العلاقة القائمة بين المنهج وبين الموضوعات المقولات التي يعالجها (3)
ومن المقولات المهمة التي أثيرت في مثل هذه البحوث، مقولة: التعدد المنهجي، داخل النسق الحضاري الواحد، فإننا ـ نجد ـ مثلاً أن هناك عدة مناهج ووجهات نظر في محاولة تقييم الإسلام والفكر الإسلامي وتجربة المجتمعات الإسلامية.
وهنا قد يتساءل البعض قائلاً : ما هو المنهج الصحيح من بينها؟
في الواقع إن هذه المناهج وإن اختلفت فيما بينها، إلا أنها جميعاً تستقي من منبع واحد، وتحاول جميعاً أن تقيم هذه التجربة وتلك من داخله ضمن المقاييس والقوانين التي تتحكم في مساره ـ وهذا يقيم الاختلاف فيما بينها، على أرض غير الأرض التي يقوم الاختلاف بينها وبين المناهج الأوروبية ـ التي تحاول أن تقيم الإسلام والتراث الفكري الإسلامي، وتجربة المجتمعات الإسلامية ضمن منطق آخر يقف على أرض أخرى غريبة عن هذه الأرض.
تبقى نقطة أخرى وهو أنه كيف يمكن التمييز ما بين المناهج المتعددة التي تنتمي إلى الحضارة الواحدة لمعرفة الصحيح من غيره فيها.
في الحقيقة أن هناك معايير وموازين معينة للتمييز، تختلف من حضارة إلى أخرى إلا أنها لا يمكن لها أن تكون صحيحة إلا إذا ما قامت على أرض تلك الحضارة لا على أرض أخرى، أي إننا إذا أردنا أن نحدد الموازين التي تميز ما بين المناهج التابعة من الحضارة الإسلامية لا يمكن ذلك إلا من خلال الاعتماد على القرآن والسنة الشريفة وعلى عدد كبير من المقولات والنماذج والموضوعات والآراء التي تكونت من خلال العلماء والفلاسفة والمفكرين والتجارب التاريخية المهمة التي مرت بها المجتمعات الإسلامية، بينما المعايير التي تحاول التمييز بين المناهج النابعة من الحضارة الأوروبية تختلف عن الموازين الإسلامية.
والخلاصة التي نصل إليها، هي:
أولاً: إن فهم وتقييم تاريخ الشعوب الإسلامية ومختلف الظواهر الاجتماعية التي يزخر بها، تختلف تماماً عن فهم تاريخ شعوب الحضارة الأوروبية ومختلف الظواهر الاجتماعية التي تعيشها، وبناء على ذلك فإن المنهج العلمي الذي يحاول أن يفهم الأولى لا يمكن له أن يطبق على الثانية، وبالعكس وهذا ناتج عن مجموعة المقولات والنتائج والموضوعات والنظرة الكلية المحددة إلى الكون والحياة، التي يحملها أي باحث عندما يتوجه لبحث وتقييم أي من الحضارتين.
وبتعبير آخر: إن الذي يحاول فهم الإسلام لابد له أن يحمل مفاهيم محددة عن الدين الإسلامي ودوره في مختلف الظواهر الاجتماعية، تختلف جذرياً عن المفاهيم التي يحملها عن دور الدين المسيحي في مختلف الظواهر الاجتماعية التي عاشتها المجتمعات الأوروبية، وكذلك الأمر بالنسبة إلى كل المقولات والموضوعات والنماذج المرتبطة بنمط اجتماعي معين، كالدولة، والطبقية، والقومية، والأقليات، والاقتصاد، والسياسة، والفلسفة ..
ثانياً: إن الخصائص والسمات التي تميز مجتمعاً معيناً، تختلف عن الخصائص والسمات التي تميز مجتمعاً آخر، ومن هنا فإن المقولات والموضوعات والنماذج التي لابد من أخذها بنظر الاعتبار عند دراسة مجتمع محدد يقتضي أن تكون نابعة من نسق المجتمع من خلال المراحل التي مرَّ بها في تطوره التاريخي.
