وقفة على مشارف سورة يوسف
لا يخفى على من كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد أنّ كلّ كلام الحقّ عزّ وجلّ هو أحسن الحديث بجميع سوره وآياته، وكيف لا ولله الأسماء الحسنى والصفات العليا؟! سبحانه وتعالى عمّا يشركون! وعليه فهو عزّ وجلّ أحسن في صفاته وأسمائه من كلّ شيء وفي كلّ شيء. في ضوء الأسماء الإلهية الحسنى نفهم أيضاً أنّ قصصه أحسن القصص وحديثه أحسن الحديث.
إلاّ أنّ السؤال المهم ونحن نقف على أبواب هذه السورة المباركة هو أنّ الله سبحانه وصف قصّة يوسف عليه السلام بأنّها (أَحْسَن الْقَصَصِ) فإنّه لم يرد مثل هذا التعبير في القرآن إلاّ في هذه القصّة، فلماذا كانت أحسن القصص مع أنّ القصص الإلهي كلّه أحسن القصص؟! قال سبحانه: (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ…)(1).
ولم يكتف القرآن الكريم بوصف القصّة بأنّها أحسن القصص بل راح يسرد تفاصيل قصّة يوسف الصدّيق عليه السلام باستقصائها من أوّلها إلى آخرها، ولم يرد في قصص القرآن الأخرى هذا النوع من التفصيل والاستقصاء إلاّ في هذه السورة المباركة؟!
لقد طالعتنا سورة يوسف في آياتها الأُولى بأنّها بصدد التعرّض لقصّة هي من أحسن القصص، ثمّ ذكرت في أواخر آياتها بعد حكاية القصّة بتمامها أنّ هذه القصص ما هي إلاّ عبرة لأُولي الألباب، ومن ثمّة نفهم أنّ التفاصيل المتقدّمة في القصّة والتي حكت لنا الأطوار التي مرّ بها يوسف عليه السلام مذ كان صبياً إلى أوان جلوسه على عروش آل فرعون لم تذكر لغرض معرفة مجموعة من المعلومات في حياة أحد الأنبياء عليهم السلام بل كلّ ما في الأمر أنّ هناك عبرة لأُولي الألباب في كلّ مقطع من مقاطع هذه القصّة العظيمة.
استناداً إلى معطيات الكلام المتقدّم فنحن أمام قصّة هي من أحسن القصص التي وصفها الحقّ عزّ اسمه بأنّها عبرة لأصحاب العقول، وعليه ينبغي الوقوف على أهميّة القصّة ومعرفة الدور الذي مثّلته في الرسالات الإلهية والذي أوصلها إلى مقام أحسن القصص.
قال سبحانه: (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْء وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْم يُؤْمِنُونَ)(2).
ينبغي أن نضع نصب أعيننا أنّ الله سبحانه في هذه السورة بصدد التعرّض لحياة إنسان يريد أن تكون قصّته عبرة لأُولي الألباب وهدى ورحمة لقوم يؤمنون. في ضوء ذلك ذكر صاحب الميزان قدس سره أنّ غرض السورة هو بيان ولاية الله لعبده الذي أخلص له تعالى إخلاصاً وامتلأ بمحبّته عزّ وجلّ (إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ)(3).
كما بيّنت أنّ الله تعالى يتولّى أمر عبده المخلص بيده فيربّيه أحسن تربية ويورده مورد القرب ويسقيه فيرويه من مشرعة الزلفى وبذلك يستخلصه لنفسه ويهبه الحياة الإلهية حتّى لو اجتمعت الأسباب الظاهرية على هلاك ذلك العبد، بل إنّ الله سبحانه يرفع عبده المخلص من حيث أرادت الحوادث الظاهرة أن تضعه، ويعزّه وإن دعت النوائب ورزايا الدهر إلى ذلّته وحطّ قدره(4).
فقد أفادت السورة أنّه لا دافع لقضاء الله تعالى ولا مانع من قدره وأنّه سبحانه إذا قضى لإنسان بخير ومكرمة فلو أنّ أهل العالم اجتمعوا على دفع ذلك لم يقدروا ولم يجدوا إلى ذلك سبيلاً(5).
