العلاّمة الحيدري وإحياء المكونات المضيئة في التراث
في مطلع سنة 1978 انخرطت بالدراسة في الحوزة العلميّة، وكان شغفي المبكِّر بتعلّم الفلسفة هو الذي قادني للدراسة في النجف الأشرف، بعد أن غادرت عملي – معيداً في أحد المعاهد التابعة لوزارة التعليم العالي والبحث العلمي – وتخلّيت عن مرتّب شهري يتجاوز المئة دينار، كنتُ بأمسّ الحاجة إليه؛ لعدم توفّر أي مورد معاشي آخر لديّ، غير أنّي كنتُ عميق الثقة بالله،ولديَّ اطمئنان وسكينة يومذاك بأنّ الرزق تتكفّله يد الغيب.
ومنذ اليوم الأوّل طفقتُ أفتّش عن مدرّس للفلسفة في الحوزة العلميّة، وأسأل زملائي من طلاّب المعارف الإسلاميّة الذين توطّنوا النجف من قبلي، لكنّ الجميع كانوا يرشدونني إلى دراسة المنطق ابتداءً، باعتباره مدخلاً لدراسة المعارف الكلاسيكيّة، ثمّ التفكير بتعلّم الفلسفة فيما بعد. ولاحظت أنّ بعضهم يتحدّث معي عن الدرس الفلسفي بحذر شديد، فيما ألمحَ البعض الآخر بهدوء إلى ضرورة أن أترك التفكير في هذا الموضوع، وأتفرّغ للدراسات الشرعيّة خاصّة. ولم أكُن وقتئذ أُميّز بوضوح بين حقلي الدراسات العقليّة والدراسات الشرعيّة في الحوزة العلميّة.
وبعد الفراغ من دراستي للمنطق و«المقدّمات» عدت إلى البحث عن معلِّم للفلسفة، ولبثتُ عدّة أشهر أتسقّط أنباء الأساتذة وأتساءل عن مشاغلهم والمعارف المهتمّين بتدريسها، فلم أظفر بمدرِّس للفلسفة. غير أنّي اكتشفت في مرحلة لاحقة أنّ الدرس الفلسفي أمسى ضيّقاً جدّاً، ويقتصر على أستاذين أو ثلاثة، أبرزهم العلاّمة السيّد مسلم الحلّي، المُقيم في مدينة الحلّة، والذي اعتاد أن يمكث كلّ عام عدّة أشهر في النجف لتدريس الفلسفة، فكنت أتردّد على داره باستمرار بمعيّة أحد تلامذته القدماء، فأسرّ لنا بأنّه سيبدأ الأسبوع القادم بتدريس منظومة الملاّ هادي السبزواري، بعد صلاتي المغرب والعشاء. وحين شرع بتدريس المنظومة كان عددنا في حلقة الدرس لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة، وأوصاني بعض أساتذتي، ممّن علم بحضوري ذلك الدرس، بعدم إذاعة خبر حضوري على نطاق واسع. وكنت أتحسّس تكتّم زملائي وحذرهم وحرصهم وخشيتهم من أن يُشاع عنّا الانخراط في تعلّم الفلسفة، ونحن في المراحل الأولى من دراستنا في الحوزة.
وبالرغم من عراقة دراسة المعقول في النجف، وتواصلها عشرات السنين، إلاّ أنّها اضمحلّت بالتدريج في النصف الثاني من القرن العشرين، بعد مناهضة جماعة من الفقهاء لهذا النمط من التعليم.
يكتب السيّد حسن النجفي القوچاني المتوفّى سنة 1363 هـ في مذكّراته الهامّة، عن الحياة الداخليّة للحوزة العلميّة، نقلاً عن أستاذه في الفلسفة الشيخ محمّد باقر الاصطبهاناتي، المقتول غيلةً سنة 1326 أنّه قال له: «إنّ همّي منحصر الآن في تدريس الفقه والأصول بعد نهاية شهر رمضان، شريطة أن تعينني بعزيمتك، فأنا قد اكتسبت من تدريسي للفلسفة اسم (الحكيم) الذي يعني مرتبة اللاأُباليّة وعدم التديّن والعلم، ولهذا السبب ابتليت لسنين بالعزلة والفقر والحرمان والديون، بينما أنا في الفقه والأصول مساوٍ على الأقلّ للآخوند – يقصد الشيخ محمّد كاظم الخراساني – والسيّد محمّد كاظم اليزدي، وغيرهما ممّن لهم المقام العالي، إن لم أكن أفضل. وكلّ ما حدث لي كان بسبب تركي لتدريس الفقه والأصول»(لأسفار. غير أنّي في الوقت نفسه أعتقد بأنّ آية الله البروجردي حاكم شرعيّ، فإذا حكمَ بترك تدريس الأسفار، فسيكون الموقف من هذه المسألة بنحو آخر»(1).
