الاختيار الإنساني ومشكلة تضادّ المصالح
من الخصائص التي تميّز بها الإنسان عن كثير من المخلوقات هي أن الإنسان كائن مختار، ويعني ذلك أنه كائن هادف أي يعمل من أجل هدف يتوخّى تحقيقه بذلك العمل، فهو يحفر الأرض من أجل أن يستخرج ماء ويطهي الطعام من أجل أن يأكل طعاماً لذيذاً ويجرّب ظاهرة طبيعية من أجل أن يتعرّف على قانونها وهكذا، بينما الكائنات الطبيعية البحتة تعمل من أجل أهداف مرسومة من قِبل واضع الخطّة، لا من أجل أهداف تعيشها هي وتتوخّى تحقيقها. فالرئة والمعدة والأعصاب في ممارسة وظائفها الفسيولوجية تعمل عملاً هادفاً، ولكن الهدف هنا لا تعيشه هي من خلال نشاطها الطبيعي والفسيولوجي الخاصّ وإنما هو هدف الصانع الخبير. ولما كان الإنسان كائناً هادفاً ترتبط مواقفه العملية بأهداف يعيها ويتصرّف بموجبها، فهذا يفترض ضمناً أن الإنسان في مواقفه العملية هذه ليس مسيّراً وفق قانون طبيعيّ صارم كما تسقط قطرة المطر في مسار محدّد وفقاً لقانون الجاذبية، لأنه في حالة من هذا القبيل لا يمكن أن يكون هادفاً أي يعمل من أجل هدف يعيش في داخل نفسه.
فلكي يكون الإنسان هادفاً لابدَّ أن يكون حرّاً في التصرّف ليتاح له أن يتصرّف وفقاً لما تنشأ في نفسه من أهداف. فالترابط بين المواقف العملية والأهداف هو القانون الذي ينظّم ظاهرة الاختيار لدى الإنسان، كما أن الهدف بدوره لا يوجد بصورة عشوائية فإن كلّ إنسان يحدّد أهدافه وفقاً لما تتطلّبه مصلحته وذاته من حاجات، وهذه الحاجات تحدّدها البيئة والظروف الموضوعية التي تحيط بالإنسان، غير أن هذه الظروف الموضوعية لا تحرّك الإنسان مباشرة كما تحرّك العاصفة أوراق الشجر، لأنّ هذا يعطّل دوره ككائن هادف. فلابدَّ للظروف الموضوعية إذن من تحريك الإنسان عن طريق الإثارة والإيحاء بتبنّي أهداف معيّنة، وهذه الإثارة ترتبط بإدراك الإنسان للمصلحة في موقف عملي معيّن، ولكن ليست كلّ مصلحة تحقّق إثارة للفرد وإنما تحقّقها تلك المصالح التي يدرك الفرد أنها مصالح له بالذات.
وحين ندرس مصالح الإنسان في حياته المعيشية يمكننا تقسيمها إلى فئتين:
إحداهما: مصالح الإنسان التي تقدّمها الطبيعة له بوصفه كائناً خاصّاً كالعقاقير الطبية مثلاً، فإن من مصلحة الإنسان الظفر بها من الطبيعة، وليست لهذه المصلحة صلة بعلاقاتها الاجتماعية مع الآخرين، بل الإنسان بوصفه كائناً معرّضاً للجراثيم الضارّة بحاجة إلى تلك العقاقير سواء كان يعيش منفرداً أم ضمن مجتمع مترابط.
الفئة الأخرى: مصالح الإنسان التي يكفلها له النظام الاجتماعي بوصفه كائناً اجتماعياً يرتبط بعلاقات مع الآخرين، كالمصلحة التي يجنيها الإنسان من النظام الاجتماعي حين يسمح له بمبادلة منتوجاته بمنتوجات الآخرين أو حين يوفّر له ضمان معيشته في حالات العجز والتعطّل عن العمل. وسوف نطلق على الفئة الأولى اسم المصالح الطبيعية، وعلى الفئة الثانية اسم المصالح الاجتماعية.
