الأخبار

تطوير منهجية البحث العلمي في الدراسات الحوزوية (1) حوار مع سماحة الأستاذ السيد كمال الحيدري

القسم الأول                                                                  
أجرت مجلة فقه أهل البيت عليهم السلام في عددها [35] حواراً مع سماحة آية الله المحقَق العلامة السيد كمال الحيدري حول تطوير منهجية البحث العلمي في الدراسات الحوزوية، ارتأت إدارة الموقع نشر هذا الحوار بشكل كامل، وعلى قسمين؛ تعميماً للفائدة.
إعداد: التحرير
فقه أهل البيت: في ضوء التجديد المناهجي المستمر في المجال التعليمي والأكاديمي باعتبار أن تجربة المنهج تمثل تجربة بشرية قابلة للمراجعة والتطوير والنقد، ما هو تقويمكم للمناهج الدراسية في الحوزات العلمية في ظل ثنائية التبديل والتطوير المناهجي؟
الجواب: قبل أن أجيب على السؤال أشير إلى مقدمة نطرح فيها السؤال التالي: ما هو دور الحوزة في حياة الأمة؟
من الواضح أن الدين هو مشروع لتغيير حياة الأمة، فالإسلام لم يأت ليغطي البعد الفقهي أو العقائدي أو الروحي أو الخدمي، وإنما هو مشروع لتغيير حياة الأمة بكاملها، فهو معني بكل الأبعاد التي تهم حياة الأمة، وهذه الأبعاد فيها البعد العقائدي والفقهي والفكري، إضافة إلى الأبعاد الإدارية والاجتماعية والعلاقات الدولية مما يهم الإنسان في حياته.
نلاحظ في القرن الأخير أن المجتمعات الغربية لم تكن فيها مرجعيات لبناء الأمة في هذه الأبعاد، أو إذا كانت فهي في أطر ضيقة كالكنيسة التي شهدت تراجعاً عن قيادة الأمة، فتقدمت عندئذ الجامعات لتتبنى حركة التغيير إلى الأمام. هذا في العالم الغربي.
وأما في مجتمعاتنا – خصوصاً في الأوساط الشيعية – فقد كانت الحوزات في القرون الماضية تعنى بجميع الجوانب والمجالات، وتعالج وتدرس مختلف التخصصات مما هو وراء العلوم الدينية، كمجال الرياضيات والطب والهندسة والفلك والموسيقى وغيرها، بل كان لها قصب السبق في ذلك، كما نلاحظ ذلك في تراث ابن سينا والمحقق الطوسي وغيرهما.
ولكن في المائة سنة الأخيرة التي دخلت فيها الجامعات الغربية مجتمعاتنا – ولأسباب موضوعية – انفصلت هذه العلوم عن كيان الحوزة شيئاً فشيئاً. وأهم الأسباب الموضوعية في ذلك هو أن الحوزات ترتكز في دراساتها على البعد التجريدي، في حين أن هذه الاختصاصات ترتكز على الأساس التجريبي. على أنه في السابق أيضاً كانوا يتعاملون مع هذه العلوم من الزاوية التجريدية، فالفلكيات كان التعامل معها كما هو التعامل مع الفلسفة.
في ضوء ذلك، تمحضت الحوزات في إطار تفسير الدين، فكانت مهمتها الأساسية تفسير الدين، ونعني بالدين: تلك المنظومة المتكاملة التي عنيت بها الآيات والروايات، أي الدين في إطاره العام الشامل للكلام والتفسير وغيرهما من العلوم. فكان نتاج تلك الطبقة آنذاك شاملاً لجميع العلوم، فكان من يكتب الفقه هو الذي يكتب في الكلام والتفسير والأصول وهكذا، كما نلاحظ ذلك في تراث الشيخ الطوسي والسيد المرتضى والشيخ المفيد والعلامة الحلي والمحقق الحلي وأضرابهم.
إذاً، دور الحوزات العلمية هو أنها المفسر الرسمي للدين ومصدر تحديد النظريات الدينية، فمن يريد فهم الدين لابد أن يسأل هذه الجهة الرسمية، فهي في هذا تشبه المراكز والجامعات المعنية بتفسير الأمور العلمية التجريبية.
فالبعد الاجتماعي إذا كان فيه رأي للدين لابد أن تفسره الحوزة والمتصدي للعلم الشرعي، وهكذا إذا أريد أن تحدد النظرية السياسية من وجهة نظر الدين، فإن المعني هو المتخصص في الدين؛ ولذا رفض أصحاب هذا الاتجاه من خارج هذا الإطار ليقدم قراءته في الدين ويحدد موقفه، ومن الواضح أن المقصود هو الانطلاق في معالجة هذه الأمور من منطلقات دينية، وإلا فإن من ينظر ويقدم قراءته في هذه الأمور بمعزل عن الرؤية الدينية كثير، ولا كلام لنا معه.
