الأخبار

المحاضرة (41)

أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين والصلاة والسلام على محمد وأهل بيته الطيبين الطاهرين.

أنا بعض الأحيان عندما أضطر إلى تكرار بعض الأبحاث أو بيان بعض الأبحاث مرة أخرى يعود السبب لأسئلة، يعني أن بعض الأسئلة التي تطرح بعد البحث يتضح لي من خلالها أن المطلب لم يتضح كما ينبغي.

من المسائل التي عرضنا لها في الدروس السابقة من قبيل الوجوب، من قبيل الحرمة، من قبيل الأمر، من قبيل النهي، من قبيل الأحكام التكليفية، من قبيل الأحكام الوضعية كالرئاسة والمرؤوسية والجزئية والشرطية هذه كلها أحكام وضعية، أن أي اعتبار من الاعتبارات التي أشرنا إليها سواء كانت اعتبارات ما قبل تحقق الاجتماع والمجتمع او اعتبارات ما بعد تحقق المجتمع أن أي اعتبار من الاعتبارات هذه إنما هي ناشئة من أمور حقيقية وإدراكات حقيقية ويعتبر الإنسان هذه الاعتبارات لكي يحقق من خلالها أيضاً أموراً حقيقية، إذن وضع هذا الاعتبار ليس جزافي وليس لغوي. نعم، إذا كان الواضع غير حكيم قد يصدر منه الجزاف واللغوية، ولكن الكلام في المشرع وفي المقنن وفي الإنسان الحكيم، هذا عندما يصدر منه يجب قد يشتبه ولكنه إنما اعتبر الوجوب لغرض ولفائدة ولغاية، ثم لماذا قال هذا واجب ولم يقل ذاك واجب، لأن هذا ناشئ عن حقيقة والذي لم يقل فيه بالوجوب لم ينشئ عن حقيقة.

إذن هذه الاعتبارات الموجودة عندنا أعم من أن يكون الواضع لها هو الوحي أو الواضع لها هو الإنسان، يعني كان المقنن والمشرع وحياني أو كان بشري، كان إلهي أو كان بشري، الآن كل هذه القوانين التي تعتبر في المجتمعات التي لا تؤمن بالوحي لماذا توضع هذه القوانين؟ توضع هذه القوانين وهذه التشريعات ناشئة من حقائق ولإيصال المجتمع إلى كماله وإلى سعادته. يعني لماذا توضع قوانين المرور؟ لأن سعادة الإنسان بهذا القانون، سعادة الإنسان بهذا النظم. لماذا يعتبرون هذا حسن وهذا قبيح. هذا ينبغي وهذا لا ينبغي. هذه كل الانبغاءات وعدم الانبغاءات أولاً ناشئة من حقائق ولأجل الوصول إلى كمال الإنسان.

إذن لا يأتي أحد ويقول أن السيد الطباطبائي أساساً لم يبقِ من الشريعة شيئاً، صارت كلها ماذا … والاعتبارات سهلة المؤونة. لا، ليس الأمر كذل، لا يحق لأحد أن يعتبر ما يشاء، وإذا اعتبر ما شاء يعبر عنه اعتبار جزافي، يعبر عنه اعتبار لغوي، ولذا أنتم تجدون إذا المقنن اليوم اعتبر اعتباراً ومن غير أن تتغير الظروف جاء في الغد وبدل اعتباره تقول عنه بأنه سفيه. ولكن التفتوا جيداً، لو فرضنا أن بين الاعتبار الأول والاعتبار الثاني تضاد أو بين الاعتبار الأول والاعتبار الثاني تناقض، عندما اعتبر الاول هل يمكنه أن يعتبر الثاني المضاد أو لا يمكن، لو كان سفيهاً يمكن أو لا يمكن؟ ولو كان تضاداً واقعياً لما أمكنه. السفيه هل يستطيع أن يجعل المتضادين في هذا الكتاب، يعني يجعله أبيض ويجعله أسود أيضاً، يمكن أو لا يمكن؟ وهذا معنى أن المتضادين يستحيل اجتماعهما. أما المتضادين في الامور الاعتبارية يستحيل اجتماعهما؟ لا، أساساً يوجدان في الخارج بدليل وخير دليل على الإمكان وقوعه وقد صدر من كثير من الحكام تشريعات متضادة، صدر منهم أو لم يصدر؟ صدر منهم، من الحكام الظلمة صدرت منهم تشريعات متضادة أو لم تصدر، عشرات التشريعات المتضادة صدرت منهم وبعد ذلك التفتوا إلى كونها متضادة. ومتناقضة. هذا يكشف عن أن التضاد في الاعتبار ممكن بل واقع بخلاف التضاد في التكوين فهو غير ممكن أصلاً.