ولكي يتمكّن الإنسان من توفير مصالحه الطبيعية والاجتماعية يجب أن يجهّز بالقدرة على معرفة تلك المصالح وأساليب إيجادها، وبالدافع الذي يدفعه إلى السعي في سبيلها. فالعقاقير التي تستحضر للعلاج من السلّ مثلاً توجد لدى الإنسان حين يعرف أن للسلّ دواءً ويكتشف كيفية استحضاره ويملك الدافع الذي يحفّزه على الانتفاع باكتشافه واستحضار تلك العقاقير، كما أن ضمان المعيشة في حالات العجز بوصفه مصلحة اجتماعية يتوقّف على معرفة الإنسان بفائدة هذا الضمان وكيفية تشريعه وعلى الدافع الذي يدفع إلى وضع هذا التشريع وتنفيذه. فهناك إذن شرطان أساسيان لا يمكن بدونهما للنوع الإنساني أن يظفر بحياة كاملة تتوفّر فيها مصالحه الطبيعية والاجتماعية:
• أن يعرف تلك المصالح وكيف تُحقّق.
• أن يملك دافعاً يدفعه بعد معرفتها إلى تحقيقها.
ونحن إذا لاحظنا المصالح الطبيعية للإنسان كاستحضار عقاقير للعلاج من السلّ وجدنا أن الإنسانية قد زُوّدت بإمكانات الحصول على تلك المصالح، فهي تملك قدرة فكرية تستطيع أن تدرك بها ظواهر الطبيعة والمصالح التي تكمن فيها. وهذه القدرة وإن كانت تنمو على مرّ الزمن نموّاً بطيئاً ولكنّها تسير على أي حال في خطّ متكامل في ضوء الخبرة والتجارب المستمدّة، وكلّما نمت هذه القدرة كان الإنسان أقدر على إدراك مصالحه ومعرفة المنافع التي يمكن أن يجنيها من الطبيعة.
وإلى جانب هذه القدرة الفكرية تملك الإنسانية دافعاً ذاتياً يضمن اندفاعها في سبيل مصالحها الطبيعية، فإن المصالح الطبيعية للإنسان تلتقي بالدافع الذاتيّ لكلّ فرد. فليس الحصول على العقاقير الطبية مثلاً مصلحة لفرد دون فرد أو منفعة لجماعة دون آخرين. فالمجتمع الإنساني دائماً يندفع في سبيل توفير المصالح الطبيعية بقوّة، من الدوافع الذاتية للأفراد التي تتفق كلّها على الاهتمام بتلك المصالح وضرورتها بوصفها ذات نفع شخصيّ للأفراد جميعاً.
وهكذا نعرف أن الإنسان ركّب تركيباً نفسياً وفكرياً خاصّاً يجعله قادراً على توفير المصالح الطبيعية وتكميل هذه الناحية من حياته عبر تجربته للحياة والطبيعة.
وأما المصالح الاجتماعية فهي بدورها تتوقّف أيضاً كما عرفنا على إدراك الإنسان للتنظيم الاجتماعي الذي يصلحه وعلى الدافع النفسي نحو إيجاد ذلك التنظيم وتنفيذه.
فما هو نصيب الإنسان من هذين الشرطين بالنسبة إلى المصالح الاجتماعية؟ وهل جهّز الإنسان بالقدرة الفكرية على إدراك مصالحه الاجتماعية وبالدافع الذي يدفعه إلى تحقيقها كما جُهّز بذلك بالنسبة إلى مصالحه الطبيعية؟
ولنأخذ الآن الشرط الأول، فمن القول الشائع أن الإنسان لا يستطيع أن يدرك التنظيم الاجتماعي الذي يكفل له كلّ مصالحه الاجتماعية وينسجم مع طبيعته وتركيبه العامّ، لأنه أعجز ما يكون عن استيعاب الموقف الاجتماعي بكلّ خصائصه والطبيعة الإنسانية بكلّ محتواها. ويخلص أصحاب هذا القول إلى نتيجة هي أن النظام الاجتماعي يجب أن يوضع للإنسانية ولا يمكن أن تترك الإنسانية لتضع لنفسها النظام ما دامت معرفتها محدودة وشروطها الفكرية عاجزة عن استكناه أسرار المسألة الاجتماعية كلّها. وعلى هذا الأساس يقدمون الدليل على ضرورة الدين في حياة الإنسان وحاجة الإنسانية إلى الرسل والأنبياء، بوصفهم قادرين عن طريق الوحي على تحديد المصالح الحقيقية للإنسان في حياته الاجتماعية وكشفها للناس.
