لقد عُني مصنّفو الكتب الأخلاقية والعرفانية بتحرير أبحاث الطهارتين المادّية والمعنوية، واعتبروا المادّية منها في مقام الظاهر، والمعنوية أو الروحية منها في مقام الباطن، وأوضحوا لنا أنّ موضوع الطهارة المادّية هو البدن وملحقاته1، حيث يُراد من صاحبه تخليصه من جميع النجاسات المادّية فضلاً عن الأوساخ والقاذورات، وقد عقدوا لذلك أبواباً وفصولاً فصّلوا فيها موضوعات تنظيف الجسد والثياب والاهتمام بالتزيينات المندوب إليها والخضاب والتطيّب والسواك وغير ذلك2. ولا ريب أنّ النظافة والتزيين البدنيين أمران عقلائيان ندب الشارع المقدّس إليهما ورتّب عليهما أجراً وثواباً ترغيباً منه لذلك، حتّى ورد عن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله( النظافة من الإيمان، والإيمان مع صاحبه في الجنّة)3.
وعنه صلى الله عليه وآله: (من أخلاق الأنبياء التنظيف)4. وعنه صلى الله عليه وآله أيضاً: (طهِّروا هذه الأجساد طهّركم الله فإنّه ليس عبد يبيت طاهراً إلاّ بات معه ملك في شعاره، ولا يتقلّب ساعة من الليل إلاّ قال: اللّهمَّ اغفر لعبدك فإنّه بات طاهراً)5. وقد بلغ الحثّ على النظافة درجة أن يُطلب منّا بذل قصارى جهدنا في تحصيل ذلك، فعن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله: (تنظّفوا بكلّ ما استطعتم فإنّ الله تعالى بنى الإسلام على النظافة ولن يدخل الجنّة إلاّ كلّ نظيف)6. ولا ريب أنّ الحثّ الشرعي المؤكّد يعكس لنا جوانب كثيرة أهمّها الاهتمام بأصل الظاهر لأنّه وجه الباطن وحلقة وصل ضرورية إليه. كما لا ريب أنّ الطهارة والنظافة الظاهرية (البدنية) توفّر مناخات أفضل للنظافة والطهارة الباطنية، ولا يبعد أن يكون جملة من الأعمال المقتضية لتنظيف الظاهر مفاتيح مهمّة للدخول إلى أمكنة النظافة الباطنية ووسائل فعلية تُضفي استعدادات أخرى للوصول إلى تنظيف الباطن.
إنّ الشريعة المقدّسة قد حثّت كثيراً على حفظ الظاهر لأنّه البوّابة الفعلية الأولى للباطن، وقد ألفت أنظارنا في موارد عديدة إلى وجود الظاهر والباطن وأنّ حفظ الظاهر أمر لابدّ منه ولا بديل عنه البتّة. فالصلاة ـ مثلاً ـ لها ظاهر وباطن، ظاهرها تلك الأركان والواجبات المخصوصة من قيام وركوع وسجود و…، وباطنها ـ وهو ما يمثِّل حقيقة الصلاة ـ يتمثّل بالانقطاع التامّ لله تعالى وقطع الالتفات كلّياً عمّن سواه، وهو ما يسمّى أيضاً بالخشوع أو الحضور القلبي. ولا ريب أنّه لا وسيلة لهذا الانقطاع والحضور الصلواتي إلاّ بواسطة تلك الأركان المخصوصة؛ فإنّ (العبادات صور لها حقائق تشير إليها، وأسباب هي الباعثة عليها. فالأمر بالطهارة الصورية يشير إلى الطهارة المعنوية، والركوع والسجود وجميع أجزاء الصلاة تشير بخشوعها وتذلّلها الظاهري إلى طلب الحقيقة المعنوية…)7.
من هنا يمكننا من مجموع التأكيدات الكثيرة جدّاً لأهمّية وضرورة التوفّر على النظافة الظاهرية أن نتصيّد العلاقة الوثيقة جدّاً بين الظاهر والباطن، وأنّه لا يمكن الوصول إلى باطن النظافة دون التوسّل بالظاهر منها، ومن عجز عن توفير الظاهر فهو عن توفير الباطن منها أكثر عجزاً.