فقه أهل البيت: وهذا يعني أن الأولوية في البحث ليست لتحديد إشكالية المنهج والمعالجات المنهجية بالدرجة الأولى، وإنما هي لتحديد الدور الذي جاء الدين ليضطلع به، ومن ثم تحديد دور الحوزات بعد ذلك بالدرجة الثانية، وبالدرجة الثالثة تحديد المنهج الذي يلبي حاجات هذا الدور ومستلزماته؟
الجواب: نعم، بالضبط.
فقه أهل البيت: فما رأيكم إذاً في المحاولات المطروحة لتغيير الكتب الدراسية في الحوزة؟
الجواب: المشكلة في إطارها العام لا تكمن في استبدال كتاب بكتاب آخر ـ كاستبدال الرسائل بالحلقات مثلاً ـ وإن كان هذا جزءاً من المهمة، ولكنه ليس الجزء المهم منها، وإنما الجزء المهم من عملية تغيير الكتب الدراسية هو تغيير منهجيتها بما يتلاءم والدور الذي يجب أن تضطلع به.
توضيح ذلك: أن الحوزات العلمية – خصوصاً في النجف الاشرف – قد ابتعدت في الفترة الأخيرة عن الأبحاث التفسيرية والكلامية ورد الشبهات الفكرية والفلسفية، بل وحتى الدينية، كمسألة أن الدين فيه صلاحية إدارة الحياة أو لا؟ وهل أن الدين أساساً معني بإدارة المجتمع وتنظيم الحياة وشؤونها السياسية والاجتماعية والاقتصادية، أم أنه معني بالجانب العبادي من حياة الإنسان مقتصراً في الجوانب الأخرى على إعطاء الرؤى العامة دون الخوض في التفاصيل؟
قد يقال: أن الإسلام لم يقدم نظرية عامة في هذه المجالات، وأنه اكتفى بالرؤى العامة، مثلاً: الشارع كان يمكنه أن يعطي للإنسان خطوطاً عامة في مجال العبادات بتوجيه الإنسان توجيهات عامة، ولكنه تدخل في أدق التفصيلات في العبادات لتحديدها، فالسؤال مطروح في النظرية السياسية، وهل أن الإسلام اعتنى بتحديدها بالشكل الذي أولاه للعبادات؟ إذا كان الأمر كذلك، فما هي الأدلة على ذلك؟ هذه دعوى مطروحة فعلاً، ولا نريد الآن مناقشتها.
وعليه فالدين إما ألا يتكفل تقديم النظريات السياسية والاجتماعية وغيرها، فيكتفي بالرؤى العامة ويوكل التفاصيل إلى الخبرة البشرية وتجاربها، وإما أن يتبنى إعطاء هذه النظريات في مجال العلاقات الدولية والحكم والسياسة والاجتماع بحيث تعالج نظريته الاقتصادية مسائل التضخم والبطالة وغيرها من المعضلات الاقتصادية. وعليه فلابد أن يعين الدين موقفه من هذه القضايا.
فقه أهل البيت: أليس يرجع السبب في هذه الأبحاث عندنا إلى ابتعادنا عن الحكم ومجالات الحياة وعدم كونها موضعاً للابتلاء؛ لينصب البحث عليها من قبل الفقهاء ويتطور وتأخذ مضموناً تفصيلياً كما عليه سائر المباحث؟
الجواب: في الحقيقة هذا معناه أنكم تؤيدون الاتجاه الثاني، وهذا ما نريد معرفته، فهل الدين يتبنى الاتجاه الثاني الذي يفترض أنه يقدم إجابات ومعالجات لكل هذه الأبعاد؟
فإذا قلنا أنه لا يوجد هكذا إلتزام ديني، فينتج أن الحوزات العلمية بالتبع غير معنية بذلك، بل الدين يعطي معايير عامة كمبدأ العدالة مثلاً، إما أن هذه العدالة هل تتحقق بالنظام الديمقراطي أو بالنظام الفردي؟ فهذا ما أوكل الدين شأنه إلى التجربة الإنسانية، ومن خلال نظرية «الصواب والخطأ» نصل إلى ما يفيد المجتمع ويخدمه.
