التقوى هي حفظ النفس عمّا يؤثِم؛ بترك المحظور. ويتمّ ذلك بترك بعض المباحات1. ومن خلال الإشارة إلى ترك بعض المباحات يُفهم أنّ المراد من المحظور هو الأعمّ من المحرّم والمكروه، فضلاً عن الإتيان بالمطلوب واجبه ومندوبه. ولكن حيث إنّ التقوى ذات مراتب، فكلّ إنسان يتّقي بحسب مرتبته المعرفية والسلوكية، وهذه التقوى بتفرّعها على انقسام العمل إلى ظاهريّ وباطنيّ تنقسم هي الأخرى إلى تقوى ظاهرية وأخرى باطنية. فمن يرغب بالفحشاء ويمنع نفسه عن الانصياع لصوت هواه في العلن فذلك يتمتّع بتقوى ظاهرية في هذا المورد، والذي يرغب بالفحشاء ويمنع نفسه من الانصياع لهواه في السرّ والعلن فذلك إنسان يتمتّع بتقوى يمكن أن نصطلح عليها بالتقوى البرزخية، وهي أرفع درجة من الظاهرية فحسب، ولكن في هذا المورد فحسب أيضاً، وأمّا من انقطعت في نفسه حبائل الرغبة بالفحشاء فلا يجد في نفسه الداعي لذلك مع قدرته على الفعل، فذلك إنسان يتمتّع بالتقوى الباطنية، وهي التقوى الحقيقية المفضية إلى تجلّيات الحقّ في قلبه.
إنّ الامتناع عن ارتكاب الفحشاء في العلن خُلقٌ كريم، والامتناع عنها في السرّ والعلن خُلقٌ أكرم، ولكنّهما غير قاضيين على ذلك المرض النفسي البذيء الذي يحرِّك صاحبه دائماً باتّجاه الفحشاء باحثاً عن نقطة ضعف يفقد الإنسان توازنه فيها، فلابدّ من القضاء على أصل الرغبة بالفحشاء وحصول النفرة منها ظاهراً وباطناً ليكون الإنسان متّقياً حقّاً في مورده هذا.
إنّ التقوى الحقيقية الحقّة تمثِّل مرتبة معرفيـة ومقاماً معنوياً يندرج في السقف الأوّل من مجموع المراتب الأخلاقية، بل هي رئيس الأخلاق الكريمة على حدّ تعبير أمير المؤمنين عليّ عليه السلام حيث يقول: (التقى رئيس الأخلاق)2.
إنّ هذا التوقّي المعرفيّ السلوكي بمرتبته الأعلائية هذه يُشكِّل سُلّماً متيناً يُفضي بصاحبه إلى حاضرة الفطرة الطاهرة.
إنّ الامتناع عن الفحشاء سرّاً وعلناً مع الاشتغال القلبي بها يمنع الإنسان عن السقوط الخلقي ويدفع عنه جملة من الآثار الوضعية المقيِّدة لحركة الإنسان نحو الفضيلة، ولعلّ امتناعه ذلك يكون مُوجباً لتوفيقات معنوية مرتبطة بأثر الترك نفسه، ولكن ذلك كلّه لا يُعطي الضمانة لطالب المعرفة الحقّة أبداً في العود إلى فطرته الأولى. إذاً فلابدّ من التقوى الحقيقية الحقّة في العمل ظاهره وباطنه؛ ليتسنّى لنا العود إلى حاضرتنا الأولى تحصيلاً للمعارف الإلهية الأولى.
يقول السيّد الآملي: (إنّ التقوى هي أحسن الوسائل لإفاضة النور، تُوجب إمكان مطالعة ومشاهدة حقائق العالم، وأسرار الإنسان، ومعارف القرآن)3.
إنّ كلّ عمل صغيراً كان أو كبيراً، له صورتان ووجودان يتمثّلان بالظاهر والباطن، وقد عرفت ذلك. فالصلاة ـ مثلاً ـ صورتها الظاهرية هي الأركان المخصوصة بها من قيام وركوع وسجود و…، وأمّا صورتها الباطنية فهي الخشوع وحضور القلب، ومعنى حضور القلب ـ كما عرفت أيضاً ـ هو عدم الالتفات إلى الأغيار وأنت في تفصيلات الصلاة، فلا يكون المُصلّي مصلِّياً وقلبه فريسة لرغبات وشهوات وهموم وتمنّيات وأحلام يقظة. ولا ريب أنّ ذلك الباطن الحضوريّ الشهودي لا طريق له سوى ذلك الظاهر الأركاني، فلا الظاهر وحده ذو قيمة حقيقية، ولا الباطن يكون بدون ذلك الظاهر، فلابدّ من الجمع بينهما في أداء العمل الواحد، أمّا أن يأتي بظاهر الصلاة وقلبه منصرف عن قبلة الحقّ إلى قبلات الباطل (فَمَاذَا بَعْدَ الحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ)4، فإنّه يكون قد أتى بباطن آخر، بل ببواطن أخرى كلّها محظورة الحضور ومحرمة الظهور، وهذا خلاف صريح للتقوى.