وأمّا بالنسبة إلى النظافة والطهارة الباطنية ـ وهي الأهمّ مرتبة والأصعب تحقّقاً ومنالاً ـ فإنّ موضوعها هو تطهير النفس أو القلب أو الروح8 من الأدران المعنوية وجميع الرذائل والموبقات والخبائث الباطنية، من قبيل الكذب والرياء والعجب والحسد وسوء الظنّ والعصبية الجاهلية والنفاق والنميمة، فضلاً عن الشرك والكفر والإلحاد، وغير ذلك ممّا هو مدوّن في كتب الأخلاق والعرفان العملي.
إنّ تحصيل الطهارتين من الشروط الأساسية للوصول إلى تلك المعارف الفطرية الحقّة، ولذا فعدمهما أو عدم أحدهما يُشكِّل مانعاً فعليّاً يحجب طالب المعرفة عن الوصول إلى مراده.
وقد وُضِعت في هذا المقام مسالك ومذاهب لتحصيل الطهارة الباطنية توافقت جميعاً على ضرورة ترتّب مراحل ثلاث، وهي:
1 ـ التخلية.
2 ـ التحلية.
3 ـ التجلية.
ويُراد بالتخلية الخلوص من الرذائل والموبقات والقاذورات المعنوية، والتي يمكن عنونتها جميعاً بالأخلاق الذميمة، ويرى البعض أنّ المراد من قوله تعالى: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا)9 تطهير النفس من الأخلاق الذميمة10.
فالتخلية: تعبير آخر عن التزكية، فإذا ما عبّر بتزكية النفس فإنّ المراد هو تطهيرها وتخليتها من الرذائل والأخلاق الذميمة.
ويُراد بالتحلية: التخلّق بالفضائل والمناقب المعنوية والتي يمكن عنونتها جميعاً بالأخلاق الكريمة.
والتجلية: تلقّي المعارف الحضورية أو انعكاسها على صفحة القلب المزكّى. فالتخلية طرد؛ والتحلية جذب؛ والتجلية إشراق.
بعبارة أخرى: إنّ التخلية هي نزع رداء المنكر محرّمه ومكروهه، والتحلية هي لبس رداء المعروف واجبه ومندوبه، ليستعدّ القلب بعدها لتلقّي الفيوضات الربّانية المعبَّر عنها في جملة من الروايات بالنور الذي يقذفه الله في قلب من يريد أن يهديه، وهذا النور هو كناية عن المعارف والعلوم الحقّة. وقد جاء في حديث عنوان البصري عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام: (ليس العلم بكثرة التعلّم، إنّما هو نورٌ يقع في قلب من يُريد الله أن يهديه)11. ومن الواضح أنّ النور الواقع في القلب أو الذي يقذفه الله في القلب ـ كما جاء في ألسنة أخرى12ـ لا يُراد به العلم الحصوليّ الظاهري وإن كان تحقيقيّاً، وإنّما هو خصوص العلم الحضوريّ الشهودي بواسطة عيني القلب، أو ما يُعبّر عنه بعلم الباطن المُشار إليه بقول الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله: (علم الباطن سرٌّ من أسرار الله عزّ وجلّ، وحكم من أحكام الله، يقذفه في قلوب من يشاء من عباده)13، وهذا النور الواقع في القلب أو المقذوف فيه والمرئيّ بعين القلب قابل للقوّة والضعف والاشتداد والنقص كما هو حال سائر الأنوار الحسّية، وقد نبّه القرآن الكريم إلى هذه النكتة بقوله تعالى: (وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً)14، وبقوله تعالى: (وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً)15. إنّ أصل هذا النور الإلهيّ القُدسي والزيادة فيه يحتاج إلى مرآة صافية طاهرة ينعكس فيها، وهذا لا يكون إلاّ بحصول التخلية والتحلية في رتبة سابقة، فإنّ الأخلاق الذميمة هي المغارس الفعلية للنقائص والمعائب، ومنابت الرذائل في القلب، ومنشأ الحُجب والجُدُر.
حقائق أربع
هنا نودّ الوقوف عند حقائق أربع ذات أهمّية كبيرة، وهي:
1 ـ الطولية بين المراحل الثلاث.
2 ـ حضور الفيض وعدم انقطاعه أبداً.
3 ـ حضور الفيض مع عدم الالتفات له.
4 ـ أزليّة تجلّي الفيض.
أمّا الحقيقة الأولى فإنّ الطولية المشار إليها بين المراتب الثلاث لا تعني ضرورة إتمام المرحلة السابقة ثمّ الولوج في المرحلة اللاحقة، وإنّما المراد الطولية بين مصاديق الأخلاق الذميمة ومصاديق الأخلاق الكريمة.