إذن فلا يمكن أن نجري قواعد الحقائق في الاعتباريات. هذه مسألة.

المسألة الثانية: أن هذه الاعتبارات التي يعتبرها المعتبر المقنن المشرع، أن هذه الاعتبارات بعضها ناشئة من حقائق ثابتة لا تتبدل ولا تتغير وبعضها ليست ثابتة، ومن هنا الاعتبارات تنقسم إلى اعتبارات ثابتة وإلى اعتبارات متغيرة. هذا البحث في (الميزان، ج8، ص54) مفصلاً. يقول: (وهذه المعاني الاعتبارية وإن كانت من عمل الذهن) ينبغي ولا ينبغي نحن في الواقع الخارجي لا يوجد عندنا، ما يوجد عندنا في الواقع الخارجي هذا جميل وهذا قبيح، أما الجميل ينبغي أن يستحصل، هذا ينبغي هو الاعتبار، هذه صلاة وهذه سرقة، أما الصلاة ينبغي الاتيان بها، يعني يجب، والسرقة لا ينبغي الإتيان بها يعني يحرم، هذا اعتبار. قال: (من عمل الذهن من غير أن تكون مأخوذة من الخارج فتعتمد عليه بالانطباق إلا أنها معتمدة على الخارج من جهة أخرى وذلك) هذه الاعتبارات لأي غرض يعتبرها الإنسان (وذلك أن نقص الإنسان وحاجته إلى كماله الوجودي ونيله غاية النوع الإنسان هو الذي اضطره إلى اعتبار هذه المعاني). هذا وجه الحاجة إلى الاعتبار. هذا الذي قلنا أن الإنسان لا يستطيع أن يعيش بلا اعتبار وأنه محال، لأنه يريد أن يصل إلى كماله وكماله إنما يتحقق بهذه الامور الاعتبارية. (فإبقاء الوجود والمقاصد الحقيقية المادية أو الروحية التي يقصدها الإنسان ويبتغيها توجب عليه أن يعتبر هذه المعاني ثم يبني عليه أعماله فيحرز بها لنفسه ما يريده من السعادة والكمال).

وعلى هذا جرت كل المجتمعات، المجتمع الإنسان هو هكذا. نعم، الاختلاف في المجتمعات الإنسانية أين تشخص كمالها؟ البعض يشخص كماله في هذه الدنيا فيعتبر قوانين لأجل كماله الدنيوي، والشرائع الإلهية تعتقد أن كمال الإنسان في الآخرة فتضع له اعتبارات لتؤمن له كماله الاخروي وسعادته الاخروية، طبعاً بما لا يتنافى مع السعادة الدنيوية كما هو محقق في محله.

