الفطرة دليل معرفة الله
إنّالفطرة هي الحجّة الأشمل والأقرب إلى كلّ مخلوق، ولا يحتاج فيها طالب المعرفة إلىمراتب معرفية أعلائية لبلوغها، وهذا ما يناسب دعوة الجميع للعودةإليها.
ولعلّ من أهمّ امتيازات طريقية الفطرة كونها تُمثِّل محور المعارف الإلهية بمراتبها الثلاث، أعني: إثبات الواجب، والتوحيد، ومعرفة الله تعالى.
وهذا الامتياز يعطيها بُعداً منهجيّاً ـ في قربها ويُسرها وشموليّتها ـ يمنحها أولوية صدارة جميع الطرق المعرفية الأخرى بحثاً لا معرفيّاً، كما ستعرف1، وهذا يعني أنّ الإنسان لو خُلّي ونفسه بعيداً عن معطيات رسالات السماء وعن جميع موارد الهداية الخارجية (خارج فطرة الإنسان) فإنّه يمكنه بنحو وآخر أن يحصل على المعارف الإلهية الرئيسية، ولو بوجودها الإجمالي، ولكن هذا لا يلغي أهمّية وضرورة معطيات رسالات السماء، والمعبّر عنها بالهداية التشريعية في قِبال الهداية الفطرية والتكوينية2حيث تُسهم الهداية التشريعية في رسم وتحديد المصداق الفعلي للكمال المطلق وإرشاد السالك إلى السبل الصحيحة في الوصول إلى عالم التحقّق بمراتب الكمال.
إذاً فالهداية الفطرية التي جُبِل الخلقُ عليها كفيلة هي الأخرى بتحريك الإنسان باتّجاه الكمال المطلق، وتحقيق غاية وجوده الكبرى، والحصول على رسوم الكمالات العليا، ولذلك يمكن القول: إنّ مقتضى حال دعوة الأنبياء هو اليُسر واليسار في أداء مهامّهم الإلهية والقبول التامّ من قبل الرعية لها، ولكنّ الإخلاد إلى الأرض3، والدسّ في التراب4، والانكباب على عالم المادّة، حجب العقول عن الرؤية الحقّة وعكّر صفو القلب وأوجد الكدورة والشوب فيه. إنّ المكوث في عالم المادّة والقصور والنقص جعل ذلك الفرات العذب السائغ شرابه ملحاً أُجاجاً؛ ذلك الماء السماوي الطاهر الذي فُطر الخلق عليه بما تقتضيه استعداداتهم الأوّلية.
ولعلّ أروع الإشارات القرآنية قد تجلّت في قوله تعالى: (أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا)5، ذلك الماء الذي خُلق منه كلّ شيء حيّ، (وَجَعَلْنَا مِنْ الْمـَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلاَ يُؤْمِنُونَ)6، فصار الكلّ بذلك الجعل الفطري عارفاً بربّه ولكن كلّ بحسبه، فكان الحدّ المعرفي لكلّ موجود قَدَرَه المحدود ولم يكن بقدر الماء نفسه؛ لأنّه مطلق لا قدر له. وقد كان مقتضى هذا السيل المعرفي الإقرار به تعالى وتوحيد الإشارة إليه وحصول المعرفة به في عالمنا هذا، ولكنّ السيل لم يحفظ ماءه الإلهي فاحتمل معه زبداً رابياً (فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رَابِياً)7، فمن أقصر النظر على الماء ونأى بنفسه عن الزبد (عدم الالتفات إلى عالم المادّة) فذلك الذي نجا وسما وله الحُسنى، (لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْـحُسْنَى)8، ومن استحكم الزبد بحركاته وسكناته الفكرية والسلوكية ونأى بنفسه عن الحقّ فذلك الذي بغى وطغى وخلد إلى الأرض، فلا يُجديه بعد ذلك خلوده السفلي ولو افتدى بجميع ما خلُد إليه في الأرض (وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَـهُمْ مَا فِي الأرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لاَفْتَدَوْا بِهِ أُوْلَئِكَ لـَهُمْ سُوءُ الْـحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ)9.