توضيح ذلك: لو أخذنا مثالاً واضحاً لخُلُق ذميم كالتكبّر ـ مثلاً ـ فإنّ النفس المرتدية لهذا الخلق الذميم لا يسعها قبول الفيوضات المتوقّفة على رفع هذا المانع، فلابدّ من رفع التكبّر عن النفس وخلع ثوبه الرديء، وذلك بتربية النفس على التواضع، فيكون التواضع طارداً للتكبّر، وهذا هو معنى التخلية والتحلية.
فقلع الأشجار الخبيثة من مزرعة النفس يراد منه زرع أشجار طيّبة محلّها، لا أن نترك التكبّر فعّالاً في النفس ثمّ نحاول في عرض وجوده التخلّق بخلق التواضع؛ فإنّ هذا العمل غير مُجد البتّة، فهو أشبه بالذي امتلأ جسده بالقاذورات المادّية والروائح الكريهة ثمّ يُريد تعويض هذا النقص بوضع العطور الطيّبة، فإنّ العطور الطيّبة مهما كانت فاخرة تبقى عاجزة عن تغييب تلك الروائح الكريهة المنبعثة من الجسد كلّه، فلابدّ من الاغتسال أوّلاً ثمّ التحلّي بالعطور الطيّبة.
فالطولية لا تعني إتمام مراسم المرحلة السابقة ثمّ الدخول في اللاحقة، إنّما يُراد بها الطولية بين كلّ مصداق وما يقابله، فإذا ما أُريد علاج مصداق من مصاديق الأخلاق الذميمة فإنّ المراد من رفعه وقلع جذوره من النفس هو تربية النفس على تجاوزه وطرده بواسطة الخُلق المقابل له.
وبذلك يتّضح لنا أنّ كلّ مرحلة في حدود المصداق المراد معالجته تُوجب حفظ الطولية لا في المرحلة كاملة، بعبارة أخرى: إنّه لا يُراد من الطولية أن يرفع الإنسان عن نفسه جميع الأخلاق الذميمة ثمّ ينتقل إلى مرحلة التحلية بالأخلاق الكريمة كاملة.
وفي ضوء ذلك يتّضح لنا أنّ التجلّيات المصداقية هي الأخرى تبع لكلّ مرحلة في دائرة تحقّق المصداق الذي يعنيها لا أنّها تبع لإتمام المرحلة الكاملة. فمرحلة التجلّي لا تعني ضرورة إتمام المرحلتين السابقتين بجميع مراتبها ومفاصلها وخصوصيّاتها، فذلك توهّم لا ينبغي الوقوع فيه، وإنّما المراد هو أنّ كلّ معالجة جزئية من الأخلاق الذميمة يتبعها التزوّد بالخلق الرفيع الكريم المقابل لها، وبالتالي حصول التجلّيات الخاصّة بهذه التزكية والتربية16 الجزئيّتين، إلاّ إذا كان هنالك مانع آخر يدخل في استيفاء الشروط العامّة لا الخاصّة لحصول التجلّي الخاص بكلّ مفردة. الكذب والرياء اللذان ينضوي وراءهما شرك خفيّ، ربّما يُعتبر رفعهما شرطاً عامّاً في حصول التجلّيات الأخرى غير الخاصّة بمقابليهما. فالصدق ـ وهو ضدّ الكذب ـ له تجلّياته الخاصّة به، والحقيقة وهي ضدّ الرياء لها تجلّياتها الخاصّة بها أيضاً، وقد يكون أيّ منهما شرطاً عامّاً في حصول التجلّيات الأخرى الخاصّة بالأخلاق الكريمة الأخرى، فربّما يخلع المتكبِّر رداء التكبّر عنه ويتواضع للخالق والمخلوق معاً ولكنّه يُمنع عن تجلّيات هذه التزكية والتربية لكونه كذّاباً أو مُرائياً17. ولكنّ هذه التجلّيات التي تقع في دائرة التزاحم في حصول التجلّيات ليست هي السمة البارزة والطاغية على جميع التفصيلات الأخرى، فالقاعدة العامّة هي انعكاس التجلّيات الخاصّة بكلّ خُلق كريم على صفحة القلب، وهذا هو العلم الإلهيّ الحقّ، وهو بدوره يُمثِّل نافذة مهمّة يمكن أن يطلّ الإنسان من خلالها على فطرته السليمة بقدر تلك النافذة وسعتها. هذا فيما يتعلّق بالحقيقة الأولى.