غير أن المشكلة في رأينا تبدو بصورة أكثر وضوحاً حين ندرس الشرط الثاني. فإن النقطة الأساسية في المشكلة ليست هي كيف يدرك الإنسان المصالح الاجتماعية؟ بل المشكلة الأساسية هي كيف يندفع هذا الإنسان إلى تحقيقها وتنظيم المجتمع بالشكل الذي يضمنها؟ ومثار المشكلة هو أن المصلحة الاجتماعية لا تتّفق في أكثر الأحايين مع الدافع الذاتي، لتناقضها مع المصالح الخاصّة للأفراد. فإن الدافع الذاتي الذي كان يضمن اندفاع الإنسان نحو المصالح الطبيعية للإنسانية لا يقف الموقف نفسه من مصالحها الاجتماعية، فبينما كان الدافع الذاتي يجعل الإنسان يحاول إيجاد دواء للسل، لأنّ إيجاد هذا الدواء من مصلحة الأفراد جميعاً.. نجد أن هذا الدافع الذاتي نفسه يحول دون تحقيق كثير من المصالح الاجتماعية ويمنع عن إيجاد التنظيم الذي يكفل تلك المصالح أو عن تنفيذه. فضمان معيشة العامل حال التعطّل يتعارض مع مصلحة الأغنياء الذين سيكلَّفون بتسديد نفقات هذا الضمان. وتأميم الأرض يتناقض مع مصلحة أولئك الذين يمكنهم احتكار الأرض لأنفسهم. وهكذا كلّ مصلحة اجتماعية فإنها تمنى بمعارضة الدوافع الذاتية من الأفراد الذين تختلف مصلحتهم عن تلك المصلحة الاجتماعية العامّة.
وفي هذا الضوء نعرف الفارق الأساسي بين المصالح الطبيعية والمصالح الاجتماعية. فإن الدوافع الذاتية للأفراد لا تصطدم بالمصالح الطبيعية للإنسانية بل تدفع الأفراد إلى إيجادها واستثمار الوعي التأملي في هذا السبيل، وبذلك كان النوع الإنساني يملك الإمكانات التي تكفل له مصالحه الطبيعية بصورة تدريجية وفقاً لدرجة تلك الإمكانات التي تنمو عبر التجربة. وعلى العكس من ذلك المصالح الاجتماعية، فإن الدوافع الذاتية التي تنبع من حبّ الإنسان لنفسه وتدفعه إلى تقديم صالحه على صالح الآخرين، تحول دون استثمار الوعي العملي عند الإنسان استثماراً مخلصاً في سبيل توفير المصالح الاجتماعية وإيجاد التنظيم الاجتماعي الذي يكفل تلك المصالح وتنفيذ هذا التنظيم.
وهكذا يتّضح أن المشكلة الاجتماعية التي تحول بين الإنسانية وتكاملها الاجتماعي هي التناقض القائم بين المصالح الاجتماعية والدوافع الذاتية، وما لم تكن الإنسانية مجهّزة بإمكانات للتوفيق بين المصالح الاجتماعية والدوافع الأساسية التي تتحكّم في الأفراد، لا يمكن للمجتمع الإنساني أن يظفر بكماله الاجتماعي.
وهكذا تبقى المشكلة كما هي مشكلة مجتمع يتحكّم فيه الدافع الذاتي، وما دامت الكلمة العليا للدافع الذاتي الذي تمليه على كلّ فرد مصلحته الخاصّة، فسوف تكون السيطرة للمصلحة التي تملك قوّة التنفيذ، فمن يكفل لمصلحة المجتمع في زحمة الأنانيات المتناقضة أن يصاغ قانونه وفقاً للمصالح الاجتماعية للإنسانية، مادام هذا القانون تعبيراً عن القوّة السائدة في المجتمع؟!
ولا يمكننا أن ننتظر من جهاز اجتماعيّ كالجهاز الحكومي أن يحلّ المشكلة بالقوّة ويوقف الدوافع الذاتية عند حدّها، لأنّ هذا الجهاز منبثق عن المجتمع نفسه، فالمشكلة فيه هي المشكلة في المجتمع بأسره لأنّ الدافع الذاتي هو الذي يتحكّم فيه.
ونخلص من ذلك كلّه إلى أن الدافع الذاتي هو مثار المشكلة الاجتماعية وأن هذا الدافع أصيل في الإنسان لأنه ينبع من حبّه لذاته. فهل كُتب على الإنسانية أن تعيش دائماً في هذه المشكلة الاجتماعية النابعة من دوافعها الذاتية وفطرتها وأن تشقى بهذه الفطرة؟! وهل استثنيت الإنسانية من نظام الكون الذي زُوّد كلّ كائن فيه بإمكانات التكامل، وأودعت فيه الفطرة التي تسوقه إلى كماله الخاصّ كما دلّت على ذلك التجارب العلمية إلى جانب البرهان الفلسفي؟!