغين، فنحن لا نشك بالقرآن والروايات الشريفة ونعلم بالمعاد والآخرة ولكننا لا نؤمن ولا نعتقد بذلك كاعتقادنا بأن السم قاتل، والدليل على ذلك هو عدم إقدامنا على شرب السم القاتل وإقدامنا كل يوم على ارتكاب المعاصي والأعمال المحرّمة التي تفوق آثارها الآثار الزائلة للسم الدنيوي (وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ)13.
فالتفكير مقدمة لحصول إيمان القلب، فإذا حصل الإيمان في قلب الإنسان أثّر في جوارحه ولذا فإنه لا يبكي من خشية اللّه تعالى ولا لذكر مصيبة الحسين (عليه السلام) ولا يصرخ من الألم إلاّ عند حصول هذه الحالة القلبية لديه، وإلى هذا أشارت الرواية الشريفة «نبّه بالفكر قلبك» بجعله يعيش هذه الحالة، وإلاّ فقد يعبد الإنسان ربّه سنين طويلة وهو معتاد على عبادته لا عن وعي ولا عن حالة الخضوع والخشوع القلبية المطلوبة، ومثلها ما ورد عنه (صلى الله عليه وآله) حينما رأى شخصاً يلعب بلحيته في صلاته، فقال (صلى الله عليه وآله) (لو خشع قلبه لخشعت جوارحه)14. وعلى هذا الأمر أكثرنا، فما من مصيبة أو مسألة أو مشكلة إلاّ ونتذكرها في صلاتنا لأن هذه الصلاة فيها كل شيء إلاّ ذكر اللّه (وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي)15 ولهذا وغيره كان (تفكر ساعة خير من عبادة سبعين سنة) 16.
أقسام التفكير
والتفكير بعد هذا على قسمين بلحاظ حصوله:
القسم الأول: هو التفكير عن تقليد، وهذا قد يزول لأن من (أخذ دينه من أفواه الرجال أزالته الرجال)17.
القسم الثاني: وهو التفكير القائم على أساس المنطق القويم والاستدلال الصحيح، وقد أشار الفيض الكاشاني إلى ثمرات هذا القسم بقوله: «وأما ثمرة الفكر فهي العلوم والأحوال والأعمال ولكن ثمرتها الخاصة العلم لا غير، نعم إذا حصل العلم في القلب تغيّر حال القلب وإذا تغيّر القلب تغيّرت أعمال الجوارح، فالعمل تابع للحال والحال تابع للعلم، والعلم تابع للفكر، فالفكر إذن هو المبدأ والمفتاح للخيرات كلها، وهذا هو الذي يكشف لك عن فضيلة التفكر وأنه خير من الذكر والتذكر لأن في الفكر ذكراً وزيادة، وذكر القلب خير من عمل الجوارح بل شرف العمل لما فيه من الذكر. فإذن التفكر أفضل من جملة الأعمال ولذلك قيل: تفكر ساعة خير من عبادة سنة، وقيل: هو الذي ينقل من المكاره إلى المحاب ومن الرغبة والحرص إلى الزهد والقناعة، وقيل: هو الذي يحدث مشاهدة وتقوى; ولذلك قال تعالى: (لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا)19.18.
__________________
(1) عوالى اللآلي، 4 : 73 / 48.
(2) ق: 22.
(3) البحار 72 : 59 .
(4) الرعد: 28.
(5) الصف: 14.
(7.6) آل عمران: 19. و( المحجة البيضاء، للفيض الكاشاني، ج 8، ص 194).
(8) المصدر نفسه.
(9) المصدر نفسه.
(10) الأحزاب: 4.
(11) غافر: 39.
(12) العنكبوت: 64.
(13) النمل : 14 .
(14) دعائم الإسلام، 1 : 174 .
(15) طه: 14.
(16) نور البراهين لنعمة الله الجزائري، مؤسسة النشر الإسلامي، قم، 1417 هـ . ، 1: 79.
(17) المحتضر، للحسن بن سليمان الحلي ، ص 3 .
(19.18) طه : 113 .و(المحجة البيضاء، للفيض الكاشاني، ج8، ص 198)