الأخبار

العلاقة القائمة بين المنهج وبين الموضوعات والمقولات التي يعالجها (2)

…وبكلمة واضحة لا مراء فيها إن الذين يقيمون الإسلام وتاريخه وقيمه وحضارته ومختلف ظواهره الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والأخلاقية من خلال ما يدعونه بالمنهج العلمي القائم على أساس المناهج المشبعة بالمقولات والنماذج والموضوعات الأوروبية ماضياً وحاضراً ليسوا من العلمية في شيء، لأنه ليس من العلمي أن نفهم ونقيم الأنماط الحضارية المختلفة من خلال تجربة الحضارة الأوروبية، وعبر نظراتها لنفسها وللعالم، وإنما العلمية تقتضي أن ننطلق من منهج خاص بذلك النمط الحضاري المعين يحمل السمات والخصائص التي ترتبط به.
ثم إنه لابد أن يعلم هل إن الاختلافات القائمة ما بين المناهج التي تنبع من نمط حضاري ومجتمعي معين هي من نفس الطراز من الاختلافات والفوارق القائمة ما بين المناهج النابعة من أنماط حضارية ومجتمعية متنوعة أم لا؟
وهنا نجد إجابتين:
الأولى: وهي التي ترى أن الفرق ما بين المناهج داخل الشكل الحضاري الواحد هي من نفس النوع التي نجدها بين الأشكال الحضارية الأخرى.
وهذه الإجابة تعتمد إنكار وجود أرضية مشتركة على مستوى العائلة الحضارية الواحدة، وذلك بسبب الاختلافات والصراعات والتناقضات التي نراها في داخلها، هذا من جهة. ومن جهة أخرى فإنها ترى أن الحضارات الإنسانية الكبرى توجد فيما بينها أرضية مشتركة واحدة، تتخطى كل الفروق والتناقضات والصراعات فيما بينها.
الثانية: وهي التي ترى أن الاختلاف مابين المناهج ووجهات النظر التي تحاول أن تقيم نمطاً حضارياً ومجتمعياً معيناً، وهي نابعة من نفس موضوعات ومقولات ونماذج ذلك الشكل الحضاري، تختلف جذرياً عن تلك الفروق والاختلافات الناتجة من تعدد منابع تلك المناهج ووجهات النظر. وذلك باعتبار أنه مهما تعددت وتنوعت المناهج والتوجهات لهذه المدرسة أو تلك في تقييم نسق حضاري محدد إلا أنها جميعاً تستقي من منبع واحد وتقوم على ارض مشتركة واحدة، وتحاول أن تقرأ ذلك النمط من خلال المقومات الداخلية والنماذج والموضوعات المرتبطة بذلك النسق الحضاري.
وهذا بعكس ما يرى من اختلافات وفروق ما بين المناهج التي تتولد من خلال معالجة الأنماط الحضارية الكبرى في التاريخ الإنساني، فإنه قد تقدم في بعض المقالات السابقة ما يثبت أن لكل حضارة مسارها وأولوياتها وقوانينها الداخلية وغاياتها وأهدافها التي تسعى للوصول إليها.
والواقع إن السبب الذي أدى إلى الاختلاف ما بين تلك الإجابتين يرجع إلى الأساس النظري الذي اعتمدتها في تفسير كيفية تطور المجتمعات الإنسانية عبر التاريخ وهنا لابد من البحث في نظريتين:
النظرية الأولى: تدعي أن المجتمعات الإنسانية تطورت عبر التاريخ من خلال سياق واحد مر بمراحل المشاعية الأولى والعبودية والإقطاع وأنها قي طريقها إلى الرأسمالية، فالاشتراكية، وترى أن ذلك حدث تبعاً لتطور وسائل الإنتاج باعتبار أنها القوة الكبرى التي تحرك المجتمع البشري.
وهذه تستلزم علاقات إنتاج ـ علاقات ملكية ـ معينة تنسجم وتتوافق مع تلك الوسائل وبتطور قوى إنتاج جديدة، يبدأ صراع بينها وبين علاقات الإنتاج القديمة، ويكون الفوز فيها لقوى الإنتاج الجديدة، وهذه تستتبع علاقات إنتاجية جديدة تنسجم مع تلك القوى، وهكذا إلى أن تصل إلى المجتمعات الإنسانية إلى الفردوس الموعود.