وبعد أن ذهب الحاج أحمد إلى السيّد البروجردي حاملاً رسالة العلاّمة الطباطبائي حصل تحوّل واضح في موقف البروجردي، وانصرف عن قراره السابق الذي حاول فيه أن يحظر تدريس الفلسفة في قم، حيث أفاد الطباطبائي: «أنّ آية الله البروجردي لم يعارضه بعد ذلك، وأنّه واصل تدريس مؤلّفات الفلسفة المعروفة كالشفاء والأسفار لسنوات مديدة، وأنّ السيّد البروجردي كان يحترمه، وكتعبير عن تقديره له بعث له في أحد الأيّام بهديّة نفيسة، هي عبارة عن أحسن وأصحّ طبعة للقرآن الكريم»(2).
ومن خلال الجهود الواسعة للعلاّمة الطباطبائي تنامى بالتدريج الدرس الفلسفي في الحوزة العلميّة في قم، وتنامى بموازاته الدرس العرفاني، بنحو أضحت اليوم دراسة «بداية الحكمة» و «نهاية الحكمة» من المقرّرات التعليميّة والمتطلّبات الامتحانيّة لكافّة طلاّب الدراسات الدينيّة في قم(3).
غير أنّ الدارسين باللغة العربيّة لم يجدوا أحداً من المدرّسين المعروفين ممّن يهتمّون بالدرس الفلسفي بجوار اهتمامهم بتعليم الفقه والأُصول.
وهنا برز دور العلاّمة السيّد كمال الحيدري، الذي تصدّى لتدريس المعقول، مضافاً إلى مشاغله في تعليم الفقه والأصول. فحرص على تدريس المنطق وعلم الكلام والفلسفة والعرفان، كذلك اهتمّ بتدريس تفسير القرآن بالعربيّة، وواصل مهمّته منذ أكثر من عشرين عاماً. وأصرَّ على الاستمرار في هذه المهمّة، بالرغم من العقبات المتنوّعة التي واجهته، ومنها تعاطي بعض الفضلاء في الحوزة العلميّة مع هذا النمط من التعليم باعتباره خارج نسق نمط التعليم التقليدي، وبالتالي فهو لا يؤهّل صاحبه للمراتب العلميّة والدينيّة العُليا في الحوزة العلميّة.
غير أنّ مطامح السيّد الحيدري استشرفت المستقبل، فأدركت بأنّ اختصار الإسلام بالفقه، واختصار الدرس الحوزوي بتعليم الفقه والأصول، سيفضي إلى فهم مجتزأ للدِّين، وطمس أبعاده العقلانيّة والقيميّة والجماليّة، وإهدار مضمونه الروحي الإنساني العميق، وربما يقود ذلك في نهاية المطاف إلى شيوع فهم للإسلام يتجاهل المنجزات والمكاسب المميّزة في الميراث العقلاني والروحي للدِّين، ويختزله في ترسيمة قانونيّة سكونيّة صارمة، مفرغة من رحابة الدِّين، ومحتواه الإنساني الحيوي الشفّاف.
وطالما دهشت من مثابرة السيّد كمال الحيدري وجديّته وحراكه المكثّف نهاراً وليلاً، أيّام التحصيل الدراسي والتعطيل – كما نقول في الحوزة العلميّة – فهو إمّا يطالع ويحضر لدروسه، أو يدرس، أو يحاضر، أو يكتب، أو يتحدّث ويناقش في مباحث متنوّعة من المعارف الإسلاميّة المهتمّ بها.
ومع أنّ علاقتي به تعود إلى ربع قرن تقريباً، إلاّ أنّني متى ما التقيته منفرداً أو بمعيّة جماعة، يقودنا إلى نقاشات تمتدّ عدّة ساعات، في القضايا الإشكاليّة في المعقول والعرفان وغيرهما.
