نصوص ومقالات مختارة

  • التقوى غاية العبادة

  • إنّ الله سبحانه خلق الإنسان لأجل عبادته ، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (الذاريات: 56)، لذا أكّد القرآن  أنّ من أهمّ أهداف بعثة الأنبياء والمرسلين، الدعوة إلى عبادة الواحد الأحد قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} (النحل: 36)، وقال: {وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} (مريم: 36).

    من الواضح: أنّ هذه العبادة ليست هي إلّا لاستكمال الإنسان بها، وإلّا فإنّه سبحانه لا نقص فيه ولا حاجة، حتى يستكمل بعبادة أحد وترتفع بها حاجته. وببيان آخر: إنّ العبادة كمال للفعل الذي هو الإنسان، لا كمال للفاعل الذي هو الحقّ سبحانه. قال تعالى: {…إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ} (إبراهيم: 8).

    لكن من جهة أُخرى نجد أنّ القرآن لا يجعل العبادة هي الغاية النهائية لخلق الإنسان، بل يجعلها غاية متوسّطة، ويرتّب عليها غايات أُخرى، من قبيل ما ورد في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (البقرة: 21)، حيث جُعلت التقوى هي الغاية والهدف من العبادة التي خُلق الإنسان لأجلها، وهذا معناه أنّ التقوى هي الكمال المطلوب للإنسان، والعبادة هي التي تهيّئ الأرضية للوصول إلى هذا الكمال.

    قال الرازي في ظل هذه الآية: «العبادة: فعل يحصل به التقوى، لأنّ الاتّقاء هو الاحتراز عن المضارّ، والعبادة فعل المأمور به، ونفس هذا الفعل ليس هو نفس الاحتراز عن المضار، بل يوجب الاحتراز، فكأنّه تعالى قال: اعبدوا ربّكم لتحترزوا به عن عقابه. وإذا قيل في نفس الفعل أنّه اتّقاء، فذلك مجاز، لأنّ الاتّقاء غير ما يحصل به الاتّقاء، لكن لاتّصال أحد الأمرين بالآخر أجرى اسمه عليه»([1]).

    لكن مع هذا لا يمكن أن تكون التقوى هي الهدف النهائي والغاية القصوى من خلق الإنسان؛ لما تقدّم بيانه أنّ التقوى إنّما هي زاد المسير إلى لقاء الله تعالى والقرب منه، ولا يمكن لما هو زاد السفر أن يكون هو الهدف. إن الهدف النهائي والغاية الأخيرة من العبادة والتقوى ، هو الوصول إلى لقاء الله تعالى: {…فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} (الكهف: 110).

    لذا نجد القرآن الكريم يعبِّر عن أولئك الذين كفروا بلقاء ربّهم أنّهم الأخسرون أعمالاً؛ قال تعالى: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً * أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً} (الكهف: 103ـ105).

    فإذا استطاع الإنسان أن يصل إلى مقام لقاء الله تعالى، ولا يتحقّق ذلك إلّا من خلال العبادة والتقوى، فقد انتهى إلى الفلاح الحقيقي؛ قال تعالى:
     {…وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (آل عمران: 200) حيث جعل الغاية من التقوى، الوصول إلى الفلاح {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} (الشمس: 9ـ10)، وعرّف المفلحين في آيات عديدة، بأنّ لهم الخيرات، وأنّهم ثقلت موازينهم ونحو ذلك. قال تعالى: {وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}  (الأعراف: 8).

    من هنا نقف على السبب الحقيقي وراء جعل التقوى هي الملاك في الكرامة الحقيقية عند الله؛ قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ…} (الحجرات: 13)؛ لأنّ التقوى هي التي تؤدّي بالإنسان إلى سعادته الحقيقية وحياته الطيّبة الأبدية في جوار ربّ العزّة: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} (القمر: 54 ـ 55)، وهي الوسيلة الوحيدة إلى سعادة الدار الآخرة {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} (آل عمران: 133)، {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ * وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ * إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} (المرسلات: 41ـ44)، {إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازاً * حَدَائِقَ وَأَعْنَاباً * وَكَوَاعِبَ أَتْرَاباً * وَكَأْساً دِهَاقاً * لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلا كِذَّاباً * جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَاباً} (النبأ: 31ـ36)، بل هي الوسيلة لوصول الإنسان إلى بركات السماء والأرض: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} (الأعراف: 96).

     ————————————————

    ([1]) التفسير الكبير: ج2 ص101.

    • تاريخ النشر : 2015/05/09
    • مرات التنزيل : 4885

  • جديد المرئيات