نصوص ومقالات مختارة

  • التبعات السلبية للفجور في الدنيا

  • نجد القرآن الكريم يؤكّد بوضوح الآثار الدنيوية المترتّبة على الفجور والانحراف عن الصراط المستقيم، قال تعالى:(وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى٭ وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى)1، حيث دلّت الآية أنّ المكذِّب وغير المتّقي، يجد صعوبة وضنكاً وعدم تيسير في حياته، ولكنّه لا يعرف سبب ذلك. من هنا قالت الآيات الكريمة: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى ٭ قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً ٭ قَالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى٭ وَكَذلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى)2.

    قال الراغب في المفردات: (العيش: الحياة المختصّة بالحيوان، وهو أخصّ من الحياة، لأنّ الحياة تقال في الحيوان وفي الباري وفي المَلَك. ويشتقّ منه المعيشة لما يتعيّش منه، قال تعالى: (نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا)3, (وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ)4 وقال في أهل الجنّة: (فَهُوَ فِي عِيشَة رَاضِيَة)5.  وقال (عليه السلام) : لا عيش إلاّ عيش الآخرة)6. (والضنك هو الضيق من كلّ شيء، ويستوي فيه المذكّر والمؤنّث، يقال: مكان ضنك، ومعيشة ضنك، وهو في الأصل مصدر، ضَنُك يضنُك من باب شرف يشرف، أي ضاق. وقوله تعالى: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي)7 يقابل قوله في الآية السابقة (فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ)8 وكان مقتضى المقابلة أن يقال (ومن لم يتبع هداي) وإنّما عدل عنه إلى ذكر الإعراض عن الذكر، ليشير به إلى علّة الحكم، لأنّ نسيانه تعالى والإعراض عن ذكره، هو السبب لضنك العيش والعمى يوم القيامة، وليكون توطئة وتمهيداً لما سيذكر من نسيانه تعالى يوم القيامة مَن نسيه في الدنيا. والمراد بذكره (تعالى): الدعوة الحقّة. وتسميتها ذكراً، لأنّ لازم إتباعها والأخذ بها ذكره تعالى. وقوله (فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً) أي ضيّقة، وذلك أنّ من نسي ربّه، وانقطع عن ذكره، لم يبق له إلاّ أن يتعلّق بالدنيا، ويجعلها مطلوبه الوحيد الذي يسعى له ويهتم بإصلاح معيشته والتوسّع فيها والتمتّع بها، والمعيشة التي أوتيها في الدنيا، لا تسعه سواء كانت قليلة أو كثيرة، لأنّه كلّما حصل منها واقتفاها، لم ترض نفسه بها ونزعت إلى ما هو أزيد وأوسع من غير أن تقف منها على حدّ، فهو دائماً في ضيق صدر وحنق ممّا وجد، متعلّق القلب بما وراءه مع ما يهجم عليه من الهمّ والغمّ والحزن والقلق والاضطراب، والخوف بنزول النوازل وعروض العوارض من موت ومرض وعاهة وحسد حاسد وكيد كائد وخيبة سعي وفراق حبيب.

    ولو أنّه عرف مقام ربّه، ذاكراً غير ناس، أيقن أنّ له حياة عند ربّه، لا يخالطها موت، ومُلكاً لا يعتريه زوال، وعزّة لا يشوبها ذلّة، وفرحاً وسروراً ورفعة وكرامة لا تقدَّر بقدر ولا تنتهي إلى أمد، وأنّ الدنيا دار مجاز، وما حياتها في الآخرة إلاّ متاع   (وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ مَتَاعٌ )9، فلو عرف ذلك قنعت نفسه بما قُدِّر له من الدنيا، ووسعه ما أوتيه من المعيشة من غير ضيق وضنك)10، قال تعالى:  (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ)11، حيث نبّهت الآية المباركة أنّ الإنسان لا مفرّ له إلاّ بالتوجّه إليه تعالى، لأنّ ذكره هو الذي يريح القلب، وينجيه من القلق والاضطراب، لأنّ الإنسان لا همّ له في حياته الدنيا إلاّ الفوز بالسعادة والنعمة، ولا خوف له إلاّ أن تحيط به النقمة والشقاء. (والله سبحانه هو السبب الوحيد الذي بيده زمام الخير وإليه يرجع الأمر كلّه، وهو القاهر فوق عباده، والفعّال لما يريد، وهو ولي عباده المؤمنين به، اللاجئين إليه، فذكره للنفس الأسيرة بيد الحوادث، الطالبة لركن شديد يضمن له السعادة، المتحيّرة في أمرها وهي لا تعلم أين تريد ولا أنّى يراد بها. فكلّ قلب ـ على ما يفيده الجمع المحلّى باللام من العموم ـ يطمئن بذكر الله، ويسكن به ما فيه من القلق والاضطراب، نعم إنّما ذلك في القلب الذي يستحقّ أن يسمّى قلباً، وهو القلب الباقي على بصيرته ورشده، وأمّا المنحرف عن أصله، الذي لا يبصر ولا يفقه، فهو مصروف عن الذكر، محروم عن الطمأنينة والسكون، قال تعالى: (فإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ)12. وقال:(لَهُمْ قُلُوبٌ لاَ يَفْقَهُونَ بِهَا)(13). وقال:(نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُمْ)14. وفي لفظ الآية ما يدلّ على الحصر، حيث قدّم متعلّق الفعل، أعني قوله: )بِذِكْرِ الله( على الفعل، فيفيد أنّ القلوب لاتطمئن بشيء غير ذكر الله سبحانه، لأنّه تعالى هو الغالب غير المغلوب الغني ذو الرحمة، فبذكره سبحانه وحده تطمئن القلوب)15.

    ــــــــــــــــــــ

    (1) الليل: 8 ـ 10.

    (2) طه: 124 ـ 127.

    (3) الزخرف: 32.

    (4) الأعراف:10.

    (5) الحاقة:12.

    (6) المفردات، مادّة «عيش».

    (7) طه: 124.

    (8) طه: 123.

    (9) الرعد: 26.

    (10) الميزان في تفسير القرآن، ج14 ص224.

    (11) الرعد: 28 .

    (12) الحج: 46.   

    (13) الأعراف: 179.

    (14) التوبة: 67.

    (15) الميزان، مصدر سابق، ج11 ص355.

     

    • تاريخ النشر : 2011/09/25
    • مرات التنزيل : 2988

  • جديد المرئيات