من الحقائق الأساسية في فلسفة العلوم، أن شرف كل علم بشرف موضوعه، فإن العلوم وإن كانت من الزاوية المفهومية لا تفاضل بينها إلا أنها من الناحية الواقعية المحكية لهذه العلوم تتفاضل وتتفاوت.
وقبل الدخول في بيان أهمية معرفة النفس الإنسانية والآثار المترتبة عليها، لابد من الوقوف على بحث يعدّ المدخل الأساس لذلك، ألا وهو: هل يمكن معرفة النفس الإنسانية أم لا؟ هناك اتجاهان في هذا المجال:
الاتجاه الأول: هو الاتجاه الذي يرى استحالة الوقوف على معرفة الإنسان نفسه. ويستند أصحاب هذا الاتجاه إلى بعض الآيات والروايات؛ منها قوله تعالى: (وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً)1حيث فهم البعض من هذا الجواب أن الآية بصدد النهي عن التوغّل في فهم حقيقة الروح الإنسانية، لأن الإنسان قاصر عن إدراك هذه الحقيقة الربانية (وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي)2. جاء في بعض الكتابات المعاصرة: (وراح بعضهم يسأل الرسول عن الروح ما هو؟ والمنهج الذي سار عليه القرآن – وهو المنهج الأقوم – أن يجيب الناس عما هم في حاجة إليه، وما يستطيع إدراكهم البشري بلوغه ومعرفته، فلا يبدّد الطاقة العقلية التي وهبها الله لهم فيما لا ينتج ولا يثمر وفي غير مجالها الذي تملك وسائله وتحيط به، فلما سألوه عن الروح، أمره الله أن يجيبهم بأن الروح من أمر الله، اختص بعلمه دون سواه. وليس في هذا حجر على العقل البشري أن يعمل، ولكن فيه توجيهاً لهذا العقل أن يعمل في حدوده وفي مجاله الذي يدركه، فلا جدوى من الخبط في التيه، ومن إنفاق الطاقة فيما لا يملك العقل إدراكه لأنه لا يملك وسائل إدراكه. والروح غيب من غيب الله لا يدركه سواه، وسر من أسراره القدسية أودع هذا المخلوق البشري وبعض الخلائق التي لا نعلم حقيقتها).
ومنها: ما ورد في الغرر والدرر للآمدي عن علي أمير المؤمنين عليه السلام، قال: (من عرف نفسه عرف ربّه) حيث ذكر بعض العلماء أنه من تعليق المحال، أي كما أنه لا يمكن معرفة حقيقة الرب تعالى والوقوف على كنهه؛ (وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً)3. كذلك لا يمكن معرفة النفس الإنسانية، لأنه عُلّق على أمر محال.
الاتجاه الثاني: ذهب أصحاب هذا الاتجاه إلى إمكان معرفة النفس، واستندوا في ذلك إلى مجموعة من الآيات والروايات أيضاً، منها: نفس الآية التي استند إليها أصحاب الاتجاه الأول: )ويسألونك عن الروح… (حيث اعتبر أصحاب هذا الاتجاه أن الله تعالى أمر نبيّه صلّى الله عليه وآله أن يجيب على التساؤل بقوله: )قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا( أي أن الروح هو من سنخ عالم الأمر. ثم عرّف أمره تعالى في قوله (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ)4 فبيّن أن أمره هو قوله للشيء (كن) وهي كلمة الإيجاد التي هي الإيجاد لأن قوله فعله، والإيجاد هو وجود الشيء لكن لا من كل جهة بل من جهة استناده إليه تعالى وقيامه به.
