العلاقة القائمة بين المنهج وبين الموضوعات والمقولات التي يعالجها (1)
هناك مقولة مهمة، كثيراً ما تعرض لها المفكرون والفلاسفة، وهي أنه: هل يمكن فصل المنهج عن الموضوعات والمقولات والنماذج التي استخرجها وقال بها، أو أن ذلك غير ممكن؟
ولتحليل هذه المقولة لابد من البحث في نظريتين:
النظرية الأولى: وهي التي تدعي أن المنهج يمكن أن ينظر إليه من خلال السمات والقوانين العامة التي بحثها وأنتجها مثل: الحركة، والترابط، والتناقض، والتراكم الكمي والتغير الكيفي بعيداُ عن النماذج والموضوعات الجزئية التي افرزها، وبناء على ذلك قالوا إنه يمكن أن نتمسك بتلك القوانين والتقنيات ولا نلتزم بالنتائج والنماذج والموضوعات التي ارتبطت بها.
النظرية الثانية: وترتكز هذه النظرية على مقولة إنه لا يمكن فصل منهج ما عن الموضوعات والنماذج التي عالجها وذلك باعتبار أن كل منهج يتشكل في أحشاء النماذج التي بحثها، ويتكون عبر عملية معقدة من الدراسة لنمط حضاري معين مما يحدد له مبادئه وقوانينه ونماذجه ومقولاته، إلا أن هذه حين تتحول إلى مبادئ وقوانين ونماذج لذلك المنهج، تصبح مرتبطة به بشكل لا يمكن الفصل بينهما، وهذا ما يظهر بوضوح عندما يحاول بهذا المنهج أن يبحث أجزاء أخرى من ذلك النمط الحضاري المعين، أو عندما يحاول البعض أن يستخدمه في معالجة نمط حضاري أو مجتمعي آخر.
وعلى هذا الأساس فلا يمكن أن نأخذ بقوانين المنهج الهيكلي أو المذهب الوضعي ـ الذي وضعه الفلاسفة الأمريكان ـ أو المنهج الجدلي المادي ـ الذي وضعه ماركس ـ دون النظرية الهيكلية أو الوضعية أو الماركسية ككل، وكذلك بالنسبة للمنهج المستمد من الإسلام والنمط المجتمعي الإسلامي، فانه لا يمكن أن ينفك عن الإسلام والحضارة الإسلامية ككل، وذلك لأن المنهج لا يمكن أن يتفاعل إلا مع النماذج والموضوعات التي بحثها وعالجها.
ومن هنا نجد أن الباحث إذا أراد أن يتجاوز النماذج والموضوعات المرتبطة بمنهج ما للوصول إلى القوانين والسمات العامة التي تحكمه، فإنه إما أن تؤدي هذه العملية إلى الانفصال الكامل عن الأرضية الأولى التي انطلق منها وإقامة منظومة أخرى محلها، لها منهجها وموضوعاتها، ومعنى هذا أن القوانين العامة التي اقتبست من المنهج الأول لم تعد هي كما كانت، وإنما تحولت إلى شي آخر يرتبط بشكل جذري مع المنظومة الجديدة التي تفاعلت معها وأصبحت جزءاً لا يتجزأ منها. وهذا ما حدث لماركس والنظرية الماركسية عندما أخذت مبادئها العامة من هيغل والنظرية الهيغلية، فإننا نجد أن ماركس بعدما قام بتلك العملية قد انتهى إلى نظرية ومنظومة أخرى لها منهجها وطابعها الخاص بها في التفكير والبحث.
وإما أن يبقى أسير المقولات والنماذج والموضوعات السابقة التي أراد أن يخرج عنها، باعتبارها جزءاً لا يتجزأ من المنهج المذكور.
وهذا ما يفسر لنا لماذا اصطنعت كل نظرية وفلسفة ومدرسة منهجاً خاصاً بها يختلف مع الآخر.
فمثلاً المنهج الذي يشكل من خلال دراسة نمط الحضارة الغربية أو النمط المجتمعي الرأسمالي، لا محالة يحمل آثار هذه الحضارة ونمطها المجتمعي، فلهذا عندما يدخل هذا المنهج لدراسة حضارة أخرى أو نمط مجتمعي آخر يحاول أن يضع بصماته عليها بشكل مباشر أو غير مباشر.