إنّ الاستجابة وعدمها تعبيران آخران عن الرجوع إلى الفطرة وعدم الرجوع إليها، فمن استجاب وعاد إلى فطرته فله الحسنى، ومن لم يستجب ولم يعد إلى فطرته فله سوء الحساب.
إنّ غلبة الزبد على السيل واستحكامه بحركات الإنسان وسكناته هو ما يُعبَّر عنه قرآنيّاً بالرين: (كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ)10. فمن بلغت به التعلّقات المادّية إلى درجة الرين فذلك لا يُتوقّع منه الاستجابة والعود، وأمّا مَن لم تبلغ به تعلّقاته المادّية درجة الرَّين فإنّ الزبد وإن علا سيله إلاّ أنّه لا يمكث فيه (…فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأرْضِ)11.
فالرين يمنع عادةً من الاستجابة للحقّ، وهذا ما يُفسّر لنا ذلك الصدود والجفاء والجحود الذي مارسه مشركو قريش تجاه الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله ورسالته المقدّسة، فهم رُغم معرفتهم المُسبقة بسمت وخُلق الرسول صلى الله عليه وآله إلاّ أنّهم قابلوه بالصدود والمواجهة والعُنف، وكلّما ازدادت دعوة الإسلام ظهوراً ووضوحاً، وشخصية الرسول صلى الله عليه وآله سطوعاً ورفعة، ازدادوا حنقاً وحقداً وبغضاً وتعنّتاً، (وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ)12، وما ذلك إلاّ لاستحكام الزبد على السيل، واستحكام الرين على جميع منافذ القلب، ولذلك فأولئك بغيّهم يأتون ويذهبون وهم خالو الوفاض13 من كلّ كمال وعلم ومعرفة، وأيّ كمال يبقى لديهم وهم أضلّ من الأنعام سبيلاً؟!
إنّ من غادر خزائنه الأولى (صبغة الله وفطرته)، واستحكم الرين به يكون قد أغلق باب العود عليه، أو أُغلق بابُ العود عليه باستجابته لمقتضيات الرين، فلمّا راودته الدُّنيا التي هو في بيتها عن نفسه وغلّقت الأبواب وقالت هيت لك، لم يقل كما قال يوسف عليه السلام: (إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ)14، ولم يقل كما قال أمير المؤمنين عليّ عليه السلام: (يا دنيا إليَّ تعرّضتِ؟ أم إليَّ تشوّقتِ؟ هيهات هيهات غُرّي غيري؛ لقد طلّقتك ثلاثاً لا رجعة لي فيك، فعمرك قصير، وعيشك حقير، وخطرك كبير)15، بل عقد عليها وجعل مهرها عمره وآخرته وقال: (إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ)16. وأيّ خسران بعد فقد الفطرة وفقد القدرة على العود إليها، (خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الخُسْرَانُ المُبِينُ)17، أمّا خسارة الآخرة فواضحة، وأمّا خسارة الدنيا فلأنّه عاش فيها أعمى القلب في ظلمات لا يُبصر فيها.
إنّ الرجوع إلى الفطرة هو خلاصة الكمال المقصود وذروة معطيات رسالات السماء، لأنّ العود الحقّ هو تجلٍّ لخلاصة المعارف الإلهية الحقّة، وخلاصة العود هو صون الماء عن الزبد، وقد ترك المولى جلّ وعلا ذلك العود لإرادة الإنسان واختياره. ولا ريب أنّ العود للشيء هو أيسر من المُضيّ إليه أوّلاً، فإنّ المُضيّ للشيء أوّلاً يعني الجهل به مسبقاً فلا تقع منه إشارة في الطريق، بل لا تقع منه عبارة أيضاً فضلاً عن اللطائف والحقائق18، وذلك يعني أنّ العود الحقيقي للفطرة السليمة هو فتح كبير، بل الأكبر في عالم الحقائق الكونية حيث الوقوف على الإشارات واللطائف والحقائق بقدر ما يسمح به ظرف العائد معرفيّاً وسلوكيّاً.