ببيان آخر: إن الروح موجود أمري بمعنى أنه تعالى أوجده من دون توسط أسباب محكومة للزمان والمكان والجهة وشبهها، بخلاف بعض الموجودات التي هي موجودات خلقية حيث تستند إليه تعالى بتوسط الأسباب الكونية التي يكون لها دور في وجودها، فالممكنات ليست على وتيرة واحدة بل (إن بعض الممكنات مما لا يأبى مجرد ذاته أن يفيض من جود المبدأ الأعلى بلا شرط خارج عن ذاته وعما هو مقوّم ذاته، فلا محالة يفيض عن المبدأ الجواد بلا تراخ ومهلة ولا سبق عدم زماني واستعداد جسماني؛ لصلوح ذاته وتهيؤ طباعه للحصول والكون (وحيث إن الفاعل تامّ الفاعلية والقابل تام القابلية فلا تراخي ولا مهلة). وبعضها مما لا يكفي ذاته ومقوماته الذاتية في قبول الوجود من دون استعانة بأسباب اتفاقية وشروط غير ذاتية، ثم بعد إنضياف تلك الشروط والمعدّات إلى ما يقبل قوة وجوده يتهيأ لقبول الوجود)5. ثم بيّن أن أمره في كل شيء هو ملكوت ذلك الشيء، والملكوت أبلغ من الملك، فلكلّ شيء ملكوت كما أن له أمراً، قال تعالى(أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ)6 وفيها حثّ على النظر في الملكوت والتعرّف عليه، ولو لم يكن ذلك ممكناً لما صدر من الحكيم، تعالى عن ذلك. أما فيما يتعلّق بقوله عليه السلام : (من عرف نفسه عرف ربّه) والجواب عنه فنقول:
أولاً: هو مردود بقوله عليه السلام: (أعرفكم بنفسكم أعرفكم بربّكم).
ثانياً: إن الحديث في معنى عكس النقيض لقوله تعالى: (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ)7, ولقد استند أصحاب هذا الاتجاه لإثبات إمكان معرفة النفس بالإضافة إلى ما تقدم بجملة من الروايات الواردة في هذا المجال، نحاول الوقوف عند بعضها: قال علي عليه السلام: (العارف من عرف نفسه فأعتقها ونزّهها عن كل ما يبعدها). فهو عليه السلام في معرض الحثّ على معرفة النفس والإحسان إليها، ولولا إمكان ذلك لما صدر منه، فقد اعتبر العارف الحقيقي العارف بنفسه الملتزم بهدي معرفته. فالمعرفة الحقيقية تقتضي أثراً مسانخاً لها، كما أن العقل الحقيقي يقتضي ذلك؛ (العقل ما عُبد به الرحمان واكتسب به الجنان)8. فالأثر المسانخ للعقل هو عبادة الرحمن التي تؤدي إلى دخول الجنان، وما ليس له مثل هذا الأثر فليس بعاقل حقيقة.
وكذلك قال عليه السلام: (أعظم الجهل جهل الإنسان أمر نفسه). ولولا إمكان المعرفة لما كان لهذا الكلام معنىً ولما صدر من إمام الحكماء عليه السلام.
وروي عنه أيضاً: (عجبت لمن ينشد ضالّته وقد أضلّ نفسه فلا يطلبها)؛ فلا يستحق شيء أن يُطلب ويُتقصى مادام ما هو أشرف منه مضيَّعاً، فقد ذمّ عليه السلام المنشغلين بالأدنى عما هو خير، ولولا أن ذلك ممكن لما صحّ هذا الذمّ.
ولم تقتصر كلمات إمام الموحدين علي أمير المؤمنين عليه السلام على تأكيد معرفة النفس، بل تعدّتها لبيان أهمية هذه المعرفة الخطيرة وثمرتها اليانعة حيث قال: (أعظم الحكمة معرفة الإنسان نفسه). فإذا ضممنا هذا إلى قوله تعالى: (يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً)9 تبيّن أن من أوضح مصاديق الحكمة هي معرفة النفس، ومن عرفها فقد أوتي خيراً كثيراً.
(أكثر الناس معرفة لنفسه أخوفهم لربه). فإذا ضممناه إلى قول الله سبحانه: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ)10 اتضح أن من أهمّ المعارف وأنفعها معرفة النفس.
(نال الفوز الأكبر من ظفر بمعرفة النفس).
(من عرف نفسه جاهدها).
(من عرف نفسه كان لغيره أعرف).
ثم بيّن _ عليه السلام _ الآثار المترتبة على الجهل بالنفس فقال:
(أعظم الجهل جهل الإنسان نفسه).
(كفى بالمرء جهلاً أن يجهل نفسه).
(من جهل نفسه كان بغيره أجهل).
(من لم يعرف نفسه كان بغيره أجهل)11.
