يبتني هذا المسلك على دعوة الإنسان وحثّه على الاتّصاف بالخصال الحسنة والحميدة وعلى اجتناب العادات الرديئة والسيّئة، وذلك من خلال الجزاء الأخروي ثواباً أو عقاباً.
فها هنا، كما في المسلك الأوّل(تهذيب الأخلاق من خلال الغايات الصالحة الدنيوية) تجارة وعوض ومعوض. غاية الأمر أنّ العوض قد يكون معجّلاً ومرتبطاً بالدنيا كما في المسلك الأوّل، وقد يكون مؤجّلاً ويعطى للإنسان في الآخرة كما هو في المسلك الثاني.
والظاهر أنّ أغلب الناس لا يعتني بالعوض المؤجَّل لأنّهم طُبعوا على حبّ الثمن المعجّل والاهتمام به وإن كان أقلّ قيمة بل لا قيمة له بالنسبة إلى المؤجّل، كما في العوض الدنيوي بالنسبة للأخروي! قال الله تعالى: (كَلاَّ بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ ٭ وَتَذَرُونَ الآخِرَةَ)1. وعلى كلّ حال فإنّ للجزاء الأخروي خصوصيتين مهمّتين أيضاً هما:
الأولى: أنّه يُصلح ظاهر العمل وباطنه لأنّ المجازي هو الله سبحانه وتعالى الذي لا يعزب عن علمه مثقال ذرّة في الأرض ولا في السماء. فعن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام: (… فإنّ الشاهد هو الحاكم..)2. فالحاكم يوم القيامة هو الشاهد في هذا العالم وفي هذه النشأة; ولذا قال النبي صلى الله عليه وآله: (اعبد الله كأنّك تراه فإن لم تكن تراه فإنّه يراك)3.
فعلى الإنسان عبادة الله تعالى كأنّه يراه إن لم يستطع الوصول إلى مقام أن يرى الله شاهداً في كلّ شيء (أَوَلَمْ يَكْفِ بـِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيء شَهِيدٌ)4. أي: أولم يكف بربّك أنّه على كلّ شيء مشهود، فالله تعالى مشهود في كلّ شيء ولكن لعمى بصائرنا لا نراه، ولذا قال علماؤنا في تفسير قول إمام العارفين، الإمام الحسين عليه السلام في دعاء عرفة: (عميت عين لا تراك عليها رقيباً)5 : إنّ هذا ليس دعاءً بل هو قضية إخبارية، وإنّ الإمام عليه السلام يقول: إنّ من لا يراك فهو أعمى. وحين سأل ذعلب اليماني أمير المؤمنين عليه السلام: هل رأيت ربّك، يا أمير المؤمنين؟ قال عليه السلام: (أفأعبد ما لا أرى؟) فقال: وكيف تراه؟ فقال: (لا تدركه العيون بمشاهدة العيان، ولكن تدركه القلوب بحقائق الإيمان…)6 فهو عزّ وجلّ مشهود بالبصيرة وبالقلب لا بالعين المادية.
قال رسول الله صلى الله عليه وآله: (ما من قلب إلاّ وله عينان وأذنان فإذا أراد الله بعبد خيراً فتح عينيه اللتين هما للقلب ليشاهد بهما الملكوت)7 وعن السجّاد عليه السلام: (ألا إنّ للعبد أربع أعين، عينان يبصر بهما أمر دينه ودنياه، وعينان يبصر بهما أمر آخرته، فإذا أراد الله بعبد خيراً فتح له العينين اللتين في قلبه فأبصر بهما الغيب في أمر آخرته)8 وهو الملكوت الذي عُبّر عنه في الآية المباركة(وَكَذَلِكَ نُرِي إبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ)9. فقد حصل إبراهيم عليه السلام على اليقين من رؤيته ملكوت السماوات والأرض، فإذا أبصر الإنسان هذا الملكوت وصل إلى مقام اليقين الذي تحدّثت عنه الروايات الشريفة. ولكن كيف يرى الإنسان ملكوت السماوات والأرض؟
الجواب: إنّ هذه الرؤية لا يمكن أن تتمّ إلاّ من خلال تنقية القلب وتطهيره؛ (فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُور)10. وفي نسبة العمى إلى القلب دليل على أنّ للقلب إبصاراً حسب نسبة الملكة وعدمها، وعلى هذا فقد يرى الإنسان ما حوله ويقول: هذه عيني أرى فيها كلّ شيء، فيقال له: (إنّك لا ترى شيئاً; يقول تعالى: وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بـِهَا)11. لأنّها رؤية لا تتمّ بهذه الأعين الظاهرية الموجودة حتّى للحيوانات، بل هي أعين القلب ولذا فإنّهم لا يبصرون بها. وهكذا قوله تعالى (كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبـِهِم ما كَانُوا يَكْسِبُونَ)12.