(ولذلك تختلف هذه الأحكام) يعني الاعتبارات، (بحسب اختلاف المقاصد الاجتماعية فهناك أعمال وأمور كثيرة تستحسنها المجتمعات القطبية وهي بعينا مستقبحة في المجتمعات الاستوائية) فهذه الاعتبارات ثابتة أم متغيرة؟ متغيرة تختلف من زمان إلى زمان ومن مجتمع إلى آخر ومن جماعة إلى أخرى ومن نظام إلى آخر. هذه نعبر عنها بالاعتبارات المتغيرة. (نعم، هناك أمور اعتبارية وأحكام وضعية) يعني موضوعة، لا وضعية في قبال التكليفية، بل بمعنى أنها موضوعة من قبل الإنسان (لا تختلف فيها المجتمعات من قبيل إقامة العدل في المجتمعات) هل يوجد مجتمع في العالم يقول لا أريد العدل، ولو على مستوى الشعارات. يوجد مجتمع في العالم يقول لا اريد النظم والقانون في المجتمع ولو على مستوى الشعار؟! لأن هذه اعتبارات ثابتة لا يمكن أن تتغير، يوجد مجتمع بل فرد بل إنسان يقول أنا أقول أن العدل قبيح، هل يوجد! نعم، قد نختلف أنا وأنت في المصاديق بأن هذا عدل أو ليس بعدل. وهذا قد يمكن. لا أنه ممكن فقط في البشر وفي الأحكام البشرية والوضعية بل حتى في القواعد الإلهية المجتهدون يختلفون هذا يرى أن فلان قضية عدل وآخر يراه ليس بعدل، لا مشكلة فيه، هذا اختلاف في المصداق.

لذا يقول: (وهي المعاني التي تعتمد على مقاصد حقيقية عامة لا تختلف فيها المجتمعات من قبيل إقامة المجتمع) من قال للإنسان يجب عليك أن تعيش في مجتمع؟ من حقك أن تعيش في قرية نائية على انفراد، الشارع يمنعك من هذا؟ يقول لك لابد أن تعيش في مجتمع؟! لا. ولكن الإنسان عرف بفطرته أنه كماله هل يمكن أن يتحقق بالاجتماع أو لا يتحقق؟ الكثير من احتياجاته هل يستطيع أن يوفرها بنفسه؟ لا يستطيع. إذن يحتاج إلى الاجتماع لتهيئة احتياجاته للوصول إلى كماله الفردي.

إذن الأصل هو الاجتماع أو الفرد؟ الأصل الفرد وليس الاجتماع، حتى عندما تجتمع مع الآخرين لأجل فردك، وحتى عندما تتنازل عن مصالحك الفردية أيضاً لأجل ذاتك، ماذا ترى؟ ترى أن الله سبحانه وتعالى يقول إذا تنازلت عن مصلحتك الفردية هنا أنا أهيأ لك من أسباب الكمال ما لا يمكن أن يتهيأ بتحقيق هذه المصالحة، فماذا تفعل؟ تتنازل عن مصالحك الفردية لأجل مصالح فردية أعلى. أساساً لا يتحقق الإنسان إلا لأجل الفرد. هذا محال عقلاً إلا إذا كان المتحرك مجنون، وإلا العاقل لا يتحرك إلا لأجل ماذا؟ الآن لا أريد أن أدخل في التوحيد الله عندما يتحرك يتحرك لأجل غيره أم لأجل ذاته، ذاك بحث آخر في محله. ذاك بحث علمي في العلل الغائية وأن الله لماذا خلق، الآن حتى عندما تحب ابنك وتعطي لابنك وتفدي ابنك تفدي ابنك لأجل نفسك. هذا غير متصور، كل شيء لأجل نفسك. أنت عندما ترى ابنك مريض ماذا تفعل؟ تسعى به وتركض به إلى الطبيب، هذا ليس لأجل ابنك، بل لأجل الألم الذي يصيبك تريد أن ترفع هذا الألم، بدليل أن ابن جارك إذا تمرض تنام في البيت، إذا كان لأجل البيت فهذا أيضاً مسكين وحيد يتيم فلماذا لا تسرع به إلى الطبيب، لماذا، ما الفرق بينهما؟ ولعل ذاك أحوج من ابنك بعشرات الأضعاف ولكنه لا يحركك. من الذي يحركك؟ عندما ترى أن هذا الشتاء البارد وتحت البرد يرجف وتأتي له ببطانية هذا ليس لأجله، بل لأجل ألم أصابك وتريد أن ترفع الألم عن نفسك، بدليل أنه إذا لم يتحقق فيك عاطفة الألم لا تتحرك. إذا لم تتألم، كما في بعض المجتمعات يتربى بأنه عندما يجد إنسان يموت من شدة البرد لا يتأثر، بل يقول أن هذا هو قانون الطبيعة أن الأضعف لابد أن يموت لأجل الأصلح والأقوى، ولا يتحرك أبدا، أصلاً يرمي بملايين القمح في البحار حتى ترتفع أسعارها، مع أنه يعلم أن الملايين في افريقيا واسيا يموتون جوعاً. إذن الإسلام عندما يأتي لا يريد أن يقضي على الفردية، بل يريد أن يضع الموازين والقواعد.

