العلامة الحيدري، التغيير، واستحقاقات المرحلة
التأصيل العقائدي نموذجاً(1)
الشيخ ميثاق العسر
التغيير ظاهرة ليس لها كينونة وتقرر بدون المغيِّريين، فهم الذين يمررون أسم التغييرية على المرحلة؛ وذلك بجدارة أفكارهم التي تتخطى السائد لتطرح شيئاً ليس بسائد، ويُؤسس من خلال تلك الأفكار لمرحلة جديدة دون النيل من مناهج المرحلة السابقة، بل يبقى للمتابع حق التقييم، وحق الاستبدال.
من بين هؤلاء الذين يستحقون هذا العنوان هو: العلامة الأستاذ السيد كمال الحيدري، فقد بدأت جهوده تتضافر حينما انطلقت مرحلة الاستحقاق التغييري لتنادي المبدعيّن والحركيين؛ لوضع لمسات التغيير والسير على خطاها. لقد وعت جهوده هذه المرحلة خير وعي، فكان بحقٍ أحد رواد هذه المرحلة التأسيسيين في الحوزة العربية، واحتذى حذوه العديد من أساتذة ومتابعي هذا القطّاع.
لم تقتصر جهوده التغيرية على المنهج، بل تجاوزته إلى المفردات والخطاب، فقد وعى مكمن المشكلة، فجاء الحلُّ السليم، لكن علينا تفحص الإبداع التغييري في طرح العلامة الحيدري؛ لندلل على الدعوى التي صدّرنا بها مقالتنا، وسوف نقتصر على ملامح التأصيل العقائدي في فكره كنموذج للتغيير، وعليه فسوف نقسم ذلك إلى قسمين متناولين كل واحد منهما بالعرض والتحليل:
(1)
التغيير على مستوى المنهج
المنهج صراط الذين لا يريدون للفوضى الدخول إلى حريم العلم، فـدون هذا الصراط تضحى المعرفة خالية من الانسجام والترابطية، وبالتالي تفقد الإلزام الذي تصبو إليه. وتأسيساً على هذه البديهية المنهجية يتضح بأنَّ الفشل سوف يكون حليف أي باحث يريد الولوج لأي حقل معرفي دون منهج.
لنأخذ البحث العقائدي نموذجاً، فما لم يتمسك الداخل فيه بمنهج قويم يتناسب مع موضوعه ومسائله لن يصل إلى نتيجة معرفية سليمة، بل يبقى سارحاً يتخبط التمسك بأي نتيجة دون تناسب مع مقدماتها، وهذا ما يلحظه المتابع من خلال قراءة لتراثنا الإسلامي العقائدي.
لقد وعى علامتنا الحيدري أهمية هذا الموضوع، فرأى بأنَّ الخلاص الوحيد من هذا المأزق هو التأسيس لمرجعية عقائدية متكاملة تتكفل مهمة التأصيل النظري لأصول البحث العقائدي وفق منهج لا يحتمل الخطأ عند ثبوت مقدماته، وتتحمل الإجابة على الاستحقاقات العقائدية الراهنة والمستقبلية، متجاوزةً مبدأ عدم جواز التقليد في أصول الدين لتطرح فكرة أخرى يجوز من خلالها التقليد في تفاصيل البحث العقدي، ويُحصر الاجتهاد في أسس أصوله.
لقد جاءت المهمة وعرة وصعبة؛ إذ أنَّ المشارب والمسالك تتفاوت منهجاً في دخولها لمثل هذه الأبحاث، حيث يجد المتابع منهجاً للفلاسفة، ومنهجاً للمتكلمين، ومنهجاً للمحدّثين، وكل منهج يختلف عن الآخر أي اختلاف، لذا جاءت صعوبة التحديد، لكن لما كان المنهج الفلسفي هو الأنسب والأفضل في رأي العلامة الحيدري أختط على أساسه مشروعه، فبدأ يؤسس ـ وفقاً لهذا المنهج ـ خطابه ومفرداته.
وقبل أن يدخل في تفاصيل ذلك كانت المهمة لتأسيس ضوابط وأصول تمثل ركائز لا يمكن للباحث تجاوزها وهو يريد الولوج في البحث العقائدي، فكما لا يمكن للفقيه الدخول في البحث الفقهي دون أن يتحصن بأدوات ومنهج البحث الأصولي فالأمر كذلك في البحث العقائدي، حيث لا يمكن الدخول فيه لأخذ النتائج من غير التحصن بقواعده، ويبقى المجال مفتوحاً أمام الباحث لاختيار المنهج الأوفق في رأيه لفهم المعطيات العقدية.