ثم إنه لابد أن هناك مجتمعات متعددة ترجع في الحقيقة إلى أصل واحد، وكذلك نجد عدة حضارات يمكن تصنيفها ضمن عائلة حضارية واحدة، وهنا يمكن تجاوز بعض الخصوصيات المرتبطة بهذا المجتمع أو ذاك، والاستفادة من القوانين العامة القابلة للانطباق على العائلة ككل، ولكن ذلك أيضا يحتاج إلى دقة وحذر في التطبيق، وإلا وقعنا في أخطاء تبعدنا عن المنهج العلمي الصحيح.
فمثلاً إذا صنفنا حضارات العرب الإسلامية وغيرها ضمن عائلة حضارية كبيرة واحدة، وكذلك حضارات شعوب أوروبا والهند والصين وأفريقيا، وغيرها من الحضارات الإنسانية الكبيرة، وأردنا أن نتجاوز بعض الخصوصيات المرتبطة بهذه الحضارة أو تلك ضمن العائلة الحضارية الكبيرة والوصول إلى القوانين والخصائص العامة التي تحكم العائلة ككل، وحاولنا أن نطبق تلك القوانين على الحضارة الصغيرة، فإن ذلك لا يخلو من صعوبة ويتطلب دقة عالية ومهارة دقيقة للحفاظ على الخصوصيات المرتبطة بكل حضارة ضمن العائلة ككل، وإلا لأدى ذلك إلى الخروج عن المنهج العلمي الصحيح.
وعلى هذا الأساس فإننا إذا أردنا أن نفهم الإسلام كدين وكحضارة وان نقيم تجربة المجتمعات الإسلامية على مر العصور، من خلال منهج علمي صحيح، فإن ذلك يقتضي فهم الإسلام على حقيقته وواقعه بعيداً عن الشبهات والأباطيل التي ألحقت به من خلال الحكام والسلاطين الذين سيطروا على مقدرات هذا الأمة، وبحثوا فيها بواسطة شرذمة من علماء البلاط الذين أسسوا المذاهب المنحرفة والآراء الفاسدة والنظريات الضالة، بقصد تمكين الحكام من السيطرة على رقاب المسلمين ونهب ثرواتهم.
وكذلك يقتضي هذا الفهم أن ندرس الإسلام بعيداً عن الفهم الكاثوليكي أو البروتستانتي أو الماركسي أو الرأسمالي للإسلام كدين وعقيدة ونظام، بل لابد أن يعرف موقع الإسلام من خلال تجربة المجتمعات، وكيف استطاع أن يوجه هذه المجتمعات في صراعاتها الداخلية والخارجية وتناقضاتها وأزماتها، ويخلق منها ذلك المجتمع الموحد القادر على المواجهة والتحدي، وخلق تلك الإمبراطورية العظيمة في مدة قرن من الزمان.
وكذلك لابد من استيعاب الظواهر الاجتماعية الراهنة في هذه المجتمعات كالوحدة، والتجزئة، والقومية، والاقتصاد، والاستبداد، والشورى، والطغيان، والقيم، والأخلاق…. الخ. حتى يمكن فهم حركتها الراهنة.
وبكلمة واضحة: إذا لم يفهم هذا كله عن تاريخ هذه المجتمعات، فإننا لا نستطيع أن نهتدي إلى منهج علمي سليم قادر على إيجاد الحلول المناسبة للمشاكل والأزمات الكبرى التي تمر بها امتنا الإسلامية، كي تنهض من كبوتها هذه، وتبدأ صراعاً حقيقاً مع الإمبريالية والصهيونية، وتعيد الأمل إلى قلوب المستضعفين في العالم.