هذه مقدمة مهمة، فإذا قبلنا بأن للدين نظرياته في مجال الاجتماع والسياسة والحياة بكل مجالاتها، فلا شك أن مفسري الدين هم الذين يقومون بذلك، فإذا لم يتدخل هؤلاء لأي سبب من الأسباب ـ موضوعية ومنطقية كانت أو غير موضوعية ـ وسكتوا عن ذلك، فهل يعني ذلك أن الآخرين سوف يسكتون عن ذلك؟ من المؤكد لا؛ لأن هذه القضايا حياتية تتطلب إجابات ومعالجات محددة، وحركة الحياة لا تتوقف بسكوتنا، والغير سوف لا ينتظرنا، بل سيقدم نظرياته وقراءاته في هذه المجالات باسم الدين، وليس من حقنا أن نحظر عليه هذه القراءة، بل من حق الشخص أن يقدم قراءته الخاصة، ولكن ليس بإمكانه منع الآخرين من ذلك، وهذا ما حصل، حيث قدم بعض المفكرين قراءاتهم في هذه المجالات، مثل الجابري، ونصر حامد أبو زيد، وشحرور، وعلي حرب في العالم العربي، وسروش في إيران.
فإذا تكلمنا على الاتجاه الأول كان معنى ذلك أن الإسلام لم يتعامل مع هذه المجالات؛ وذلك لطبيعتها السيالة غير الثابتة، وليس لقصور فيه، بعكس العبادات فإنها أمور ثابتة، أو أنه لم يتدخل في ذلك لكي لا يكبح تطور البشرية وتجاربها الحسية، أي انه أتاح الفرصة للبشرية في ممارسة دورها.
وهذا كله معناه أن المناهج الدراسية الحوزوية يجب أن تنسجم مع هذا الإطار الفكري ليتحدد الموقف سلفاً، وتقوم المناهج الحوزوية على هذا الإطار لاحقاً،وهذا ما يلزم توجيه طالب العلم به وتعريفه برسالة الدين وحدودها ورسالة الحوزة بعد ذلك.
ويتبنى علم الكلام الجديد أو ما يسمى بفلسفة الدين ذلك، حيث يطرح هذا التساؤل: ماذا نريد من الدين؟ هل نريد منه حل المشاكل التكنولوجية أو الفكرية؟
فقه أهل البيت: هل هذه الثنائية تحتم علينا إما الالتزام بتبني الإسلام للنظريات في المجال الاقتصادي والاجتماعي والسياسات المالية وموارد الدولة كالخمس والزكاة وغيرها، أو الالتزام بالإهمال المطلق لها، أم أن هناك حالة وسطاً تفرض علينا البحث التفصيلي عما تدخل الإسلام فيه والاقتصار على العمومات في الموارد الأخرى؟
الجواب: هذا السؤال من الأسئلة الأساسية التي لا يسع المجال للإجابة التفصيلية عليه، لكن سنكتفي ببيان إجمالي: باعتقادي أن الدين عندما تحرك في مساحة معتنى بها في المجالات التي ذكرت، إنما تحرك بمقتضيات الزمان والمكان، فهذه الأحكام جاءت مجاراة مع الحاجة الآنية لصدور الحكم ولا تمثل قانوناً عاما فوق الزمان والمكان؛ ولذا لابد من فتح هذا البحث أصولياً، حيث نبحث أصولياً عن طبيعة الحكم الصادر من النبي صلى الله عليه وآله، فهل صدوره منه بلحاظ كونه صلى الله عليه وآله حاكماً للمجتمع الإسلامي، أم صدوره منه بلحاظ كون الحكم حكماً شرعياً تعبدياً هو فوق الزمان والمكان؟ ولذا قد يطرح في باب الخمس أنه كان يعبر عن حاجة المجتمع في ذلك الوقت، أو أن موارد الزكاة تعبر عن الحكم الشرعي عندما كانت هذه الموارد هي الغالبة في تلك المرحلة، أما اليوم فالغلبة لغيرها، ومما يشهد لهذه النظرة ما أضافه أمير المؤمنين عليه السلام في الأموال الزكوية من زكاة الخيل لحاجة موارد الدولة لذلك. وعليه فقد نقرأ مثل هذه الأحكام بقراءة لا يمكن أن تكون تعبدية مطلقة.