بعبارة أخرى: إنّ هذا المُصلّي لغير الله تعالى قد حفظ التقوى الظاهرية الصرفة بتوجّه بدنه صوب القبلة الحقّة ولكنّه لم يحفظ توجّه بوصلة القلب نحو الحقّ، فزاغ وعصف بها الهوى باتّجاهات مختلفة وحطّ بها طائر الخيال على أغصان زائفة، فأيّ صلاة صُلّيت هذه؟! وأيّ معبود قُصِدَ فيها؟!
إنّ التجافي عن دار الغرور ينبغي أن ينعكس ظلّه على الباطن فينصرف كلّه عن الكلّ إلى الكلّ5، لتكون التقوى الحقّة المفضية إلى الفطرة الأولى والمُفضية هي الأخرى إلى عالم النور. ولا ريب أنّ ركوع القلب وسجوده باتّجاه القبلات المختلفة الأخرى إنّما هو دليل الأنس بها والوحشة عن قبلة الحقّ سبحانه، فلا يُجمع في قلب واحد توجّهان وقبلتان إحداهما للحقّ والأخرى لسواه، فإنّ الأُنس بالله تعالى مُستبطن للوحشة عمّا سواه، ومن توهّم الجمع بين الأُنسين معاً ما عرف الأُنس بالله قطّ. فإذا ما اتّقى العبد ربّه بذلك النحو الطارد للأغيار ظاهراً وباطناً في سائر أعماله، فسوف يكون موضعاً لقبوله ومحبّته. ومَن قُبلت بضاعتهُ وازدان بمحبّته صار موضعاً لمعرفته الحقّة، وهذا هو الهدف الأعلائيّ الذي نصبو إليه بتوسّط نافذة الفطرة التي لا يلج عالمها العبد إلاّ بآليّاتها الحقّة ومنها التقوى في العمل ظاهراً وباطناً، كما عرفت.
إنّ هذه التقوى الحقيقية المبتنية على مراعاة الظاهر والباطن في العمل كفيلة بتحقيق سُنّتين إلهيّتين عظيمتين، حيث جُعلت شرطاً في تحقّقهما، أمّا السنّة الإلهية الأولى فهي تعليم الله تعالى إيّانا؛ قال تعالى: (وَاتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ)6.
إنّه تعليم من قِبل عالم الغيب والشهادة الذي (لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأرضِ وَلاَ أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلاَ أَكْبَرُ…) 7، ومن الواضح أنّ التعليم الإلهي سواء كان بواسطة إلهام أو نكت في القلب أو وحي أو شهود فهو لا يخرج عن دائرة العلم اللدنّي، ذلك العلم الذي تتّسع به الرقعة الوجودية لكلّ عالم مُتحقّق به. ولك أن تتأمّل مليّاً لتُدرك جلالة هذا العلم والتعليم والمعلِّم، ولا ريب أنّك تُدرك معنا أنّ من خصوصيّات المعلِّم الكامل إدراكه وعلمه المسبق باستعدادات وقابليّات مريديه، وحكمته التامّة المقتضية لوضع كلّ شيء في موضعه المناسب له، فلا يُفضي لمريديه شمّة علم إلاّ بما يصلح حالهم في أُولاهم وأُخراهم، وهل يُقاس بالعليم الحكيم ـ جلّت عظمته ـ شيء أو يُقاربه شيء في علمه وحكمته؟ لقد كان الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله يقول: (لا أعلم إلاّ ما علّمني ربّي)8 و(أدّبني ربّي فأحسن تأديبي)9، وأيّ علم يحتاجه العبد إذا تكفّل الله سبحانه بتعليمه وتأديبه؟ وأمّا السنّة الإلهية الأخرى التي تكفّلت التقوى الحقيقية بتحقيقها والتي لا تقلّ عظمة عن الأولى فهي جعل الفرقان للعبد المتّقي يفرّق به بين الحقّ والباطل على صعيد الاعتقاد والعمل والرأي؛ قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً)10، أولئك الذين ينعمون بنور إلهيّ يسعى بين أيديهم وبأيمانهم. وينبغي الالتفات إلى أنّ الأعمال كافّةً لها ظاهر وباطن لا خصوص الأعمال العبادية، ومن ثمّ ينبغي اشتمالها على قصد الحقّ وحده بأدائها وإن كانت أكلاً وشرباً وما شابه ذلك. وحيث إنّ التقوى هي الضابط الفعلي في صدق التوجّه والسلوك والعمل فإنّه قد عُدّ العمل القليل مع التقوى خيراً من العمل الكثير بدونها، كما أنّ قليل العمل مع التقوى خيرٌ من كثير العمل بلا تقوى11، بل (لا يقلّ عمل مع تقوى، وكيف يقلّ ما يُتقبّل)12. ولا يستخفّنَّ أحد بصغيرة أو كبيرة من سائر أعماله، فأيّاً كان عمله ولو كان مقدار ذرّة خيراً أو شرّاً فإنّ له أثره، فإن كان خيراً فخير، وإن كان شرّاً فشرّ، وينبغي أن يُعلم أنّ كلّ إقبال على طاعة وإعراض عن سيّئة يُوجب جلاءً ونوراً للقلب يستعدّ به لإفاضة علم يقينيّ، ولكنّ هذين الأمرين ـ الإقبال والإعراض ـ قلبيّان لا ظاهريّان فحسب، فيكون المقصود واحداً لا غير، وهو الواحد الأحد. ولا ريب أنّ الإقبال والإعراض القلبيّين لا يتجلّيان إلاّ بالتقوى الحقيقية الحقّة، وذلك هو الإحسان في العمل (إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ المُحْسِنِينَ)13.
ــــــــــــــــــــــــــ
(1)مفردات ألفاظ القرآن للراغب الأصفهاني، تحقيق صفوان عدنان الداوودي، انتشارات ذوي القربى، الطبعة الثالثة: ص881، باب (وقى).
(2) نهج البلاغة نسخة المعجم المفهرس، نشر مؤسسة النشر الإسلامي، الطبعة الخامسة، 1417 هـ، قم: قصار الحكم، رقم (410).
(3) تفسير المحيط الأعظم والبحر الخضمّ للسيّد حيدر الآملي، تقديم وتحقيق وتعليق السيّد محسن الموسوي التبريزي، نشر المعهد الثقافي نور على نور، الطبعة الأولى، قم: ج1، مقدّمة الطبعة الثانية.
(4) يونس: 32.
(5) إنّها كلمة عظيمة بليغة، أراد بها سيّدنا الأستاذ ضرورة الانصراف القلبيّ الكلّي من قِبل العبد ـ فلا يبقى في قلبه خاطر أو هاجس أو إشارة خارجة عن دائرة الانصراف هذه ـ عن الكلّ الإمكاني بقضّه وقضيضه وأحرامه وشراشره إلى الكلّ الحقيقي وهو الله وحده، إذ لا شيء سواه ولا وجود حقّيّ إلاّ هو، فهو بكلّ شيء متفرّد ولا شريك له، فلابدّ أن يُقصد وحده إذ لا شريك له، فهو لا شريك له في الوجود، ولا شريك في الخالقية، ولا شريك له في الرازقية… ولا شريك له في المقصودية أيضاً، فانتبه.
(6) البقرة: 282.
(7) سبأ: 3.
(8) بحار الأنوار، مصدر سابق: ج17 ص 229.
(9) المصدر السابق: ج16 ص 21.
(10) الأنفال: 29.
(11) عن المفضّل بن عمر قال: كنت عند أبي عبد الله الصادق عليه السلام فذكرنا الأعمال، فقلت أنا: ما أضعف عملي! فقال عليه السلام : استغفر الله.
ثمّ قال لي: إنّ قليل العمل مع التقوى خيرٌ من كثير العمل بلا تقوى.
قلت: كيف يكون كثيرٌ بلا تقوى؟
قال عليه السلام : (نعم، مثل الرجل يُطعم طعامه ويرفق جيرانه ويوطئ رحله ـ أي: كثير الضيافة وقضاء حوائج المؤمنين ـ فإذا ارتفع له الباب من الحرام دخل فيه، فهذا العمل بلا تقوى، ويكون الآخر ليس عنده، فإذا ارتفع له الباب من الحرام لم يدخل فيه). أصول الكافي لأبي جعفر محمد بن يعقوب الكليني الرازي، دار الكتب الإسلامية، الطبعة السادسة، طهران: ج2 ص 76 ح 7.
(12) المصدر السابق: ج2 ص 75 ح 5.
(13) يوسف: 90.