ولكي نؤيد صحة النتائج التي توصلنا إليها فيما سبق، لا بأس أن نشير إلى جملة من الموضوعات والنماذج التي لابد أن تبحث وتعالج من خلال الأنماط الحضارية والمجتمعية المختلفة، لا أخذها على أنها قوانين كلية قابلة للتطبيق على كل الحضارات والمجتمعات:
1ـ لو حاولنا أن نفهم الدين الإسلامي ودوره في مختلف مجالات الحياة بالنسبة للفرد والمجتمع، وكذلك دوره في التجربة التي عاشتها المجتمعات الإسلامية على مرَّ عصورها من خلال مفاهيم المذهب الكاثوليكي أو البروتستانتي أو غيرها في تجربة الشعوب الأوربية وخاصة في القرون الوسطى، فإن النتائج التي سنصل إليها على ضوء تلك الدراسة ستكون بعيدة عن الواقع وعن روح هذا الدين وتراثه وفكره وتاريخه وحضارته.
2 ـ إذا عالجنا مسائل الملكية والقضايا المرتبطة بالاستغلال والاحتكار بالشكل الذي تطرحه النظرية الماركسية، أو غيرها من المدارس الغربية، فإن ذلك لا يستطيع أن يعطينا صورة حقيقية واضحة عن الخصوصيات والمميزات التي اتسمت بها المجتمعات الإسلامية في مثل هذه المسائل. وكذلك لو أردنا أن نشخص الموازين والقوانين المتعلقة بتحديد الظلم والاستغلال.
ثم إنه لا يمكن وضع الضوابط المحددة للعلاقات الاقتصادية وغيرها بين أفراد المجتمع الواحد، وكذلك بين الجماعة والفرد إلا على ضوء نفس المعايير التي تتحكم في الحياة الاجتماعية، والسبب في ذلك أن القوانين والمعايير والضوابط التي تحكمت في كل العلاقات اختلفت بشكل جذري في التجارب المتعددة والمتنوعة التي عاشتها الشعوب الإسلامية وغيرها من شعوب العالم، ومعنى هذا إنه لكي نقيم تجربة هذه الشعوب لابد أن يكون من خلالها القوانين والموازين التي تتحكم في مساراتها الداخلية.
3ـ إذا فهمنا الإسلام والفكر الإسلامي، وكذلك كل الظواهر الاجتماعية والسياسية والقانونية والأخلاقية والروحية والنفسية والفنية والأدبية وغيرها على أساس المقولة الماركسية التي تدعي أن ذلك كله يمثل البناء الفوقي والعلوي في تركيبة أي مجتمع، وأن البناء التحتي له والذي يتغير يتبع تغيره كل البناء العلوي هو قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج، فإننا لن نستطيع أن نقف على نتائج علمية ورؤية واقعية لهذا الدين والظواهر الاجتماعية التي عاشتها هذه الأمة في مختلف عصورها.
4ـ إذا فهمنا دور وسائل الإنتاج والقوى الإنتاجية في مجتمعاتنا الإسلامية بالشكل الذي طرح في تجربة المجتمعات الأوروبية فإننا لا نستطيع أن نفسر جملة من الظواهر الاجتماعية التي تزخر بها هذه المجتمعات، فمثلاً: ما هي العلاقات بين الثورات والإسلام؟ وكذلك ما هو الدور الذي لعبته ملكية الجماعة ـ العشيرة القبيلة ـ وغيرها في تاريخ هذه المجتمعات، بالرغم مما كان يحدث من تغييرات في وسائل الإنتاج؟
5 ـ لو حاولنا أن نحدد مفهوما دقيقا للأمة وراجعنا الأدبيات الماركسية وكذلك الليبرالية والفاشية وغيرها، لوجدنا أن الأمة الإسلامية لم تكوّن بعد، وذلك باعتبار تلك المقولات لا تفسر لنا لماذا استخدم مفهوم الأمة الإسلامية؟ وكذلك ترى أن مفهوم الأمة في الغرب هو المقياس ونسيت أن تلك هي حالة جزئية لا يمكن أن يقاس عليها العالم كله.
6 ـ لو أخذنا مقولة صراع الطبقات، لرأينا أن أهم الصراعات التي كانت تنتاب المجتمعات الإسلامية هو الصراع في سبيل التوحيد، بخلاف ذلك الصراعات التي وجدناها في المجتمعات الإغريقية والرومانية والأوروبية فإنها من نوع آخر ولا يمكن أن نطبق القوانين التي حكمت تلك الصراعات على مجتمعاتنا الإسلامية.