قال: (وهي المعاني التي تعتمد على مقاصد حقيقية عامة لا تختلف فيها المجتمعات كوجوب الاجتماع نفسه وحسن العدل وقبح الظلم فقد تحصل …).

إذن أعزائي الاعتبارات أمور ناشئة من الحقيقة لأجل تحقيق نوع من الكمال والحقيقة ولولا هذه الاعتبارات، ولولا هذا الينبغي واللا ينبغي لا يصل الإنسان إلى كماله، ولذا أولئك الذين يقولون نحن نريد أن نعيش بلا شريعة لا يفهمون معنى الشريعة. طبعاً لا أقصد الشريعة الإلهية، أصلاً لا يمكن للإنسان أن يعيش بلا ينبغي ولا ينبغي، لا يمكنه ذلك.

سؤال آخر: ما هي العلاقة بين الإدراكات الحقيقية والإدراكات الاعتبارية في عملية الاستنتاج؟

يتذكر الأعزاء أننا قلنا أن الإدراكات الحقيقية تحكمها مجموعة من القواعد، هذه القواعد أشرنا إليها في الدرس السادس من هذه الأبحاث، الأعزاء الذين يريدوا المراجعة في الدرس السادس من هذه الأبحاث في مقدمات علم الأصول قلنا أن نسبة المحمول إلى الموضوع يمكن تقسيمها إلى قسمين أساسيين:

القسم الأول: أن يكون الموضوع بنفسه بقطع النظر عن كل شيء آخر علة لحمل المحمول عليه. وبينّا وقلنا أن هذا النوع من المحمولات والموضوعات وهي الإدراكات الحقيقية تتميز بالأمور التالية:

أولاً: أن المحمول ذاتي بالنسبة إلى الموضوع.

ثانياً: أن المحمول دائمي بالنسبة إلى الموضوع.

ثالثاً: أن المحمول ضروري بالنسبة للموضوع وينتج اليقين بالمعنى الأخص.

هذا نوع.

وهذه هي الإدراكات الحقيقية، أما ما هي الإدراكات الاعتبارية؟

الإدراكات الاعتبارية قلنا في الدرس السادس أن لها صنفان، يعني أن الإدراكات الاعتبارية غير الحقيقة التي لا تكون النسبة بين الموضوع والمحمول كالنسبة القائمة في القسم الأول، وهي على صنفين:

الصنف الأول: أن المحمول إنما يثبت للموضوع بسبب مصالح. يعني لماذا أن الشارع قال الصلاة واجبة إذا بلغ الإنسان والصوم واجب، لماذا؟ لمصالح مرتبطة بكمال الإنسان. لماذا قال أن شرب الخمر حرام؟ لمصالح، بناء على مباني العدلية المصالح والمفاسد. هذا نوع من المحمولات التي هي ناشئة من حقيقة. نوع آخر من المحمولات استحسانات عبر عنها ذوقيات عبر عنها من قبيل أن الفاعل مرفوع، لماذا؟ وأن خبر أن مرفوع، لماذا لا يكون منصوباً، مجموعة من الذوقيات والاعتباريات، وهذا ما سنقف عنده إن شاء الله تعالى بعد ذلك في مسألة الوضع، لماذا هذا اللفظ لهذا المعنى في نظرية الوضع.