وأمّا الحقيقة الثانية ـ وهي حضور الفيض وعدم انقطاعه أبداً ـ فإنّ الفيض الإلهي كان ـ ولم يزل ـ موجوداً أزليّاً أبديّاً سرمديّاً غير قابل للنفاد أو النقص أبداً.
بعبارة أخرى: إنّ الفيوضات الإلهية ليست محجوبة عنّا أبداً وهي أقرب إلينا من حبل الوريد، بل نحن المحجوبون عنها نتيجة الموانع والحصون المنيعة التي تلبّس بها القلب. فالفيض الإلهيّ الخاصّ بكلّ خُلق كريم لا يوجد بعد حصوله وإنّما هو موجود دائماً وأبداً ولكن الخُلق الذميم المقابل له يمنع من ظهوره وتجلّيه على صفحات القلب.
إنّ الفيوضات الإلهية موجودة وقريبة من الإنسان أيّاً كانت هويّته ومعتقده، فهي قريبة حتّى من قلب المشرك والكافر فضلاً عن قربها من قلب المؤمن الفاسق فضلاً عن المؤمن السويّ المستقيم، ولكن الموانع العرضية التي أوصدت منافذ القلب وحطّمت مصابيحه حجبت النور عن تجلّيها في القلوب.
وأمّا بالنسبة للحقيقة الثالثة وهي حضور الفيض مع عدم الالتفات إليه فمفاده أنّ التجلّيات الخاصّة بكلّ صفة كريمة تأخذ مجراها ولا يمنعها من الظهور القلبي شيء، ولكن مع ذلك لا يُلتفت إليها نظراً لشدّة الاشتغال بالمادّيات. فالإنسان المنحرف إذا كان كريماً ربّما لا يلتفت إلى روحانية وقداسة هذه الصفة الإلهية ولا يستشعر أنوارها في قلبه، ولا يقف على آثارها السلوكية وأبعادها العملية، ولو التفت إلى ما هو عليه لكان له شأن آخر ربّما يأخذ بتلابيبه نحو اتّجاهات صائبة.
إنّ عدم الالتفات إلى هذه الرحمات المعنوية والانعكاسات النورانية يكاد أن يكون أمراً طبيعيّاً وحاصلاً للسواد الأعظم من الناس، فما من إنسان إلاّ وله صفة حسنة ظاهرة أو باطنة لها تجلّياتها الخاصّة بها، وفي الأعمّ الأغلب لا يُلتفت إليها، ولكن عدم الالتفات إليها لا يُعطّل أثرها الوضعيّ الإيجابي على الإنسان وإنّما يُعطّل أثرها الإيجابيّ الآخر وهو إيجاد الدافعية نحو التمسّك بها أوّلاً والتخلّق بغيرها من الأخلاق الكريمة ثانياً، فهي بدورها الأوّل أشبه بالأعضاء الباطنية الفاعلة في جسد الإنسان كالقلب والرئة والكبد وغيرها، فإن أدرك الإنسان خصوصيّات كلّ عضو منها وأهمّية عمله في وظائف الجسد فإنّه سوف يُبدي من الاهتمام الفائق للحفاظ على ذلك العضو من التلف أو المرض، ومن ثمّ سيُبدي الاهتمام البالغ أيضاً بغيره من الأعضاء لمعرفته الإجمالية بوجود خصائص دقيقة وضرورية للعضو الآخر. هذا ولو أدرك المؤمن ما هو عليه من النعيم المُعجّل لهانت عليه الدُّنيا وما فيها، ولما عادت تساوي عنده فتيلاً18، ولكنّ البصر القلبي ضعيف يحجب عنه ما هو فيه وعليه؛ فتجده متخبّطاً في جملة من سلوكيّاته يخلط عملاً صالحاً وآخر سيّئاً.
