نصوص ومقالات مختارة

  • الفرقان بين الحقّ والباطل

  • قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً} (الأنفال: 29). قال الراغب في المفردات: «فرقت بين الشيئين فصلت بينهما، سواء كان ذلك بفصل يدركه البصر، أو بفصل تدركه البصيرة. والفرقان أبلغ من الفرق، لأنّه يستعمل في الفرق بين الحقّ والباطل»([1]).

    «وهو في الآية بقرينة السياق وتفريعه على التقوى: الفرقان بين الحقّ والباطل، سواء كان ذلك في الاعتقاد (بالتفرقة بين الإيمان والكفر، وكلّ هدىً وضلال)، أو في العمل (بالتمييز بين الطاعة والمعصية، وكلّ ما يرضي الله أو يسخطه)، أو في الرأي والنظر (بالفصل بين الصواب والخطأ)، فإنّ جميع ذلك كلّه ممّا تثمره شجرة التقوى . وقد أطلق الفرقان في الآية ولم يقيّده»([2]).

    نظير هذه الآية قوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} (العنكبوت: 69). قال الراغب في المفردات: «الجَهْدُ والجُهد: الطاقة والمشقّة، والمجاهدة: استفراغ الوسع في مدافعة العدو، والجهاد ثلاثة أضرب: مجاهدة العدوّ الظاهر، ومجاهدة الشيطان، ومجاهدة النفس»([3]).

    «وقوله: {جَاهَدُوا فِينَا} أي استقرّ جهادهم فينا، وهو استعارة كنائية عن كون جهده مبذولاً فيما يتعلّق به تعالى من اعتقاد وعمل، فلا ينصرف عن الإيمان به، والائتمار بأوامره والانتهاء عن نواهيه بصارف يصرفه.

    وقوله: {لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} أثبت لنفسه سبلاً وهي أيّاً ما كانت تنتهي إليه تعالى، فإنّما السبيل سبيل لتأديته إلى ذي السبيل، وهو غايتها. فسبله هي الطرق المقرّبة منه والهادية إليه تعالى. وممّا تقدّم يظهر أن لا حاجة في قوله: {فِينَا} إلى تقدير مضاف كشأن، والتقدير: في شأننا»([4]).

    هذا معناه: «أنّه بقدر ما تتطهّر القلوب من الأخلاق المذمومة التي هي الحُجب المانعة عن المعارف الإلهية والنفحات القدسية، تتحاذى شطر الحقّ الأوّل، وتتلألأ فيها حقائقه، كما أشار إليه رسول الله ’: «إنّ لربّكم في أيّام دهركم نفحات، ألا فتعرّضوا لها» فإنّ التعرّض لها، إنّما هو بتطهير القلوب عن الكدورات الحاصلة عن الأخلاق الرديّة، فكلّ إقبال على طاعة، وإعراض عن سيّئة، يوجب جلاءً ونوراً للقلب، يستعدّ به لإفاضة علم يقيني.

    وقال النبي أيضاً: «من عمل بما علِم ورّثه الله علم ما لم يعلم».

    فالرحمة الإلهية بحكم العناية الأزلية، مبذولة على الكلّ، غير مظنون بها على أحد {كُلّاً نُمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً} (الإسراء: 20)، لكن حصولها موقوف على تصقيل مرآة القلب وتصفيتها عن الخبائث الطبيعية. ومع تراكم صدئها الحاصل منها، لا يمكن أن يتجلّى فيها شيء من الحقائق. فلا تحجب الأنوار العلمية، والأسرار الربوبية عن قلب من القلوب لبخل من جهة المنعم تعالى شأنه عن ذلك، بل الاحتجاب إنّما هو من جهة القلب لكدورته وخبثه واشتغاله بما يضادّ ذلك.

    ثمّ ما يظهر للقلب من العلوم لطهارته وصفاء جوهره، هو العلم الحقيقي النوراني الذي لا يقبل الشكّ، وله غاية الظهور والانجلاء، لاستفادته من الأنوار الإلهية والإلهامات الحقّة الربّانية، وهو المراد بقوله ×: «إنّما هو نورٌ يقذفه الله في قلب من يشاء».

    وبما ذُكر ظهر: أنّ العلم الذي يحصل من طرق المجادلات الكلامية والاستدلالات الفكرية، من دون تصقيل لجوهر النفس، لا يخلو عن الكدرة والظلمة، ولا يستحقّ اسم اليقين الحقيقي، الذي يحصل للنفوس الصافية. فما يظنّه كثير من أهل التعلّق بقاذورات الدنيا أنّهم على حقيقة اليقين في معرفة الله سبحانه، خلاف الواقع. وإنّما هو إمّا تصديق مشوب بالشبهة، أو اعتقاد جازم لم تحصل له نورانية وجلاء وظهور وضياء، لكدرة قلوبهم الحاصلة من خبائث الصفات»([5]).

    وقد أشار الإمام أمير المؤمنين × إلى هذه الحقائق في كلماته، حيث قال: «قد أحيى عقله، وأمات نفسه، حتى دقّ جليله، ولطف غليظه، وبرق له لامع كثير البرق، فأبان له الطريق، وسلك به السبيل، وتدافعته الأبواب إلى باب السلامة، ودار الإقامة، وثبتت رجلاه بطمأنينة بدنه في قرار الأمن والراحة، بما استعمل قلبه وأرضى ربّه»([6]).

     ————————————-

    ([1]) المفردات في غريب القرآن، الراغب الأصفهاني: مادة «فَرَق».

    ([2]) الميزان في تفسير القرآن: ج9 ص56.

    ([3]) المفردات في غريب القرآن: مادة «جهد».

    ([4]) الميزان في تفسير القرآن: ج16 ص151.

    ([5]) جامع السعادات، محمد مهدي النراقي: ج1 ص43، مؤسّسة الأعلمي للمطبوعات.

    ([6]) نهج البلاغة، من كلام له × في وصف سالك الطريق إلى الله سبحانه: رقم 220.

    • تاريخ النشر : 2015/05/09
    • مرات التنزيل : 3161

  • جديد المرئيات