ثم إن بعض المفكرين والمثقفين في بلادنا الإسلامية حاولوا أن يطبقوا ما وصلت إليه المجتمعات الأوروبية في المجالات المختلفة مع الاحتفاظ بالخصوصيات والسمات التي تميز مجتمعاتنا، أي بمعنى الاعتماد على القوانين والنظريات والمناهج الأوروبية وتطبيقها بشكل خلاق هنا، مع الأخذ بعين الاعتبار الخصوصيات المتعلقة بنا.
وللإجابة على ذلك لابد من الفرز بين مقولتين متعارضتين فيما بينهما:
المقولة الأولى: وهي التي تعتبر أن المجموعة القوانين والعلوم والفلسفات والمناهج التي حصلت ووجدت في المجتمعات الأوروبية منذ القرن السادس عشر الميلادي وحتى الآن، والتي شملت مختلف القضايا المتعلقة بـ : الأيدلوجية، أدوات الإنتاج, القوميات, صراع الطبقات, الملكية, الحكم, العلاقة بين الحاكم والمحكوم, الديمقراطية, والديكتاتورية, الأقليات, الاستبداد, الوحدة, التجزئة, الاقتصاد, السياسة, الأخلاق, القيم, الآداب, الفن … الخ هي علمية وعالمية، وبناء على ذلك يمكن اعتبارها المرتكز والبناء، والانطلاق منها لفهم وتقييم أي مجتمع آخر والنهوض به.
المقولة الثانية: وهي التي ترى أن الفرق مابين النمطين الأوروبي والإسلامي، فرق جوهري ونوعي وجذري، ولكل منهما منهجه ومنطقه ومساره الداخلي الذي يسير عليه، وذلك باعتبار أن المنهج هو نتاج لمعتقد محدد ونظرة كلية عن الكون والحياة، ولفلسفة معينة تكونت عبر مجموعة من المقولات والموضوعات والنماذج التي نبعت من التجربة التاريخية لتطور مجتمع معين من خلال تراث فكري وثقافي مستمر صنعته الأجيال المتعاقبة من العلماء والفلاسفة والمفكرين.
إذا اتضح ذلك يتبّين أن المسألة ليست هي تطبيق منهج أحدهما على الآخر أو عدم تطبيقه، وإنما معرفة صلاحية ذلك، وأنه هل من المنطق العلمي أن نأخذ منهجاً استقى نماذجه وموضوعاته ومقولاته من نمط حضاري ومجتمعي معين وترعرع في أحشائه وجرى في شرايينه، ونطبقه على نمط حضاري ومجتمعي آخر له مقولاته وموضوعاته ونماذجه ومفاهيمه وقوانينه وظواهره الاجتماعية والسياسية والثقافية والفكرية التي تتحكم في آلياته الداخلية.
إلى هنا قد ثبت فشل الذين يحاولون تطبيق المناهج الغربية على تجربة مجتمعاتنا الإسلامية، وأن ذلك بعيد عن الروح العلمية والموضوعية، وإنما عليهم أن ينطلقوا لتقييم وفهم هذه التجربة من أرض غير الأرض التي تقف عليها المناهج الأوروبية، ويحملوا معهم مفاهيم محددة عن الدين والفكر والثقافة والفلسفة والأمة والاقتصاد والطبيعة والكون والحياة والأخلاق والقيم والآداب…. الخ نابعة من الحضارة الإسلامية وتاريخها وتراثها.
وإذا فعلنا ذلك نكون قد اهتدينا إلى أولى الخطوات العملية التي تستند إلى منهج علمي صحيح وسليم، للنهوض بهذه الأمة المجيدة، والوقوف بكل شجاعة وإباء أمام مؤامرات الإمبريالية والصهيونية والقوى الاستكبارية العالمية، للقضاء عليها، وخلق مجتمع متوازن، يعيش فيه الإنسان كانسان.
والحمد لله رب العالمين.