وفي شهر رمضان المنصرم 1426 هـ، كان مجموعة من العلماء والباحثين والدارسين في منزلنا، مدعوين لوليمة إفطار، وبضمنهم بعض أساتذة الفلسفة والعرفان في الحوزة العلميّة والجامعة، وكان السيّد الحيدري حاضراً على مائدة الإفطار، فاستدرجنا على مائدة الإفطار إلى مناقشات، تناولت سلسلة من المسائل الفلسفيّة والعرفانيّة لمدّة سبع ساعات متوالية. وبالرغم من أنّ آراء السيّد الحيدري لم تفاجئني؛ لأنّي سمعت معظمها منه في ما سبق، لكن بعض الزملاء بهرتهم رؤيته، وتبدى تفكيره لهم بنحو مختلف عن صورته التي تشكّلت في وعيهم ممّا سمعوه عنه قبل لقائه. فهذا المعمّم الذي يصفه البعض بأنّه متخلّف وخرافي ومغالي، وتبدو مفهوماته شديدة النمطيّة والتحجّر، تجلّت للزملاء آراؤه بشكل متنوّر، وفوجئ الجميع بأنّه يمتلك رؤيا نقديّة مضيئة للتراث والواقع، لا سيما وأنّ الحديث تمحور حول إشكاليّات دينيّة ومعرفيّة بالغة الحسّاسيّة والدقّة.
لقد أثمرت جهود الأخ العلاّمة الحيدري إعداد جيل من مدرِّسي التفسير والمنطق والفلسفة والعرفان وعلم الكلام في الحوزة العلميّة في قم، وفجأةً برزت جهودهم في الحوزة العلميّة في النجف بعد عودتهم إلى بلدهم في الثلاث سنوات الأخيرة، فأصبحوا يشكِّلون تيّاراً مؤثِّراً وفاعلاً ومتميِّزاً في النجف، من خلال إحيائهم للدرس الفلسفي فيها، وانهماكهم في تدريس «بداية الحكمة» و «نهاية الحكمة» و«أصول الفلسفة» للعلاّمة الطباطبائي، و«الإشارات والتنبيهات» لابن سينا، و«الأسس المنطقيّة للاستقراء» للسيّد الشهيد محمّد باقر الصدر… وغيرها. وعبر ترويجهم للكتاب الفلسفي، والاهتمام بتراث العرفاء والمتكلِّمين، بعد سنوات طويلة من تراجع الاهتمام بهذه المعارف، ومنع نظام صدّام المتوحِّش تداول تلك الكتب.
وأتمنّى أن يهتمّ السيّد كمال الحيدري بالتيّارات الراهنة للتفكير الديني في إيران، خاصّةً وأنّ هذا التفكير يشهد تحوّلات عميقة، وتتحرّك في فضائه جداليّات متنوّعة، امتدّت إلى الحوزة العلميّة في قم منذ سنوات، واستوعبت أغلب صفحات دوريّات الفكر الديني الناطقة بالفارسيّة، الصادرة عن مؤسّسات الحوزة العلميّة أو خارجها، كما أحدثت تحوّلات هامّة في نمط المعارف والبحوث المتداولة في كليّات الإلهيّات والمعارف الإسلاميّة في إيران، كما نجد ذلك في «فلسفة الدِّين» و«علم الكلام الجديد» و«فلسفة الفقه»… وغير ذلك.
فهل يظلّ السيّد كمال الحيدري غارقاً في التراث بالرغم من محاولاته الجادّة في إحياء مكوّناته المضيئة، وهو يعلم بأنّ إغفال أو إهمال أو تجاهل تلك التحوّلات، قد يمنعه من مواكبة إيقاع الحياة ومتغيّرات العالم اليوميّة، و«العالم بزمانه لا تهجم عليه اللوابس» حسب تعبير الإمام عليّ (عليه السلام).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) مهرتابان، السيّد محمّد حسين الطهراني: ص60 ـ 62.
(2) المصدر السابق: 62.
(3) تطوّر الدرس الفلسفي في الحوزة العلميّة، د. عبد الجبّار الرفاعي، بيروت، دار الهادي، الطبعة الثانية، 1421هـ: ص134 ـ 137.