وبالتأمّل في مقاطع قصّته عليه السلام نجد أنّه كان عبداً مخلصاً في عبوديته فأخلصه الله لنفسه وأعزّه بعزّته، ولرأينا كيف تجمّعت الأسباب على إذلاله وضعته من كيد إخوته وكذبهم إلى البئر وغيابة الجبّ ومنه إلى امرأة العزيز وإغوائها له ثمّ إلى السجن، فكلّما ألقته الأسباب الظاهرة في إحدى المهالك أحياه الله تعالى من نفس السبيل التي كانت تريد أن توصله إلى الهلاك، فقد حسده إخوته فألقوه في غيابة الجبّ ثمّ شروه بثمن بخس دراهم معدودة فذهب به ذلك إلى مصر وأدخله في بيت الملك والعزّة، ثمّ راودته التي هو في بيتها عن نفسه واتّهمته عند العزيز ولم تلبث دون أن اعترفت عند النسوة ببراءته ثمّ اتّهمته وأدخلته السجن فكان ذلك سبب قربه عند الملك، وكان قميصه الملطّخ بالدم الذي جاؤوا به إلى أبيه يعقوب هو السبب الوحيد في ذهاب بصره فصار قميصه بعينه هو السبب في عود بصره إليه.
(وبالجملة كلّما نازعه شيء من الأسباب المخالفة أو اعترضه في طريق كماله جعل الله تعالى ذلك هو السبب في رشد أمره ونجاح طلبته، ولم يزل سبحانه يحوّله من حال إلى حال حتّى آتاه الحكم والملك واجتباه وعلّمه من تأويل الأحاديث وأتمّ نعمته عليه كما وعده أبوه)(6) كما نصّت السورة على ذلك بقوله تعالى حكاية عن يعقوب عليه السلام: (وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ)(7).
تجدر الإشارة أيضاً إلى أنّ من اللمحات الرائعة التي تنطوي عليها هذه القصّة هي ظهور الغلبة الإلهية وانتصارها في نهاية المطاف رغم الأسباب الظاهرة التي أرادت أن تقف بوجه هذه الغلبة الربّانية والإرادة الإلهية التي تجلّت في ولاية الله عزّ وجلّ لنبيّه يوسف الصدّيق عليه السلام.
لنتأمّل سوية في هذه اللوحة القرآنية الرائعة التي يظهر فيها سريان القدرة الإلهية وانتصار الغلبة الربّانية بنفس الأسباب التي تريد أن تقف بوجه هذه الإرادة الغالبة؛ قال سبحانه: (وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً)(8).
إلى هنا يكون يوسف عليه السلام قد وصل إلى مرحلة (وَشَرَوْهُ بِثَمَن بَخْس دَرَاهِمَ مَعْدُودَة)(9) وأنّ الذي اشتراه يوصي امرأته بإكرام مثوى هذا الشخص الذي كانوا فيه من الزاهدين! ولكن ما هي نتيجة ذلك؟ هل بقي فعلاً على ذلك الثمن البخس وأين أدّت به تلك الصفقة من الدراهم؟!
طبيعي بحسب الأسباب الظاهرة لابدّ أن تؤدّي مثل هذه الأحداث إلى أن يكون مملوكاً ضعيفاً في بيت شخص كالعزيز كما هو حال العبيد الذين يشترون من السوق!! إلاّ أنّ الأُمور في نظر الإرادة الإلهية ليست بهذه الصورة، ولا على غرار هذا التصوّر الذي تسوقه الأسباب الظاهرة، بل نجد القرآن في هذه الآية المباركة يقرّر نتيجة أُخرى تختلف تماماً عمّا كنّا نتصوّره أن يكون ثمرة للأحداث المذكورة، فيقول مباشرة بعد المقطع الذي يقرّر كلام العزيز لامرأته: (وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَاللهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ)(10).
فبدلاً من أن يكون مملوكاً في بيت العزيز تقرّر هذه الآية المباركة أن (مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ)(وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ).
فكيف أصبحت صفقة الدراهم المعدودة سبباً في التمكين في الأرض وكيف صار البيع بذلك الثمن البخس سبباً للوصول إلى مقام تأويل الأحاديث؟! كلّ هذه الأسئلة تجيب عليها الآية المتقدّمة حينما تقرّر في ذيلها أنّ الله تعالى غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون!