مرة نقول لمناسبة ذاتية، كما احتمله المرزا، وهذه النظرية غير مقبولة عند الأعلام، ومرة وضع الواضع وضع هذا اللفظ لهذا المعنى، كما أنت الآن تختار اسم لابنك فكل اب يختار لابنه أو بنته اسماً، هل يأخذ بعين الاعتبار حقائق تكوينية ومصالح ومفاسد أم لا؟! إما أن يحب اسمه وإما أن يكون أقرب إلى قلبه وإما أن يكون اسم والده أو اسم عزيز عليه، لاعتبارات من هذا القبيل، وإلا لا توجد أي ارتباطات بين هذا المسمى وبين الاسم، ولذا قد يسمي بحسب نظر الناس أقبح الناس هو يسميه جميل. ممكن. قد يسمي أبخل الناس يسميه كريم وجواد، لا مشكلة في ذلك. هذا هو القسم الثاني.

إذن الإدراكات الحقيقة لها مجموعة من الضوابط، في قبال الإدراكات الاعتبارية.

سؤال: هل يمكن الاستناد إلى مقدمات حقيقية، يعني من القسم الأول، لإثبات أو نفي أمور وأدراكات اعتبارية أو لا يمكن؟ أتصور أن الجواب صار واضحاً مما تقدم، يستحيل أن تستند إلى قضية مرتبطة بالإدراكات الحقيقية لاستنتاج قضية مرتبطة بالإدراكات الاعتبارية، لماذا؟ لأنه لا ملازمة بين هذين النحوين من القضايا، وأنتم تريدوا في عملية الاستدلال الانتقال من ملازم إلى ملازم للوصول إلى النتيجة، ولا ملازمة بين الإدراكات الحقيقة وبين الإدراكات الاعتبارية. الشيخ المطهري رحمة الله تعالى في (أصول الفلسفة، ترجمة السيد عمار أبو رغيف، ص530) قال: (وعلى هذا الأساس لا يمكننا عبر دليل مؤلف من قضايا حقيقية) يعني برهان (أن نثبت قضية اعتبارية) يعني قضية مرتبطة بعلم النحو، بعلم اللغة، بعلم الصرف، بعلم البلاغة، بعلم الفقه، بعلم الأصول، لا يمكن الاستناد إلى قواعد مرتبطة بعلم الفلسفة والرياضيات، لماذا؟ لعدم وجود الملازمة بين هذا السنخ من القضايا وهذا السنخ من القضايا، ولذا نحن في محله قلنا أنه لا يمكن الاستناد إلى قضايا فلسفية لإثبات أو نفي قضايا طبيعية، لماذا؟ لأن القضايا المستعملة في الطبيعيات يعني في الفلك والفيزياء والكيمياء وفي الجيولوجيا هذه قضايا مرتبطة بالتجربة وتلك قضايا مرتبطة بالفلسفة فلا يمكن الاستناد إلى هذه القضايا لإثبات أو نفي تلك القضايا. كرة القمر يقتطع منها أو لا يمكن، يعني تستطيع أن تقتطع منها جزءً وتأتي به إلى الأرض؟ نعم، ذهبوا إلى القمر وجاء بقطع من القمر. والفلاسفة القدامى يقولون باستحالة أن تأخذ قطعة من القمر، تقول له بأي دليل، يقول: هذه براهيني الفلسفية. وهذا قد يكون من مواضع الخلط. لا يتبادر إلى الذهن أن هذا الخلط فقط في الفقه والأصول والنحو بل في الفلسفة كان قبلها لأنهم كانوا يعدون العلوم الطبيعية جزءً من الأبحاث الفلسفية.