وحينئذٍ، ينفتح الباب أمام الكثير من الموضوعات والأحكام، كالاحتكار – مثلاً – الذي يتعلق بعناوين خاصة؛ حيث إنه وفق النظرة المذكورة لا يمثل قانوناً كلياً عاماً، وكذلك الربا الذي يعني أخذ الزيادة ضمن شروط خاصة، ولكن هل كانت حالة التضخم قائمة في المجتمع آنذاك كما عليه اليوم في عالمنا الاقتصادي؟ ففي زماننا الحاضر إذا أقرض زيد عمراً مائة دينار وتضخمت القيمة، فهل إذا أخذت الزيادة لأجل التضخم يكون ذلك ربا؟ إذا كان المعيار القيمة فلا يكون ربا، وإذا كان المعيار النقد بما هو نقد من دون نظر إلى قيمته فهو ربا.
وفي الحالة الأولى البحث في الصغرى لا في الكبرى؛ لأن الربا حرام، ولكن الكلام هل أن هذا منه أو ليس منه؟
إذاً، ملاحظة عناصر الزمان والمكان هي من أهم المسائل في علم الأصول، وهو ما يسمى بـ «علم الأصول الحديث»، على وزان «علم الكلام الجديد» الذي استجدت فيه مسائل كلامية جديدة.
طبعاً هذا نطرحه من حيث المبدأ، أما القواعد والضوابط فلابد من ملاحظتها ومراعاتها في محلها، وإلا إذا لم تعمل الضوابط لما استقر حجر على حجر.
وعليه فان القدر المتيقن من دور الدين بحسب الاتجاه الأول هو المجال العقائدي والتشريعي والتفسيري وبناء الإنسان والمجتمع في هذه المجالات.
ومن أهم هذه المحاور هو محور التوحيد والعقائد، وأيضاً محور بناء الإنسان أخلاقياً وسلوكياً، وكذلك المحور الذي يهتم بتنظيم علاقات الإنسان بربه والآخرين من أبناء مجتمعه والنظام الكوني. فهاهنا إذاً محاور ثلاثة:
فمثلاً محور التوحيد والفكر الذي يدير الحياة اليوم بمعناه الواسع، لا العقائد بمعناها التقليدي، بل علم الكلام الجديد والقديم، فهل منهجنا في الكلام تجريبي أو عقلي أو نقلي أو عرفاني؟ فالمهم تحديد المنهج المتبع في تحقيق هذه الرؤية، وهذا ما تعنى به نظرية المعرفة التي لم تبحث بشكل أساسي في حوزاتنا، وإن كانت هناك إشارات في بعض بحوث علم الأصول عند الحديث عن المنهج الإخباري، أو بحوث الفلسفة في مسألة الوجود الذهني أو في مسألة العلم، ولكنا لم ندرس هذه النظرية كنظرية متكاملة.
ولنأخذ شاهداً على ذلك: يقرر المنطق الأرسطي أن إنتاج المعرفة وزيادتها يكون عن طريق القياس، وهو السير من العام إلى الخاص، ومن الكلي إلى الجزئي،وهذا هو الذي نقده الفكر الغربي بأنه حينئذ يؤدي إلى توقف حركة الإبداع الفكري، وعدم تطور الفكر البشري؛ لأن هذه الجزئيات مستبطنة دائماً في الكليات، فالفكر البشري لا يتوالد برأيهم، ومن هنا اتجهوا إلى منطق الاحتمال؛ لأنه ينتج دائماً شيئاً جديداً، ويقرر حالة عامة وكلية بعد الاستقراء للجزئيات، وهذا الاستقراء الناقص لم يقبله المنطق الأرسطي إلا مع وجود القياس الخفي.
والآن نأتي إلى بحوثنا العقائدية، فنسأل: هل للعقل دور في المجال العقائدي أو لا؟
يحدد المنهج الإخباري دور العقل بدائرة ضيقة جداً لا تتجاوز مسائل معدودة بعدد الأصابع، بينما المنهج العقلاني يقرر سعة هذا الدور، فلابد في المرحلة الأولى من الانتهاء من الخلاف مع الاتجاه الإخباري، وفي المرحلة الثانية لابد أن ننتهي من الخلاف مع الاتجاه العرفاني الكشفي، حيث إن أصحاب هذا المسلك يرفضون دور العقل أيضاً؛ إذ يستندون في منهجهم إلى معطيات الكشف والشهود لا العقل. فإذا دخلت دائرة البحث العقلي يأتي هذا النزاع المشار إليه بين المنهج الاستقرائي والمنهج الاحتمالي حول توالد المعرفة.