وبكلمة أخرى أن المبادئ العامة والقوانين الأساسية والمقولات والموضوعات في هذا المنهج، تكون هي المعيار في رؤية الحضارات الأخرى وإصدار الأحكام عليها، هذا من جهة. ومن جهة أخرى فإن النماذج والموضوعات التي افرزها هذا المنهج تصبح كالطوق في عنقه بالشكل الذي لا يستطيع أن يتحرك ويبحث في أي دراسة أخرى إلا من خلالها وبتأثيرها. وأما إذا أراد أن يتحرر منها، فإن عليه أن يبدأ العمل من جديد.
ومما تقدم يثبت أنه لا يمكن أن نناقش وننقد المبادئ والقوانين العامة في منهج ما بمعزل عن الموضوعات والمقولات والنماذج التي افرزها وعالجها وكذلك العكس. فلهذا إما أن نأخذ المنهج بما يحمل من مبادئ وقوانين ونماذج ومقولات أو أن نرفضه كذلك.
وأيضاً ثبت أن الباحث عندما يبحث في موضوع بغية استخراج النتائج المطلوبة منه فإنه تارة يبدأ من جديد يبحث كل المسائل والجزئيات التي ترتبط بموضوعه، وأخرى يتعاطى مع الموضوع وهو حامل لمنهج معين بكل ما يرتبط به من قوانين ومبادئ ونماذج وقضايا وأفكار ومفاهيم.
فمثلاً لو أراد عالم الاجتماع أن يبحث موضوع الجريمة وأسبابها وآثارها في الحياة الاجتماعية، فمرة يدخل موضوعه وعقله صفحة بيضاء لا تحمل غير المبادئ والقوانين العامة، وأما المقولات المرتبطة بالاقتصاد والقانون وعلم النفس والدين والعائلة والبيئة الاجتماعية وغيرها من المسائل، فإنه يحاول أن يبحثها من جديد، فإن هذا ـ لا شك ـ سوف يفني عمره قبل أن يصل إلى النتائج المطلوبة لتحقيق هذا الموضوع.
وأخرى يدخل موضوعه وهو مسلح بمنهج متكامل من كل جوانبه، وهنا ـ لا شك ـ أن تلك الأفكار والمفاهيم والنماذج والمقولات التي يحملها سوف تؤثر على بحثه من البداية وحتى النتائج المستخرجة، وتضع بصماتها عليه .
وهنا مسألة أخرى يقتضيها البحث المتقدم، وهي أنه لابد من معرفة العلاقة القائمة ما بين المنهج والشكل الحضاري والمجتمعي الذي ترعرع فيه وعالج نماذجه وموضوعاته وذلك باعتبار أننا نجد أن كل حضارة ونظام اجتماعي معين، تعدد المدارس والفلسفات في تفسير نشوئها وقيامها واستمرارها، ثم انهيارها، ويتبع ذلك تعدد المناهج التي تحاول هدمها، مع أنها جميعاً تنتمي إلى حضارة كبرى واحدة وهي الأم، وهذا يؤدي بنا إلى القول إن الاختلافات التي تشاهد ما بين المناهج التي تعالج حضارات متعددة أن تكون أعمق وأشد. ومن الواضح إن هذه النظرة تنسجم مع ما تقدم من أن التعامل مع منهج ما لا يتم من خلال القواعد والقوانين والمبادئ العامة، وإنما لابد أن يؤخذ بنظر الاعتبار المقولات والنماذج والموضوعات والأفكار والمفاهيم والأنماط المعيشية والإنتاجية، لكي يكون علمياً وصحيحاً.