يقول: (لا يمكننا عبر دليل مؤلف من قضايا حقيقية) برهان (أن نثبت قضية اعتبارية) والعكس صحيح (كما لا يمكننا أن نثبت بدليل مؤلف من قضايا اعتبارية حقيقة من الحقائق ولا يمكننا أيضاً أن نؤلف برهاناً من قضايا اعتبارية ونستنتج أمراً اعتبارياً آخر) لا يمكن أبداً، إذ لا تلازم.

النتائج المترتبة على هذا الخلط، يعني إذا أنت استعملت القواعد الفلسفية أو المرتبطة بالإدراكات الحقيقية في مجال الإدراكات الاعتبارية وبالعكس:

الشيخ المطهري في (أصول الفلسفة، ص532) يقول: (من هنا تتضح الخطورة البالغة للخلط بين الاعتباريات والحقائق) لا تخلط أحد هذين العلمين بالآخر و(ويتضح أيضاً أن الأدلة التي ترتكب هذا الخلط تفتقر إلى القيمة المنطقية والمعرفة) فلا قيمة لهذه الادلة (سواء ارتكن الباحث لإثبات الحقائق إلى الأمور الاعتبارية أو ارتكن الباحث لإثبات الاعتبار إلى الأمور الحقيقية) تريد أن تثبت حقيقة من الحقائق تستدل باعتبار من الاعتبارات، مثاله. يقول: (كما هو الحال في أغلب أدلة المتكلمين) الآن إشكالية الاتجاه الفلسفي على الاتجاه الكلامي يقولون له أنت تستند إلى أدلة من الاعتبارات ومن الاعتباريات لإثبات مجموعة من الحقائق، هل هناك ملازمة أو ليس هناك ملازمة، قد نختلف أنا وأنت في المصاديق ولكن لا يحق لك أن تستند إلى أمر اعتباري لإثبات أمر حقيقي. وهذا خلط واضح في كلمات المتكلمين.من هنا تأتي أهمية نظرية المعرفة ودراسة المنطق.

يقول: (كما هو الحال في أغلب أدلة المتكلمين الذين استخدموا بشكل عام قاعدة الحسن والقبح وسائر المفاهيم الاعتبارية التي من هذا القبيل مبتغين من وراء ذلك الإفادة في أبحاث المبدأ والمعاد). بالأمس أنا أشرت قلت أن الحسن والقبح عند هؤلاء من الاعتباريات، إذن إثبات المعاد والمعاد من الحقائق، لا يمكن الاستناد إلى أدلة اعتبارية لإثبات حقائق وجودية.

(وكما هو الحال في كثير من أدلة الماديين الذين حسبوا أن أحكام الأمور الاعتبارية وسماتها صادقة في الأمور الحقيقية أم ) المورد الثاني (أم ارتكن الباحث لإثبات الأمور الاعتبارية) كما في الفقه والأصول أو النحو والصرف ونحو ذلك (إلى القواعد والأصول الخاصة بالأمور الحقيقية نظير معظم الأدلة التي تستخدم عادة في أبحاث علم أصول الفقه).

إذن الآن من هنا بسم الله الرحمن الرحيم أول السطر، في النتيجة أنت أول مسألة عليك بحثها في علم أصول الفقه أن تقول لي أن المحمولات في المسائل الأصولية اعتبارية أم حقيقية، وبحمد الله تعالى أحد الأعلام المعاصرين وهو السيد السيستاني اعترف بأنها كلها اعتبارية.