هذه الغلبة التي تتجلّى في موضع آخر من القرآن عند قوله تعالى: (إِنَّ اللهَ بَالِغُ أَمْرِهِ)(11). وقوله تعالى: (كَتَبَ اللهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي)(12). وقوله أيضاً: (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمْ الْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمْ الْغَالِبُونَ)(13).
في ضوء هذه اللمحات الرائعة التي تنطوي عليها قصّة يوسف عليه السلام يقرّر بعض الباحثين بأنّها (تمثّل النموذج الكامل لمنهج الإسلام في الأداء الفنّي للقصّة، بقدر ما تمثّل النموذج الكامل لهذا المنهج في الأداء النفسي والعقدي والتربوي والحركي أيضاً، ومع أنّ المنهج القرآني واحد في موضوعه وفي أدائه، إلاّ أنّ قصّة يوسف تبدو وكأنّها المعرض المتخصّص في عرض هذا المنهج من الناحية الفنّية للأداء.
إنّ القصّة تعرض شخصية يوسف وهي الشخصية الرئيسية في القصّة عرضاً كاملاً في كلّ مجالات حياتها… بكلّ جوانب هذه الحياة وبكلّ استجابات هذه الشخصية في هذه الجوانب وتلك المجالات.
وتعرض أنواع الابتلاءات التي تعرّضت لها تلك الشخصية الرئيسية، وهي ابتلاءات متنوّعة في طبيعتها وفي اتّجاهاتها.. ابتلاءات الشدّة.. وابتلاءات الرخاء.. وابتلاءات الفتنة بالشهوة… والفتنة بالسلطان… وابتلاءات الفتنة بالانفعالات والمشاعر البشرية تجاه شتّى المواقف وشتّى الشخصيات… ويخرج العبد الصالح من هذه الابتلاءات والفتن كلّها.. نقيّاً خالصاً متجرّداً متّجهاً إلى ربّه…
وإلى جانب عرض الشخصية الرئيسية تعرض القصّة الشخصيات المحيطة بدرجات متفاوتة من التركيز، وفي مساحات متناسبة من رقعة العرض، وعلى أبعاد متفاوتة من مركز الرؤية، وتتعامل القصّة مع النفس البشرية في واقعيتها الكاملة.. متمثّلة في نماذج متنوّعة.
نموذج (يعقوب): الوالد المحبّ الملهوف والنبيّ المطمئن الموصول. ونموذج (إخوة يوسف) ومواقف الغيرة والحسد والحقد والمؤامرة والمناورة ومواجهة آثار الجريمة.. والضعف والحيرة أمام هذه المواجهة.
ونموذج امرأة العزيز بكلّ غرائزها ورغباتها واندفاعاتها. ونموذج النسوة من الطبقة العلية في المجتمع، والأضواء التي يلقيها على البيئة ومنطقها كما يتجلّى في كلام النسوة عن امرأة العزيز وفتاها.
وتبرز الملامح البشرية واضحة صادقة بواقعية كاملة في هذا الحشد من الشخصيات والبيئات والمواقف والمشاهد.. وهذا الكمّ من الحركات والمشاعر)(14).
سيراً على هدي هذه الحقيقة واستناداً إلى ما تقدّم نكون قد أتممنا هذه الإشرافة المختصرة التي تكفّلت الوقوف على الغرض العام والهدف الأعلى لقصّة يوسف عليه السلام وهو بيان ولاية الله عزّ وجلّ لعبده وكيف يربّيه في سلوك صراط الحبّ والوصول به إلى أوج العزّة وكمال العشق.
__________________
(1) يوسف: 3.
(2) يوسف: 111.
(3) يوسف: 24.
(4) ينظر: الميزان في تفسير القرآن، مصدر سابق، ج11، ص75.
(5) الآلوسي، أبو الفضل محمود (ت1270هـ)، روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني، بيروت، دار إحياء التراث العربي، ج12، ص176.
(6) ينظر: الميزان في تفسير القرآن، مصدر سابق، ج11، ص76.
(7) يوسف: 6.
(8) يوسف: 21.
(9) يوسف: 20.
(10) يوسف: 21.
(11) الطلاق: 3.
(12) المجادلة: 21.
(13) الصافات: 171 ـ 173.
(14) ينظر: قصّة يوسف، إعداد محي الدين عبد الحميد، مؤسّسة الكتب الثقافية، 2002م، ص15.