من هنا ذكر المحققون من علمائنا أن المعرفة الأنفسية أنفع من المعرفة الآفاقية، وهذان الاصطلاحان مأخوذان من قوله تعالى:(سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ)12 وقال: (وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ .وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ)13. ولعل هذا هو مراد إمام المتقين علي عليه السلام في قوله: (المعرفة بالنفس أنفع المعرفتين). توضيح ذلك: (أن طريقي النظر إلى الآفاق والأنفس وإن كانا نافعين جميعاً، غير أن النظر إلى آيات النفس أنفع، فإنه لا يخلو من العثور على ذات النفس وقواها وأدواتها الروحية والبدنية، وما يعرضها من الاعتدال في أمرها أو طغيانها أو خمودها، والملكات الفاضلة أو الرذيلة والأحوال الحسنة أو السيئة التي تقارنها.
واشتغال الإنسان بمعرفة هذه الأمور والإذعان بما يلزمها من أمن أو خطر، وسعادة أو شقاء، لا ينفكّ من أن يعرّفه الداء والدواء من موقف قريب، فيشتغل بإصلاح الفاسد منها والالتزام بصحيحها، بخلاف النظر في الآيات الآفاقية فإنه وإن دعا إلى إصلاح النفس وتطهيرها من سفاسف الأخلاق ورذائلها وتحليتها بالفضائل الروحية، لكنه ينادي لذلك من مكان بعيد.
هذا مضافاً إلى أن النظر في الآيات الآفاقية والمعرفة الحاصلة من ذلك نظر فكري وعلم حصولي، بخلاف النظر في النفس وقواها وأطوار وجودها والمعرفة المتجلّية منها، فإنه نظر شهودي وعلم حضوري. والتصديق الفكري يحتاج في تحقّقه إلى نظم الأقيسة واستعمال البرهان، وهو باق مادام الإنسان متوجّها إلى مقدّماته غير ذاهل عنها ولا مشتغل بغيرها، ولذلك يزول العلم بزوال الإشراف على دليله وتكثر فيه الشبهات ويثور فيه الاختلاف. وهذا بخلاف العلم النفساني بالنفس وقواها وأطوار وجودها فإنه من العيان، فإذا اشتغل الإنسان بالنظر إلى آيات نفسه وشاهد فقرها إلى ربها وحاجتها في جميع أطوار وجودها، وجد أمراً عجيباً، وجد نفسه متعلّقة بالعظمة والكبرياء متصلة في وجودها وحياتها وعلمها وقدرتها وسمعها وبصرها وإرادتها وحبّها، وسائر صفاتها وأفعالها بما لا يتناهى بهاءً وسناءً وجمالاً وجلالاً وكمالاً من الوجود والحياة والعلم والقدرة وغيرها من كل كمال. وعند ذلك تنصرف عن كل شيء وتتوجّه إلى ربها وتنسى كل شيء وتذكر ربّها، فلا يحجبه عنها حاجب، ولا تستتر عنه بستر، وهو حق المعرفة الذي قُدّر لإنسان.
وهذه المعرفة الأحرى بها أن تسمى بمعرفة الله بالله (من دلّ على ذاته بذاته) وأما المعرفة الفكرية التي يفيدها النظر في الآيات الآفاقية، سواء حصلت من قياس أو حدس أو غير ذلك، فإنما هي معرفة بصورة ذهنية عن صورة ذهنية، وجلّ الإله أن يحيط به ذهن أو تساوي ذاته صورة مختلفة اختلقها خلق من خلقه )ولا يحيطون به علما)14 نعم، العقل والكشف قاصران عن فهم كنه النفس من حيث (إن حقيقة الوجود الصمدي مأخوذة في حقيقتها، وإلى هذا المعنى أشار الشيخ الأكبر محي الدين ابن عربي في قصيدة له:
ولست أدرك من شيء حقيقته وكيف أدركه وأنتمُ فيه
لأن هاهنا ثلاثة أمور:
الأمر الاول: معرفة النفس بالفكر النظري.
الأمر الثاني: ومعرفتها الشهودية الذوقية على قدر جدولها الوجودي.
الأمر الثالث: ومعرفتها بالكنه بمعنى الإحاطة بالوجود الصمدي.
والأول سهل، والثاني صعب، والثالث محال في معرفة أي شيء كان)15.