ولكنه كما قلت بالأمس وقبل ذلك قلت مع الأسف الشديد أن السيد السيستاني عندما دخل إلى مسائل علم الأصول تعامل معها تعامل الحقائق وأجرى فيها نفس المنهج والقواعد التي تجرى في الحقائق. اللهم إلا أن يقال (دفاعاً) والإنصاف لابد أن يقال، أن السيد السيستاني صحيح أنه معتقد أن علم الأصول علم اعتباري ولكنه يعتقد أن قواعد الحقائق تجري أيضاً في الاعتبار، جيد، فليثبت هذا ويدخل في علم الأصول. وإلا تبقى هذه نقطة فارغة وغائمة وناقصة لابد أن تُتمم.

إذا كانت اعتباريات فلا يمكن إجراء قواعد العلوم الحقيقية فيها، من هنا يطرح تساؤل وهو: ما هو المنهج والقاعدة الأساسية المتبعة في الاعتباريات؟ قلتم أنه دور وتسلسل والعلة والمعلول وشرط ومشروط وكل وجزء وعرض وموضوع، تجري أو لا تجري؟ قلتم لا تجري. سيدنا قولوا لنا إذن أي قاعدة تجري في العلوم الاعتبارية؟

الجواب سهل كثير عند القائلين بهذه النظرية، يقولون هناك قاعدة واحدة تجري في الإدراكات الاعتبارية والأمور الاعتبارية وهي قاعدة اللغوية، إذا لزم من الاعتبار لغوية فهذا الاعتبار غير تام، أما إذا لم يلزم منه اللغوية بل يحقق فائدة وغرض ونتيجة جيدة لتحقيق كمال الإنسان فالاعتبار صحيح.

في (ص533 من أصول الفلسفة) قال: (العلاقة بين محمول القضية وموضوعها في الأمور الاعتبارية اعتبارية دائمة) يعني لا تجري فيها أحكام الذاتية والضرورية والكلية ونحو ذلك (والفرض والاعتبار هنا) يعني في الأمور الاعتبارية والاعتباريات (والفرض والاعتبار هنا له غاية واحدة أداة للوصول إلى هدف ومصلحة وغاية). لأننا قلنا أن الإنسان يريد من خلال هذه الاعتبارات أن يصل إلى كماله، (والفرض الأفضل للوصول إلى الهدف والمصلحة هو المعتبر) هو الذي لابد أن يعتبر، إذا كان عندنا هذا وهذا أيهما نعتبر؟ هذا؟ يقول: انظر أيهما أفضل إيصالاً إلى الغاية والهدف. (والمقياس العقلي الوحيد) لا مقياس غيره (الذي يستخدم في الاعتبارات هو لغوية وعدم لغوية الاعتبار). هذا هو المقياس الوحيد. هذا تابع للمعتبر، إذا كان المعتبر حكيماً تأتي اللغوية وعدم اللغوية، إذا كان سفيهاً لا … ولذا نحن عندما نأتي في الجمع بين الحكم الظاهري والواقعي واحدة من أهم أدلتنا لاستحالة جعل حكم ظاهري مخالف للحكم الواقعي نقول لزوم اللغوية، وهذا أهم الأدلة ولا نحتاج إلى دليل آخر. لأن المولى أنتم تقولون أنه وجد المصلحة في الصلاة فاعتبر وجوب الصلاة، كيف يعقل في مورد وجوب الصلاة يجعل اعتباراً آخر لا يريد مني الصلاة. كيف يصدر من الحكيم اعتباران يلغي أحدهما الآخر.

الجواب هناك قال: لا محذور فيه، إذا كان المشرع سفيهاً. لا محذور فيه. متى يكون فيه المحذور؟ إذا كان المشرع واللغو من الحكيم غير معقول، لا من غير الحكيم، ولذا إذا صدر من إنسان سفيه أو من طفل صغير بعض الأفعال اللغوية أنت لا تحاسبه عليه، لماذا؟ تقول أساساً هذا ليس مورد للمحاسبة بل يكون مورداً للمحاسبة إذا كان ملتفتاً إلى أن هذا الفعل فعل سفهي.