الثانية: أنّه جزاء دائم لأنّه جزاء أخروي والآخرة لا تزول لأنّها باقية بإرادة الله سبحانه وتعالى. (وهذا المسلك في إصلاح الأخلاق هو طريقة الأنبياء، ومنه شيء كثير في القرآن وفيما ينقل إلينا من الكتب السماوية)13، فالقرآن الكريم لم يتجاوز هذا المسلك بل اعتبره طريقاً جيّداً لإصلاح النفوس من خلال الترهيب والتحذير من النار والترغيب في الجنّة.
وهناك آيات كثيرة أشارت إلى هذه الطريق.
قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بـِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ)14.
والباء في (بأنّ) للمقابلة، لذا ورد عن الإمام علي عليه السلام: (إنه ليس لأنفسكم ثمن إلا الجنّة فلا تبيعوها إلا بها)15 لا بدراهم معدودة أو رئاسة أو جاه محدود وما إلى ذلك من العناوين الاعتبارية التي نتقاتل عليها كلّ يوم صباحاً ومساء .ً
وقال أيضاً: (إنَّمَا يُوَفَّى الصَّابـِرُونَ أَجْرَهُم بـِغَيْرِ حِسَاب)16.
وقال أيضاً: (إنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)17.
وقال أيضاً: (إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بـِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انتِقَام)18.
كما أنّ هناك كثيراً من الروايات التي تعضد الآيات المباركة في تأييد هذا المسلك، وستأتي الإشارة إليها فيما بعد.
وهذا المسلك هو الغالب على الناس في تهذيب أخلاقهم وإصلاحها؛ قال الطباطبائي في تفسيره: (وطباع الناس مختلفة في إيثار هذه الطرق الثلاثة واختيارها، فبعضهم ـ وهو الغالب ـ يغلب على نفسه الخوف، وكلّما فكّر فيما أوعد الله الظالمين والذين ارتكبوا المعاصي والذنوب من أنواع العذاب الذي أعدَّ لهم، زاد في نفسه خوفاً، ولفرائصه ارتعاداً ويساق بذلك إلى عبادته خوفاً من عذابه، وبعضهم يغلب على نفسه الرجاء، وكلّما فكّر فيما وعده الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات من النعمة والكرامة وحسن العاقبة زاد رجاءً وبالغ في التقوى والتزام الأعمال الصالحات طمعاً في المغفرة والجنّة)19. من هنا نجد أنّ تلامذة الأئمّة عليهم السلام كانوا يطلبون منهم أن يرغّبوهم في الجنّة ويشوّقوهم إليها، أو يخوّفوهم من النار.
عن أبي بصير قال: قلت لأبي عبد الله الصادق عليه السلام: جعلت فداك يابن رسول الله، شوّقني إلى الجنّة، فقال: (يا أبا محمد إنّ من أدنى نعيم الجنّة يوجد ريحها من مسيرة ألف عام من مسافة الدّنيا وإنّ أدنى أهل الجنّة منزلاً لو نزل به أهل الثقلين الجنّ والإنس لوسعهم طعاماً وشراباً ولا ينقص ممّا عنده شيء…) 20.
فللجنّة درجات بعدد آيات القرآن الكريم، حسب ما ورد في الروايات الشريفة، ولذا يقال للعبد يوم القيامة: (اقرأ وارقَ)21، ولا يتصوّر بعضٌ أنّ المراد هو حفظ الآيات، وإلاّ قد يتفوّق بعض النواصب على كثير من شيعة أهل البيت عليهم السلام لكثرة حفظهم، بل المراد هنا أنّ ذاك العلم بالآيات قد صار عملاً، كما أشرنا إلى ذلك بحوثنا عن التوحيد العملي.
أضاف الإمام عليه السلام في وصف الجنّة: (… وإنّ أيسر أهل الجنّة منزلة من يدخل الجنّة فيرفع له ثلاث حدائق، فإذا دخل أدناهنّ رأى فيها من الأزواج والخدم والأنهار والأثمار ما شاء الله ممّا يملأ عينه قرّة وقلبه مسرّة، فإذا شكر الله وحمده، قيل له ارفع رأسك إلى الحديقة الثانية)22.
فالشكر إذن سبب لزيادة العطاء الإلهي حتّى في الآخرة؛ قال تعالى:(لَئن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ)23 فهو سبب ارتقاء الإنسان في مراتب الجنّة ودرجاتها.
ثمّ أضاف الإمام عليه السلام: (فيقول يا ربّ أعطني هذه، فيقول الله تبارك وتعالى: إن أعطيتك إيّاها سألتنـي غيرها. فيقول: ربّي هذه هذه)24 إذ لا حدّ لطمع الإنسان؛ باعتبار حبّه للكمال المطلق فكلّما يُعطى يريد المزيد.