عندما يؤسس في أصول العقائد على جواز الاعتماد على خبر الواحد لإثبات فروع البحث العقدي فلا يمكن أن يعترض معترض: بأنَّ هذا الفرع ليس له دليل يركن إليه سوى أخبار الآحاد التي ثبت في محله عدم جواز الركون إليها، بداهة إنَّ التأسيس لأصول الاستنباط الفقهي مختلف في بعض قواعده عن التأسيس لأصول الاستنباط العقائدي.
يذهب الحيدري إلى أنَّ يقين السواد الأعظم من المكلفين في عموم الأمور العقدية لا يعدو كونه يقيناً بسيطاً لا يحمل جزماً بعدم الخلاف، وهذا ما نلحظه حتى عند بعض أهل المعرفة والعلم ممن ليس لهم دربة وتخصص في هذا المجال.
وهذا الأمر لا يحمل محذوراً عقائدياً أصلاً، إذ أنَّ الأمور العقدية ـ في رأي الحيدري ـ ليست على نسق واحد، فاجتهادات المجتهدين ـ في العقائد ـ يُشترط في الإيمان ببعضها يقيناً مركباً، كالإيمان بأصل وجود الإله وتوحيده وضرورة النبوة والإمامة والمعاد، لكن غير المتخصصين يُكتفى باليقين البسيط منهم بمثل هذه الأمور.
كما أنَّ النسق الآخر من الأمور العقدية يُكتفى في الإيمان بها بالظن، كما في الاعتقاد بالصراط وتطاير الكتب وتفاصيل البعث والنشور.
وعلى ضوء هذا التقسيم تقع مسؤولية التأسيس لمثل هذه الأبحاث على كاهل علم أصول الاستنباط العقائدي ـ الذي دعا الحيدري له ـ ، فهو الذي يحدد القواعد المنهجية التي تُحدد السبيل لاستنباط الأحكام العقائدية الصحيحة في ظل التداخل المنهجي غير المدروس.
إنَّ عملية الاجتهاد العقائدي هذه عملية تحتاج إلى مزيد من التخصص والدراسة والمنهجة؛ بغية استكشاف الحكم العقائدي الصحيح في مكانه المناسب، وتحديد الدور المرحلي وفقاً لذلك، وبغير ذلك تبقى المنطقة العقائدية عرضة للدخلاء والباطنيين.
لم يقبل المشهور جواز التقليد في أصول الدين، وحصروا الأمر فيها باجتهاد المكلف فقط، مع أنَّ الأعمَّ الأغلب من المكلفين ورثوا الإيمان بأصول دينهم من الآباء والأجداد عملياً كما أسلفنا، ولم يقصروا ذلك على أصول العقائد، بل قلدوا عملياً حتى نهاية تفاصيلها.
إنَّ تحييد عمل المكلف بالعودة إلى المتخصص العقائدي الجامع للشرائط أمر لا مفر منه؛ للحفاظ على سلامة الاعتقادات، وضمان أوبتها إلى مصادرها بشكل صحيح، وإغماض النظر عن هذا التحييد ينذر ببوادر كارثة معرفية لا تنجب سوى الاعتقادات الباطلة والنظريات المتزلزلة.
على أنَّ من الضروري الإشارة إلى أنَّ الاختلافات العقائدية بين المتخصصين التي تدور مدار فهم الدليل وصحة صدوره، لا تؤدي إلى الخروج من الدائرة، بل هي على غرار الاختلافات الفقهية، عائدة للمبنى الأصولي العقائدي أو الفقهي الذي يُسار عليه، وقيمة أي اختلاف بقيمة الحجة العلمية التي تبرره.
إنَّ مبدأ عدم جواز التقليد في الأمور الاعتقادية أمرٌ خاطئ ـ في رأي الحيدري ـ ؛ إذ أنَّ جميع ما يُستدل به على ذ لك لا ينهض دليلاً يصح الاستناد إليه، فقد ناقش في تمامية جميع الأدلة المدعاة، ودعا في نهاية النقاش إلى التأصيل النظري لفكرة العودة إلى المتخصص الجامع للشرائط في الميدان العقائدي.
وقد تثار شبهة في البين مفادها: الاستفهام عن الدليل الذي قاد إلى الإيمان بجواز التقليد في هذه الأمور الاعتقادية؟
لكن الإجابة عن هذه الشبهة تغدو واضحة بعد معرفة وحدة مرتكزات هذا التجويز مع مرتكزات تجويز التقليد في الأمور الفقهية والعملية. نعم حصر المجوزون ذلك بالأمور العملية انطلاقاً من رؤيتهم الخاصة، وآمن الحيدري بالتعميم، انطلاقاً من رؤيته الخاصة أيضاً.
وعلى هذا جاءت مهمة العلامة الحيدري لتتحمل همَّ هذا التأسيس، معتمداً في أصول ذلك على المنهج المختار، فكانت انطلاقة مبكرة في حوزاتنا العربية في الوقت الراهن، وتفصيل الحديث في هذا الموضوع بحاجة إلى دراسة مستأنفة.