والواقع إننا لو دققنا النظر في المقولات والنماذج والأفكار التي يحملها كل منهج، لرأينا علاقة جذرية وديناميكية ما بينها وبين الشكل الحضاري الذي تنتمي إليه، لأن المنهج هو وليد عملية معقدة لبحث مسائل العقيدة والفلسفة والدين والأفكار والقيم والأخلاق، مضافاً إلى النظرة الكلية تجاه الكون والحياة والمصير، وغيرها من القضايا التي لها علاقة مباشرة أو غير مباشرة في تكوّن ذلك المنهج، ولا شك أن الهدف من ذلك تحديد الأسس والقواعد والقوانين التي تساعد على معالجة وبحث نسق حضاري ومجتمعي معين، أو تحديد الأسس التي من خلالها ينظر إلى العالم والحضارات الإنسانية الأخرى لقراءتها وتقييمها.
وعلى هذا الأساس يمكن طرح المقولة التالية: وهي كيف نقيم منهجاً معيناً ونحكم عليه أنه علمي أو غير علمي؟
ولمعرفة ذلك لا بد من الالتفات إلى أنه هناك فروقاً أساسية وجذرية ما بين الحضارات الإنسانية الكبرى التي عرفها التأريخ البشري على مدى عصوره المختلفة وبتبع ذلك نقف على اختلافات نوعية مابين المناهج التي اتبعتها المدارس والفلسفات التي برزت من خلال دراسة هذا النمط الحضاري والمجتمعي أو ذاك، وحاولت أن تكتشف القوانين والقواعد والأسس العامة التي تحكم مسارات وأهداف هذه الحضارة أو تلك.
فمثلاً إن الذين يحاولون أن يقفوا على تقييم حقيقي للحضارة الإسلامية والنمط المجتمعي الذي أفرزته من خلال ما قدمته المدارس والنظريات الغربية وما ارتبطت به من مقولات ونماذج، ودون الالتفات إلى الفروق النوعية والجذرية ما بين هاتين الحضارتين ينتمون إلى أدنى المناهج غير العلمية وغير الشمولية في تقييم الحضارات الإنسانية الكبرى. وذلك لأنه قد عرفنا في بعض المقالات السابقة، أن لكل حضارة مكوناتها ومساراتها وأولوياتها وأهدافها التي تحاول الوصول إليها/ وهذا يقتضي أن تقيم من خلال منهج خاص بها له قوانينه ومبادئه ومنطقه وموضوعاته ونماذجه وأفكاره وقيمه، وبناء على ذلك إذا أردنا أن نقف على معالجة حقيقية لمختلف الظواهر والأنماط المعيشية والإنتاجية التي عرفتها المجتمعات الإسلامية، فلابد أن ندرسها من خلال منهج ينسجم مع تراث وتاريخ وحضارة هذه الأمة بالشكل الذي تتفاعل مع مختلف القضايا العقائدية والفكرية والنفسية والأخلاقية والروحية والاقتصادية والاجتماعية والعسكرية والسياسية والمادية، ومعنى ذلك أن المنهج المطلوب لقراءة تاريخ هذه الأمة وحضارتها لابد أن يختلف بشكل نوعي وجذري عن المنهج الذي أفرزته الحضارة الأوروبية.
ومن هنا يحق لنا أن ننفي صفة العلمية والشمولية عن تلك المناهج التي تبناها عدد من المفكرين الغربيين وتبعهم في ذلك جماعة من المثقفين وأنصاف المثقفين في البلاد الإسلامية والعربية، والتي حاولت أن تقيم الإسلام وحضارته من خلال نظريات ومدارس أشبعت بالنماذج والمقولات الأوروبية عن الدين والموقف من الإسلام والمسلمين، فلهذا وجدنا أن الآراء والنتائج التي توصلوا إليها فيما يرتبط بظواهر مثل: الدولة, الحاكم, السلطة, القوميات, الطبقات, التقدم, التأخر, العشائرية, الأخلاق, التقاليد, الطبقات إلى عشرات غيرها من الظواهر التي تزخر بها المجتمعات الإسلامية جاءت مناقضة تماماً مع روح هذه الحضارة وتاريخها وأفكارها وقيمها وفلسفتها، والسبب في ذلك واضح لأنهم اعتقدوا أن الظواهر التي تتحكم في هذه البلاد هي نفسها التي وجدوها في المجتمعات الأوروبية في القرون الوسطى.