ثمّ قال عليه السلام: (فإذا هو دخلها شكر الله وحمده أيضاً، فإذا شكر الله وحمده، فيقال: افتحوا له باب الجنّة، ويقال له: ارفع رأسك هذه الحديقة الثالثة، فإذا فتح له باب من الخلد ويرى أضعاف ما كان فيه، قيل: فيقول عند تضاعف مسرّاته: ربّي لك الحمد الذي لا يحصى إذ مننت عليَّ بالجنان ونجيتنـي من النيران).
قال أبو بصير: فبكيت، ثمّ قلت: جعلت فداك زدني، قال: (يا أبا محمد إنّ في الجنّة نهراً في حافته جوار نابتات إذا مرّ المؤمن بجارية أعجبته، قلعها وأنبت الله مكانها…)25. فلا ينقص عطاء الله بل لا تزيده كثرة العطاء إلاّ جوداً وكرماً، إذ كلّ ما وجد جوع وعطش وطلب وحاجة يوجد هناك عطاء وجود وكرم.
إلى أن يقول السائل: قلت: جُعلت فداك، ألهنّ كلام يكلّمن به أهل الجنّة؟ قال: (نعم، كلام يتكلّمن به لم يسمع الخلائق بمثله). قلت: ما هو؟ قال: (يقلن: نحن الخالدات فلا نموت، ونحن الناعمات فلا نبؤس ونحن المقيمات فلا نضعن ونحن الراضيات فلا نسخط، طوبى لمن خلق لنا وطوبى لمن خلقنا له، نحن اللواتي لو قرن إحدانا عُلّق في جوّ السماء لأغشى نوره الأبصار)26.
وفي رواية ليلة المعراج، أنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله قال: (لما أُسري بي إلى السماء دخلت الجنّة فرأيت فيها قيعان ورأيت فيها ملائكة يبنون لبنة من ذهب ولبنة من فضّة، وربّما أمسكوا، فقلت لهم: ما بالكم قد أمسكتم؟ فقالوا: حتّى تجيئنا النفقة. فقلت: وما نفقتكم؟ قالوا: قول المؤمن: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلاّ الله والله أكبر، فإذا قال بنينا، وإذا سكت أمسكنا..) 27.
وحين استبشر أصحاب الرسول صلى الله عليه وآله بهذا الخبر وظنّوا أنّ قصورهم في الجنّة كثيرة، قال لهم رسول الله صلى الله عليه وآله: (إياكم أن ترسلوا عليها ناراً فتحرقوها!)28. ثمّ قال: (… فهاتان الآيتان، قوله (وَهُدُوا إلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْل), قال: التوحيد والإخلاص… وقوله: (وَهُدُوا إلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ)29 قال: الولاية)، فالهدف إذن هو التوحيد والطريق هو الولاية، ولذا ورد عن أمير المؤمنين عليه السلام: (أنا الصراط المستقيم)30 فهو عليه السلام الصراط المستقيم الناطق.
______________________
(1) القيامة: 20، 21.
(2) نهج البلاغة، الكلمات القصار: ص 316.
(3) مصباح الشريعة، مؤسسة الأعلمي، بيروت: ص 8 .
(4) فصلت : 53.
(5) مفاتيح الجنان، دعاء عرفة.
(6) نهج البلاغة، ص 258، الخطبة 179.
(7) تفسير المحيط الأعظم والبحر الخضم للسيّد حيدر الأمين، حقّقه وقدّم له وعلّق عليه السيّد محسن الموسوي التبريزي ج1 ص272.
(8) الخصال: ج 1، ص240، ح90.
(9) الأنعام: 75.
(10) الحج: 46.
(11) الأعراف: 179.
(12) المطففين: 14.
(13) الميزان في تفسير القرآن، ج1، ص358.
(14) التوبة: 111.
(15) نهج البلاغة، ص556.
(16) الزمر: 10.
(17) إبراهيم: 22.
(18) آل عمران: 4.
(19) الميزان في تفسير القرآن، ج11، ص158.
(20) تفسير القمي، نشر مكتبة الهدى، قم 2 : 82 .
(21) آمالي الصدوق: ج440 ص 586.
(22) تفسير القمي: ج2 ص 82 .
(23) إبراهيم: 7.
(24) تفسير القمي: ج2 ص 82 .
(25) تفسير القمي: ج 2 ص 82 .
(26) تفسير القمي: ج2 ص 82 ـ 83 .
(27) البحار: ج18، ص292.
(28) أمالي الصدوق: ص607، ح16 المجلس 87.
(29) الحج: 24.
(30) نوادر المعجزاتللطبري، نشر وتحقيق مدرسة الإمام المهدي، قم، 1410، ص33.