إنّ الجهل بالتجلّيات القلبية وآثارها السلوكية يمثِّل هو الآخر خسارة روحية عظيمة، ولا ريب أنّ مقدار الأُنس الذي يعيشه الإنسان بعالم المادّة والحسّ يتناسب عكسياً مع درجة الالتفات إلى التجلّيات القلبية، فكلّما ازدادت درجة الالتفات إلى المادّيات قلّت درجة الالتفات إلى التجلّيات الحاضرة في القلب، والعكس بالعكس. وأمّا الحقيقة الرابعة في المقام ولعلّها الأخطر19 معرفيـّاً فهي تحقّق التجلّيات كاملةً في قلب الإنسان دون استثناء. فالإنسان دائماً وأبداً موضع التجلّيات الإلهية والأنوار الربّانية، فهي كائنة قائمة فيه، وهذا هو سرّ انطوائه على العالم الأكبر20، وبذلك سوف يأخذ التجلّي معنىً آخر وهو الحضور الدائم الذي لا يعتريه غياب قطّ، ولكنّ المشكلة تكمن في الكشف عن تلك التجلّيات الحاضرة أبداً. إنّ التجلّي بمعناه المعهود كان يعني الظهور للمفردة المعنوية في مواضع كانت غائبة عنها، وهذا التجلّي في الموضع الجديد لا يصاحبه الخلوّ عن الموضع السابق، فالحركة والانتقال ليست على نحو التجافي التي هي ناموس عالم الحسّ. ومن أدلّة كينونة وديمومة وأبديّة التجلّيات الإلهية في النفس الإنسانية نفس الفطرة الكامنة فيه والتي تُساوق وجوده، كما عرفت.
إنّ هذه الفطرة المُستبطِنة للمعارف الإلهية الرئيسية موجبة لوقوع الفيوضات الإلهية وتجلّي الأنوار الربّانية بما لا عين رأت ولا أُذن سمعت ولا خطر على قلب بشر. ولكنّك قد عرفت أنّ الاستغراق في عالم المادّة والنقص، والأنس بالحسّيات الموجب لتمزّع القلوب ومكوثها في الحواضن الغيرية قد حجب القلوب الطاهرة ابتداءً عن الإشراقات الملكوتية.
عن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله: (لولا تمزّع قلوبكم وتزيّدكم في الحديث لسمعتم ما أسمع)21، وعنه صلى الله عليه وآله: (لولا أنّ الشياطين يحومون على قلوب بني آدم لنظروا إلى الملكوت)22. ولا ريب أنّ حواضن الشياطين والمناخات المناسبة لها هي كدورة القلب وقاذوراته المعنوية، فذلك هو الوسط الحيويّ الذي تنشط فيه وتُمارس فيه الهمز واللمز والنزغ. ولذا يتعيّن على طالب المعرفة الحقّة بواسطة الفطرة أن يرجع إلى مستقرّه الأوّل وصبغته الأولى وقلبه خلو من الشوب والكدورة والشغب، فلا سبيل لنيل المعارف الفطرية الأولى إلاّ بالشفاء من تلك العلل والأمراض المعنوية. فتلخّص ممّا تقدّم أنّ الطهارة بقسميها المادّي والمعنوي شرط أساسيّ في طريقيّة الفطرة إلى المعارف الحقّة، ولا يُجدي نفعاً الأخذ بأحد القسمين دون الآخر، فإنّ الباطن طريقه الظاهر، والظاهر وحده لا يكفي.
وأشبه تطهير الظاهر بالطلاء الجاذب للأنظار، وتطهير الباطن بالدواء الناجع القاضي على أصل المرض والأورام والوجع. إنّ المعتني بالطهارة الظاهرية دون الباطنية (كمريض ظهر به الجرب، وقد أُمر بالطلاء وشرب الدواء ـ أمّا الدواء ليزيل ما على ظاهره، والدواء ليقلع مادّته من باطنه ـ فقنع بالطلاء وترك الدواء، وبقي يتناول ما يزيد في المادّة، فلا يزال يُطلي الظاهر، والجرب دائماً يتزايد في الباطن إلى أن أهلكه)23.
وقبل أن ننتقل معاً إلى الآلية الثانية ينبغي التنبيه إلى أنّ المراحل الثلاث (التخلية والتحلية والتجلية) يمكن تسريتها إلى الطهارة الظاهرية أيضاً؛ فرفع النجاسات والأوساخ المادّية العارضة على البدن أو الخارجة منه أمرٌ ضروريّ، ولكنّه يحتاج بعد الرفع إلى وضع آخر لحصول الزينة الظاهرية من قبيل التطيّب وانتخاب اللباس الحسن وما شابه ذلك، فذلك الرفع هو التخلية، وذلك الوضع هو التحلية، وبعدهما يتجلّى بهاء الإنسان الظاهري فيكون قريباً إلى القلوب وجميلاً في العيون.
———————————————————
(1) كالثياب والمسكن.
(2) يمكن الرجوع في ذلك إلى كتاب مرآة الكمال لمن رام درك مصالح الأعمال للشيخ عبد الله المامقاني، وهو كتاب قيِّم جدّاً بثلاث مجلّدات.