النظرية الثانية: وهي التي ترى أن التاريخ الإنساني مرَّ عبر عدد من المسارات لا عبر مسار واحد عام مع اختلاف في بعض الخصوصيات، وإن لكل منها مساره ومنطقه ومنهجه وموضوعاته ونماذجه الخاصة به، ومن هنا فهي ليست جميعا سائرة نحو الرأسمالية، فالاشتراكية، بل إن الاختلاف بين مسار وآخر ليس في الخصوصيات والجزئيات التي يحكمها القانون العام وإنما هناك فروق جذرية ونوعية فيما بينها.
وعلى هذا الأساس نجد أنه حتى وسائل الإنتاج وقوى الإنتاج وعلاقات الملكية والأبنية العلوية في كل نسق حضاري يختلف اختلافاً جذرياً عن الآخر.
فمثلاً لو نظرنا إلى تاريخ العرب في مختلف المراحل التي مرَّ بها ابتداء من بزوغ فجر الرسالة الإسلامية في مكة ومروراً بتشكيل تلك الإمبراطورية الكبيرة وانتهاء بذلك التدهور والانحطاط، لا نراها محكومة بقوانين الأولى التي مرَّ ذكرها.
وبناء على ما تقدم فإنه لا يمكننا أن نفهم الإسلام والحضارة الإسلامية ومختلف الظواهر التي نجدها في المجتمعات الإسلامية من خلال النظرية العامل الاقتصادي أو أي نظرية أخرى ليس نابعة من أرض هذه الحضارة ومنسجمة مع تاريخها وتراثها وقيمها، لأن ذلك يؤدي إلى عدم رؤية الحقائق كما هي في الواقع، وبالتالي يؤدي إلى عدم اكتشاف المنهج العلمي الصحيح والشامل الذي يستطيع أن يعالج كل القضايا والموضوعات بدقة وواقعية.
فلو جئنا إلى الدور الذي لعبته تطور وسائل الإنتاج وضمن الشكل الحضاري الذي عاشته هذه المناطق من العالم، لوجدنا اختلافاً نوعياً بينها وبين الدور الذي لعبته في النسق الحضاري الأوروبي ـ هذا إذا افترضنا صحة ما قيل عن دور هذه الأدوات في ذلك التطور وانه مطابق للواقع التاريخي ـ .
وكذلك مختلف الظواهر التي عاشتها المجتمعات الإسلامية وضمن الإطار العام لحضارة هذه الأمة، فإن الدور الذي لعبته في تطور تلك المجتمعات يختلف عن دور مثيلاتها من الأنماط الحضارية الأخرى، كالحضارة الصينية، والهندية، والإفريقية، والأوروبية.
فمثلاً نجد أن الدور الذي لعبه الدين الإسلامي في المجتمعات الإسلامية، يختلف تماماً مع الدور لعبته الأديان والشرائع والقوانين الأخرى في المجتمعات الأوروبية وغيرها، وكذلك في الحضارات الأخرى، بما في ذلك اختلاف العلاقة القائمة ما بين وسائل الإنتاج وعلاقات الإنتاج. فإن الدين الإسلامي كان له رأي في كل واقعة من وقائع الحياة، وعلى هذا الأساس نجد أن له أطروحة عملية متكاملة لكل المشاكل والأزمات والصراعات والتناقضات التي تنتاب المجتمع الإنساني، وهذا بعكس ما نجده في المجتمعات الأوروبية فإن للدين والشرائع موقعاً ودوراً آخر ينسجم مع غايات وأهداف تلك الحضارة.
وكذلك نرى أن الدور الذي لعبته طرق التجارة الدولية من خلال وقوعها في منطقة الشرق الأوسط كان له اثر اكبر في ازدهار حضارة هذه البلدان من الدور الذي لعبته تطور وسائل الإنتاج، فإننا نجد أن الازدهار ونشاط الاقتصاد وعمارة هذه البلدان كان يتعرض للتدهور والانحطاط عندما تنتقل طرق القوافل التجارية منها إلى مكان آخر، وهذا ما حدث مع تدمر، والبتراء، والعراق، والشام، ومصر، وغيرها.
وهنا لا ننسى أن نذكر إن انتقال دور ظاهرة معينة من الأولوية الأولى إلى الثانية أو الثالثة وكذلك اختلاف العلاقة القائمة ما بين الظواهر المتعددة تؤدي إلى اختلاف في المنهج الذي يحاول من خلاله قراءة نسق حضاري محدد.