لقد ذكرنا أنّ الفطرة هي ما فطر الله عليه الخلق من المعرفة به، وهذه المعرفة الحقّة هي الحجر الأساس في أصل وجوده والملاك الحقيقي في إبرازه من كتم العدم إلى ساحة الوجود. فالفطرة الأولى هي تعبير آخر عن المعرفة الحقّة بالله تعالى، ولذا فهي ـ أي الفطرة ـ نحو كمال مخصوص أُوجد الإنسان عليه، بل الخلائق أجمعين؛ ما يعني أنّ جميع المفردات المعرفية التي تستبطنها الفطرة هي مفردات حضورية لا حصولية. وقد نبّه القرآن الكريم إلى حقيقة بقاء هذه المفردات المعرفية وعدم زوالها من خلال الإشارة إلى الوعاء الحافظ لها وهو نفس الفطرة حيث عبّر عنها بأنّها خلق الله الذي لا تبديل له (… فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ)19 وإن كنّا نرى انعدام الاثنينية بين الظرف والمظروف ـ أعني: بين الفطرة (الوعاء أو الظرف) وبين المعرفة (مادّة الوعاء أو المظروف) ـ فإنّ المعرفة التي ينبغي أن يكون عليها الإنسان في عالم الفطرة ليست معرفة قائمة على أساس الصور الذهنية التي هي عماد المعرفة الحصولية فتبقى ما بقيت صورها الذهنية وتذهب ما ذهبت تلك الصور، وإنّما هي معرفة حضورية وجودية غير قابلة للزوال البتّة وإن كان حجبها ممكناً، بل واقعاً أيضاً، بل هو أكثريّ الوقوع، كما هو واضح. وكون هذه المعرفة الفطرية ـ التي هي الفطرة نفسها ـ غير قابلة للزوال والتبديل فذلك تعبير آخر عن استحالة الجمع بين وجود الإنسان وذهاب فطرته. بعبارة أخرى: إنّ بطلان الفطرة مساو بل مساوق20 إلى فناء الإنسان نفسه، وحيث إنّ افتراض وجود الإنسان يستحيل معه رفع الإنسانية عنه فكذا الحال في المقام، وهذا الارتباط الوجودي والوحدة الوجودية بين أصل وجود الإنسان وفطرته يؤكّد ويرسّخ ويُعمّق حقيقة حضورية هذه المعرفة.
فإذا ما اتّضح لنا أنّ المعرفة الفطرية هي معرفة حضورية لا حصولية وأنّها الطريق الأقرب والأقصر للإنسان والأشمل للمعارف الإلهية بمراتبها الثلاث، ينبغي لنا تحديد الآليات المناسبة للوصول إلى تلك المعرفة الحقّة، ولا ريب أنّ جميع الوسائل والآليات المفترضة في العلوم الحصولية القائمة على أساس الحركة الفكرية والنشاط الذهني ـ والمعبّر عنهما بالكسب والنظر ـ قاصرة عن إيصال طالب العود إلى مبتغاه. نعم، يمكن لتلك الآليات الكسبية أن تُسهم ولو بشكل غير مباشر في إرشاد طالب العود إلى مواضع الصحّة من البطلان، كما لو توقّف المسير على موارد شرعية عبادية فالوسائل الحصولية تكون لها مدخلية واضحة في تحديد الصحيح من الخطأ في مورد العبادة ومصداقها؛ فالصوم ـ وهو مفردة عبادية واضحة يُسهم إسهاماً جيّداً في العود إلى الفطرة ـ يحتاج فيه طالب العود إلى معرفة مصداقه الصحيح والجائز لا أن يصوم بأيّ كيفيّة وأيّ زمان ومكان. ولا ريب في مدخلية علم الفقه ـ وهو من العلوم الحصولية ـ في تحديد المصاديق الصحيحة من غير الصحيحة منها والجائزة من غير الجائزة.
_________________________
(1) سيأتي ذلك في أبحاث الطريق السادس.