ولذا تجد القرآن الكريم في جملة من الأحيان يقول (وما كان عابثين) يستدل بقانون العبثية، ذاك بحث في المعاد لا أريد الدخول فيه.

قال: (والمقياس العقلي الوحيد الذي يستخدم في الاعتبارات هو لغوية وعدم لغوية الاعتبار على أن خصوصية المعتبر ينبغي أخذها بنظر الاعتبار …).

إذن القاعدة الأصلية في كل جعل صادر من المشرع الحكيم أعم من أن يكون مشرعاً وحيانياً إلهياً أو أن يكون بشرياً، إذا لزم من تشريعه اللغوية فهو تشريع باطل، وإذا لم يلزم منه اللغوية فهو تشريع صحيح.

إذن متى نقول هذا باطل في التشريعات وفي الاعتبارات؟ لا أن نقول لأنه يلزم منه دور والدور باطل، يلزم منه التسلسل والتسلسل باطل، يلزم منه تقدم المشروط على الشرط وتقدم المشروط على الشرط محال، يلزم تقدم المعلول على علته … هذا كله في الاعتبارات لا يصح أن نقول يلزم. نعم، نستطيع أن نقول شيئاً واحداً من جعل هذا الاعتبار يلزم اللغوية واللغوية باطلة، ممتنعة، لا يمكن أن تصدر من الحكيم.

فإذا لزم من تشريع لغوية نستطيع أن ننفي ونستطيع أن نثبت، لا أنه إذا لزم من اعتبار دور وتسلسل ونحو ذلك.

الممتنع الوقوعي لا الممتنع الذاتي، لأن الحكيم لا يصدر منه لا أنه يستحيل لا يمكن أن يصدر، الحق سبحانه وتعالى الأمور السفهية يستطيع أن يفعلها ولكن لا يفعلها.

لا أنه لا يستطيع أن يفعل بل يستطيع أن يفعل ولذا عبروا عنها بالامتناع الوقوعي لا الامتناع الذاتي، بخلاف الحقائق الذاتية فإن القواعد الجارية فيها هو الامتناع الذاتي، الدور ممتنع ذاتاً، التسلسل ممتنع ذاتاً، تقدم المشروط على الشرط متقدم ذاتاً، أما هنا ممتنع ذاتاً أو وقوعاً؟ ممتنع وقوعاً.

هذا تمام الكلام … إلى هنا اتضح لنا أن التقسيم الذي ذكره السيد السيستاني في الرافد، وهو التقسيم الثاني القائم على الاعتبار مبتلى بنقصين أساسيين:

النقص الأول: وهو أنه من أين تثبت أن الأحكام الشرعية أمور اعتبارية. لعل قائل يقول أنها أمور حقيقية.

النقص الثاني: وهو أنك لم تبين لنا المنهج المتبع في الأمور الاعتبارية، وأنه هل هو نفس المتبع في الأمور الحقيقية أو أنه يختلف عنه.

هذا تمام الكلام في المناهج المقترحة لتنظيم مسائل علم الأصول، وقد اتضح مما سبق أن أفضل تلك المناهج هو الذي ذكره السيد الشهيد في الاقتراح الأول الذي مشى عليه في الحلقات، ولكننا سوف لا نسير إلى تلك المنهجة وإنما سوف نسير إلى المنهجة المتعارفة التقليدية الموجودة في الكتب؛ لسبب واضح عند الأعزاء وهو أن الكتب الأصولية والمباحث والمصنفات وكل شيء منظم على هذا التنظيم، الآن لو أردنا الخروج عنه واقعاً كل هذا النظام الموجود في مباحث علم الاصول سوف تتغير مواقعها، لذا إن شاء الله بالقدر الممكن سندخل في يوم الغد في بحث الوضع على الطريقة المتعارفة.

والحمد لله رب العالمين.

  • جديد المرئيات