ثم إن الذين يرفضون مقولة قوى الإنتاج والبناء التحتي والفوقي، ويتمسكون بمناهج غربية أخرى مستقاة من الحضارة الأوروبية وتجربة مجتمعاتها كالتي تقوم على أساس نظريات صراع الأجناس أو القوميات أو المذاهب الدينية، أو التي تقول بدور القادة وغيرها، وتحاول أن تقيم الإسلام والحضارة الإسلامية، وتجربة مجتمعاتها تقع في نفس الأخطاء التي وقعت فيها النظرية الماركسية ـ اللينينية وتخرج بنتائج بعيدة عن ارض الواقع والحقيقة.
لعل من كل ما تقدم يثبت أنه لكي ننطلق من خلال منهج علمي ونظرة شمولية لابد أن نفهم أن التطور الواقعي الذي سارت عليها الشعوب والمناطق والقارات والحضارات لم يكن في مسار واحد، وإنما كان ضمن عدة مسارات متوازية بالرغم من كل الصراعات والتناقضات والتأثير المتبادل فيما بينها.
وهذا ما يؤكد فشل المحاولة الأوروبية لفرض مسار واحد على شعوب العالم كلها، وجعلها تابعة لها، لأن الحضارة التي تحاول أن تفهم وتقرأ العالم كله من خلال منطقها ومنهجها الخاص بها، لا تختلف عن العمليات القسرية التي تقوم بها القوى الامبريالية والصهيونية في المجالات العسكرية والاقتصادية والسياسية.
وهذا ما يفسر لنا لماذا يتجدد الصراع بين الامبريالية والشعوب المستضعفة خاصة في البلاد الإسلامية كلما اختل ميزان القوى لغير صالح القوى الاستكبارية والاحتكارية في العالم، وهم ظنوا أنهم قد حققوا النصر النهائي على تلك الشعوب وما بقيت أي روح للمقاومة والنهوض .
ولكن الأمر كان على خلاف ما اعتقدوه، فإن الشعوب الإسلامية بالرغم من الأساليب التي استعملت لإبعاد الإسلام والفكر عن المسرح بقيت محافظة على روح المقاومة والتحدي، وأخذت الأمة الإسلامية تسترد شخصيتها وهويتها الحقيقية.
وهكذا يتلخص أن النقطة الأساسية في بحثنا هذا هو أن المنهجية الصحيحة والعلمية تقتضي أن نأخذ كل منهج مع ما يرتبط به من الموضوعات ونماذج وما يحمل من نظرة كلية إلى الكون والحياة، هذا من جهة والنسق الحضاري والمجتمعي الذي يعالجه ويقيمه من جهة أخرى.
وهذا القانون ينطبق حتى على الذين يريدون أن يتحدوا العالم تحت راية الإسلام والحضارة الإسلامية، فإنهم لا يستطيعون ذلك ما لم يأخذوا بعين الاعتبار الاختلافات القائمة مابين المسارات المتعددة التي تحكم التاريخ البشري، ومن هنا يجب عليهم أن يقيموا كل حضارة من خلال منهجها الخاص بها وقوانينها التي تتحكم في مساراتها الداخلية لكي يخرجوا بنتائج صحيحة يمكن من خلالها معالجة الأزمات والتناقضات والصراعات التي تنتاب المجتمع الإنساني، وإلا وقعوا في نفس الأخطاء التي وقعت فيها المناهج الغربية عندما جعلت من نفسها مركز العالم، وأخذت تحاكم الحضارات والمجتمعات الإنسانية الأخرى من خلال نظرتها لنفسها وضمن منطقها ومنهجها ونمطها المجتمعي الخاص بها.
فمثلاً لو أراد احد الأشخاص أن يقيم الحضارة الغربية وتجربة المجتمعات الأوروبية من خلال الحضارة الإسلامية، فإنه في مثل هذا الحالة لا يمكن أن يفهم هذه الحضارة على حقيقتها، وهذا ما يخطأ فيه بعض المثقفين عندما يحاولون أن يفهموا نسق الحضارة الأوروبية من خلال منهج آخر لا يرتبط بأرضيتها ونماذجها ومقولاتها وموضوعاتها فيطبقون ـ مثلاً ـ نظريات (ابن خلدون) حول العصبيات على النظام العبودي أو الإقطاعي الرأسمالي، أو يحاولون فهم دور الدين المسيحي في أوروبا في القرون الوسطى، ضمن المقاييس نفسها التي فهم بها دور الإسلام في تجربة المجتمعات الإسلامية.
وللحديث تتمة…

  • جديد المرئيات