(2) سيأتي الحديث عن الهداية التكوينية في أبحاث الطريق السادس أيضاً
(3) إشارة إلى قوله تعالى: (وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ) الأعراف: 176.
(4) إشارة إلى قوله تعالى: (…أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلاَ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ). النحل: 59.
(5) الرعد: 17.
(6) الأنبياء: 30.
(7) الرعد: 17.
(8) الرعد: 18.
(9) الرعد: 18.
(10) المطفّفين: 14.
(11) الرعد: 17.
(12) البقرة: 206.
(13) الوفاض يطلق على المكان الذي يُمسك الماء، انظر: لسان العرب لابن منظور الإفريقي المصري، دار إحياء التراث العربي، الطبعة الأُولى، 1405هـ: ج7 ص250.
(14) يوسف: 23.
(15) نظم درر السمطين للزرندي الحنفي محمد بن يوسف بن الحسن، طبع مكتبة الإمام= = أمير المؤمنين عليه السلام العامّة، الطبعة الأولى، 1958 هـ: ص135.
(16) المؤمنون: 37.
(17) الحج: 11.
(18) يروى عن أمير المؤمنين عليّ عليه السلام أنّه قال: (كتاب الله عزّ وجلّ على أربعة أشياء: على العبارة والإشارة واللطائف والحقائق، فالعبارة للعوام، والإشارة للخواصّ، واللطائف للأولياء، والحقائق للأنبياء) عوالي اللآلي العزيزية في الأحاديث الدينية، لابن أبي جمهور الإحسائي، تحقيق السيّد المرعشي والسيّد مجتبى العراقي، نشر مطبعة سيّد الشهداء، قم، الطبعة الأولى، 1403هـ: ج4 ص105 ح155.ولا ريب أنّ عالم الإمكان بأسره هو الآخر كتاب الله المقروء، وفيه مراتب أو عوالم ثلاثة هي:
1 ـ عالم المادّة الذي يُقابل العبارة حيث يفهمهما العوامّ.
2 ـ عالم الملكوت الذي يُقابل الإشارة حيث يفهمهما الخواصّ.
3 ـ عالم الجبروت ـ العقل ـ الذي يُقابل اللطائف حيث يفهمهما الأولياء.
وهنالك عالم رابع فوق هذه العوالم الثلاثة يسمّى بعالم اللاهوت الذي يُقابل الحقائق = = حيث يفهمهما الأنبياء، أو المعصوم مطلقاً. فاللطائف هي ظلّ الحقائق، والإشارات هي ظلّ اللطائف، والعبارات ظلّ الإشارات، كما أنّ عالم المادّة ظلّ الملكوت، والملكوت هو ظلّ الجبروت، والجبروت هو ظلّ اللاهوت، وهذه الظلّية هي تعبير آخر عن الظاهر في قِبال الباطن، فالإشارة هي باطن العبارة كما أنّ الملكوت هو باطن الملك والمادّة.
(19) الروم: 30.
(20) المساواة أعمّ من المساوقة، فالمساواة هي اختلاف في المفهوم والحيثيّة واتّفاق في المصداق، مثل الناطقية والضاحكية فهما مختلفان مفهوماً كما هو واضح ومتّفقان في الصدق على الإنسان، ولكنّهما مختلفان في حيثيّة صدقهما على الإنسان، فالناطقية حيثيّة ذاتية، والضاحكية حيثيّة عرضيّة، وأمّا المساوقة فهي اختلاف في المفهوم، واتّفاق وانطباق في الحيثيّة والمصداق، مثل صفات الله تعالى الذاتية فإنّ حيثيّة صدقها على الله تعالى واحدة وهي كونها عين الذات، ومصداقها جميعاً واحد لا غير وهو الله تعالى ولكنّها مختلفة مفهوماً، فمفهوم الحياة غير مفهوم القدرة، وهكذا.
وفي المقام يُراد الإشارة إلى أنّ هنالك مساوقة بين وجود الإنسان وفطرته، فهما مختلفان مفهوماً ومتّفقان مصداقاً وحيثيّة.