من هنا جاءت كلمات الأعلام في التأكيد والحثّ على معرفة النفس وأنها الطريق الموصل إلى معرفة المبدأ والمعاد. قال صدر المتألهين: (مفتاح العلوم بيوم القيامة ومعاد الخلائق هو معرفة النفس ومراتبها). وقال أيضاً: (علم النفس هو أمّ الحكمة وأصل الفضائل، وهي أمّ الصناعة ومعرفتها أشرف المباحث بعد إثبات المبدأ الأعلى ووحدانيته، والجاهل بمعرفتها لا يستحق أن يقع عليه اسم الحكمة وإن أتقن سائر العلوم، فالعلم المشتمل على معرفتها أفضل من غيره)16. وقال المعلم الأول: (كل معرفة فهي في نظرنا شيء حسن، ومع ذلك فنحن نؤثر معرفة على أخرى. إما لدقّتها وإما لأنها تبحث عما هو أشرف وأكرم، ولهذين السببين كان من الجدير أن نرفع دراسة النفس إلى المرتبة الأولى، ويبدو أن معرفة النفس تُعين على معرفة الحقيقة الكاملة)17.
لكن كلام الغزالي كان أكثر تفصيلاً وتوضيحاً: (تقرير النفس وهل هي باقية أم لا كالقطب لسائر العلوم، وله يجدّ المجتهدون ويعمل العاملون، ولا فائدة أعظم منه، فإن نبوة الأنبياء والثواب والعقاب والجنّة والنار وسائر شؤون الدنيا والآخرة المأخوذة عن الرسل لا تثبت متى أبطلت هذه المسألة، فان النفس إذا لم يكن لها بقاء فجميع ما أخبرنا به أو طمعنا فيه باطل…)18.
وقال حسن زاده آملي: (فمبحث النفس من غرر المباحث الحكمية في جميع الصحف العلمية. وألذّ المعارف وأعزّها بعد معرفةِ الله تعالى شأنه، معرفةُ الإنسان نفسه، وهي من أهمّ المعارف وأجلّها، كيف لا ومعرفتها أمّ الحكمة وأصلها، ومفتاح خزائن الملكوت، ومرقاة معرفة الرب، لكونها مثال مفطرها ذاتاً وصفة وفعلاً، ولا طريق إلى حصول معرفة الرب إلا من معرفة الآفاق والأنفس. والمروي عن الوصي الإمام أمير المؤمنين علي عليه السلام وعن الإمام الصادق عليه السلام أيضاً: (الصورة الإنسانية هي أكبر حجج الله على خلقه، وهي الكتاب الذي كتبه بيده، وهي الهيكل الذي بناه بحكمته، وهي مجموع صور العالمين، وهي المختصرة من اللوح المحفوظ وهي الشاهدة على كل غائب، وهي الحجة على كل جاحد، وهي الطريق المستقيم إلى كل خير، وهي الجسر الممدود بين الجنة والنار)19.
_________________
(1) الإسراء: 85.
(2) الحجر: 29.
(3) طه: 110.
(4) يس: 84.
(5) الحكمة المتعالية في الأسفار العقلية الأربعة، الحكيم الإلهي والفيلسوف الرباني صدر الدين محمد الشيرازي: ج 1 ، ص 230 ، دار إحياء التراث العربي، بيروت – لبنان.
(6) الأعراف: 185.
(7) الحشر: 19.
(8) الأصول من الكافي، لثقة الإسلام أبي جعفر محمد بن يعقوب بن إسحاق الكليني الرازي، ج 1 ، ص 11 ، كتاب العقل والجهل، الحديث: 3 .
(9) البقرة: 269.
(10) فاطر: 28.
(11) يمكن مراجعة هذه الكلمات في غرر الحكم ودرر الكلم للآمدي
(12) حم السجدة: 53.
(13) الذاريات: 20 – 21.
(14) الميزان في تفسير القرآن، للعلامة السيد محمد حسين الطباطبائي، ج 6 ، ص 171 منشورات مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، بيروت – لبنان.
(15) عيون مسائل النفس وسرح العيون في شرح العيون، ص 817، تأليف: آية الله حسن حسن زاده آملي، مؤسسة انتشارات أميركبير . طهران – عين رقم: 66 .
(16) شرح الهداية الاثيرية، لصدر المتألهين الشيرازي: ص 7 ، الطبعة الحجرية.
(17) أول كتاب النفس بنقل الدكتور فؤاد الأهواني إلى العربية، نقلاً عن مسائل عيون النفس (ناقص).
(18) من شرح قصيدة ابن سينا للمناوي: ص 84 ، طبع مصر
(19) عيون مسائل النفس: ص 37 ، حسن حسن زاده آملي.