إذاً، لابد من تحديد المنهج المعرفي للدخول في العلوم، ولذا جعل علماؤنا من الأصول منهجاً معرفياً للفقه، مثلاً: التواتر حجة، ولكن على أي أساس معرفي؟ المنهج الأرسطي يرى حجيته باعتبار أن اجتماع هذا العدد من المخبرين يمتنع تواطؤهم على الكذب، فالأساس عنده انه أمر بديهي، بينما المنطق الاحتمالي كالمنطق الذي أسسه السيد الشهيد (قدس سره) يرى أنه ليس بديهياً، بل إنه قضية استقرائية. فإذا كان منهج الإنسان أرسطياً، ولم يتم هذا المنهج لوجود الإشكالات والنقود التي يوجهها المنطق الاحتمالي على مرتكزاته وقواعده، فهل تسلم كثير من القضايا والمسائل في علم الكلام والفقه والأصول والرواية والنص القرآني مما بني على حجية التواتر الأرسطي من هذه الزعزعة لحجيتها، نظير التشكيك في حجية خبر الثقة الذي تنبني على أساسه أكثرية مسائل الفقه؟ فإذا جاء من يشكك فيه، كصاحب القوانين لأنه انسدادي فلا قيمة حينئذ لخبر الثقة؛ لأن قيمته فيما إذا كنا انفتاحيين. فالحوزات العلمية لابد أن تبدأ من هنا؛ أي من تحديد الأساس المعرفي.
ومن هنا قد التفت أستاذنا الشهيد فبدأ البحث من نظرية المعرفة، وبنى كل جهده العلمي على الأسس المنطقية ونظرية المعرفة، ليبني عليه جهده الفقهي والأصولي والمنطقي، فرأى أن نسبة كبيرة من نتائج العلوم لا يمكن تفسيرها على أساس المنطق الأرسطي في توالد المعرفة؛ فلذا جاء وبنى أساساً جديداً في الأسس المنطقية للاستقراء، هذه المحاولة التي لا نعرف عنها وعن آثارها كثيراً مع أننا من أبناء هذه المحاولة!
فإذاً، باب الأبواب ومفتاح العلوم الذي يحتاج إليه الطالب في الحوزة العلمية هو نظرية المعرفة، ولا أقل من أن يلتفت ويتنبه إلى أنه يجب أن يختار احد هذين المنهجين ولو تقليداً لا اجتهاداً.
بعد تحديد المنهج لابد من تأسيس القواعد التي يفهم وتستنبط منها المسائل الاعتقادية. ولكن لابد من تحديد مواد الاستدلال والاستنتاج، فإثبات أن الله بسيط وغير مركب يعتمد على الاعتقاد بأصالة الوجود؛ وإلا فعلى أصالة الماهية لا يمكن نفي التركيب عنه، وهذا عبارة أخرى عن شبهة ابن كمونة.
ومن هنا ينفتح باب جديد يطلق عليه القواعد العقلية، فما هي هذه القواعد العقلية للدخول في البحث العقائدي؟
يمكن أن نقول تارة: نحن نؤسس لهذه القواعد من جديد في حوزاتنا العلمية، ونترك وراء ظهورنا هذه الفلسفات اليونانية والفارسية، ويمكن أن نقول أخرى: نحن لا نؤسس، وإنما نأخذ من صدر المتالهين الذي أسس لهذه القواعد العقلية لكي نستنبط المسائل العقلية من القرآن والسنة، وإذا لم يكن صدر المتالهين فكانت أو هيكل أو غيرهم من الفلاسفة الذين أسسوا هذه القواعد العقلية التي تراجعت أنت في الحوزة عن تأسيسها.
من هنا تتضح ضرورة البحث العقلي في الحوزات العلمية لمواجهة الشبهات التي لا يقف بوجهها النص، بل العقل.
فقه أهل البيت: إذاً، ما هو تصوركم عن المناهج الدراسية في ظل هذه الرؤية؟
الجواب: رأيي أنه لابد من معالجة النقص الموجود في المناهج، فهذه المناهج ناقصة وقاصرة؛ لأنها اقتصرت على الفقه بمعناه الأخص، دون الفقه الأكبر:(ليتفقهوا في الدين)، والدين لا يساوي الفقه، فلابد من توسعة الرؤية للدين، هل الدين هو الفقه فقط أم الأعم؟ لابد أن نعتني بتلك الأبعاد؛ ولذا طرحت مسألة توليد العلم والمعرفة أخيراً في الرسالة التي رفعها ثلة من الفضلاء إلى قائد الثورة ـ دام ظله ـ إحساساً بحاجة الحوزات العلمية إلى طرح هذه البحوث، وعليه ينبغي توسيع دائرة المعرفة الدينية ومساحاتها؛ ليشمل المعرفة أولاً، ثم القواعد العقلية، ثم العقائدية.
وللحوار تتمة.
 

  • جديد المرئيات