(3) بحار الأنوار للشيخ محمّد باقر المجلسي، مؤسّسة الوفاء، الطبعة الثانية المصحّحة، 1983م، بيروت: ج59 ص 291.
(4) تحف العقول عن آل الرسول للشيخ أبي محمّد الحسن بن عليّ بن الحسين بن شعبة الحرّاني، مؤسّسة النشر الإسلامي، الطبعة الخامسة، 1417هـ، قم: ص442.
(5) ميزان الحكمة للشيخ محمد الري شهريّ، نشر وتحقيق دار الحديث، الطبعة الأولى، 1416 هـ: ج4 ص 3302 ح 20316.
(6) المصدر السابق: ج4 ص 3303 ح 20327.
(7) كشف الغطاء عن مبهمات شريعة الغرّاء، للشيخ جعفر كاشف الغطاء، الطبعة الحجرية، مطبعة أصفهان: ج1 ص 69.
(8) النفس والقلب والروح كلمات تشير إلى مسمّى واحد وحقيقة واحدة عند علماء الأخلاق، وهي تلك الحقيقة الكامنة وراء البدن، وأمّا عند العرفاء فإنّها ألفاظ تشير إلى مراتب مختلفة. انظر: التربية الروحية للسيد كمال الحيدري، الناشر دار فراقد، الطبعة السادسة، 1424 هـ ، قم: ص183.
(9) الشمس: 9.
(10) نظر: الحدائق الناضرة للشيخ المحقّق ميثم البحراني، تحقيق الشيخ محمد تقي الإيرواني، نشر جماعة المدرّسين، قم: ج12 ص 2؛ مجمع البحرين للشيخ فخر الدين الطريحي، تحقيق السيّد أحمد الحسيني، نشر مكتبة نشر الثقافة الإسلامية، الطبعة الثانية، 1408هـ: ج2 ص 281.
(11) منية المريد للشيخ زين الدين بن علي العاملي (الشهيد الثاني)، نشر مكتب الإعلام الإسلامي، الطبعة الرابعة، 1418هـ، قم: ص148.
(12) انظر: بحار الأنوار، مصدر سابق: ج67 ص 140.
(13) ميزان الحكمة، مصدر سابق: ج3 ص 2107 ح 14161.
(14) الأنفال: 2.
(15) طه: 114.
(16) التزكية تعبير آخر عن التخلية، والتربية تعبير آخر عن التحلية.
(17) لعلّ السرّ في مانعيّة بعض الصفات من ظهور تجلّيات صفات أخرى كريمة قد تحقّق بها طالب المعرفة هو رجوع هذه الصفات الكريمة إلى أسماء الله الحسنى وصفاته الأسمى، وهنالك نوع حاكميّة لبعض الأسماء على أسماء أخرى، كحاكميّة القيّومية على صفات أخرى.
(18) أصل الفتيل ما يفتل وهي ليّ الشيء، والفتيل عبارة عن الشيء الحقير، وقيل: هو ما يكون في شقّ النواة، وقيل: هو ما فتلته بين أصابعك من الوسخ. انظر: مجمع البيان في تفسير القرآن لأبي علي الفضل بن الحسن الطبرسي، مؤسّسة الأعلمي للمطبوعات، الطبعة الأولى، 1415هـ، بيروت: ج3 ص 103 ـ 104.
(19) لا يراد بالخطر المعرفيّ الخطر العرفيّ الباعث على الأذى والمخاوف وإنّما المراد به عظيم المنزلة وجلالة المقام، ومن هنا يُقال عن ذي المنزلة الرفيعة أنّه على خطر عظيم.
(20) إشارة إلى ما نُسب إلى أمير المؤمنين عليه السلام حيث يخاطب الإنسان قائلاً:
وتزعمُ أنّك جُرمٌ صغير وفيك انطوى العالم الأكبر
وقد روي عن الإمام الصادق عليه السلام قوله: (الصورة الإنسانية هي أكبر حجّة لله على خلقه وهي الكتاب الذي كتبه الله بيده). تفسير الصافي للفيض الكاشاني منشورات الأعلمي، 1982م، بيروت: ج1 ص 92.
وإنّما سُمّي الإنسان إنساناً لظهوره في قِبال الجنّ حيث سُمّي بذلك لخفائه. انظر: مجمع البحرين، مصدر سابق: ج1 ص 122.
(21) ميزان الحكمة، مصدر سابق: ج3 ص 2605 ح 16956.
(22) المصدر السابق: ج3 ص 2604 ح 16945.
(23) منية المريد، مصدر سابق: ص159.