بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين
والصلاة والسلام على محمد واله الطيبين الطاهرين
اتضح مما سبق بأن ما ذكره سيدنا الأستاذ السيد الخوئي إشكالاً على المحقق النائيني من أنه يلزم أن يكون المعنى معنى اسمياً أو يلزم أن تكون العناوين الكلية لأنها حاكية عن مصاديقها، أتضح بأن هذا الإشكال فيه مشكلة عدم التمييز بين نوعين من الفناء، أن الفناء تارة يكون بنحو فناء العنوان في المعنون الخارجي والمصداق الخارجي وأخرى يكون بعنوان فناء مفهوم في مفهوم آخر. وما أشكل به السيد الخوئي إنما هو النحو الأول وما يريده صاحب الكفاية إنما هو النحو الثاني، فإذن الإشكال غير وارد. إلا أنه قد يقال بأن مراد السيد الخوئي ليس كما قرره سيدنا الشهيد الصدر، طبعاً ظاهر عبارة السيد الخوئي في أجود التقريرات هو هذا التقرير أو البيان الذي اشار إليه السيد الشهيد الصدر، عبارته في (أجود التقريرات، ج1، ص25) يقول: (كالعناوين الكلية المأخوذة في القضايا معرفات للموضوعات الواقعية) فمراده يعني الفناء فناء العنوان في المعنون وفي المصداق الخارجي. فإشكال سيدنا الشهيد يكون وارداً عليه، ولكن للسيد الخوئي بيان آخر في المحاضرات، هذا البيان لا يرد عليه إشكال السيد الشهيد بالنحو الذي اشرنا إليه بالأمس، ما هو بيانه في المحاضرات؟ في (المحاضرات، ج1، ص58) ماذا قال السيد الشهيد؟ قال: أن مقصود صاحب الكفاية ليس هو فناء المفهوم في المصداق بل فناء مفهوم في مفهوم آخر. السيد الخوئي إما ملتفتاً إلى الإشكال وإما مبدلاً للبيان وإما أساساً مقصوده هو أساساً هذا الذي يقوله في المقالات.
أقول: نعم، حتى لو قيل بهذا النحو الثاني من الفناء أيضاً يرد الإشكال على صاحب الكفاية، أنت ماذا قلتم؟ قلتم إذا كان فناء مفهوم في مفهوم آخر فهو المعنى الحرفي، الآن نحن نقول لكم هنا فناء مفهوم في مفهوم مع أنه معنى اسمي بناء على مبناكم يلزم أن يكون معنى حرفياً. كيف سيدنا؟ يقول انظروا إلى قوله تعالى: (كلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود). أليس كذلك.
سؤال: هل التبين مأخوذ في نفسه غاية للأكل والشرب أو التبين بلحاظ وقوع الفجر وعدم وقوع الفجر؟ أي منهما؟ لا إشكال ولا شبهة أن الأكل والشرب غايته تنتهي عند التبين أو عند طلوع الفجر؟ إذن هنا نجد أن الشارع جعل التبين مفهوماً فانياً ومرآة لتحصيل طلوع الفجر، إذن يلزم عليكم أن تقولوا أن التبين معنى حرفي.
أقرأ العبارة حتى تخرج عن الاستغراب، قال: (إن لازمها) لازم نظرية صاحب الكفاية (صيرورة جملة من الأسماء) يعني المعاني الأسمية (حروفاً لمكان ملاك الحرفية فيها ولحاظها آلة ومرآة) مثالها أين سيدنا؟ يقول: (كالتبين المأخوذ غاية لجواز الأكل والشرب في قوله تعالى (كلوا وأشربوا حتى يتبين) فأنه قد أخذ) يعني التبين (مرآة وطريقاً وآلة ومعرفاً) عبروا ما تشاءون (إلى طلوع الفجر من دون أن يكون له) أي للتبين (دخل في حرمة الأكل والشرب وعدمها، وبذلك يعلم أن كون الكلمة من الحروف لا يدور مدار لحاظه آلياً) لا يدور مدار أن يكون المراد غيره من خلاله، وإلا لو كان كذلك للزم أن يكون التبين معنى حرفياً والتالي باطل فالمقدم مثله.
(وبتعبير آخر: أن الملاك في كون المعنى حرفياً تارة وأسمياً أخرى هو اللحاظ الآلي والاستقلالي وكان المعنى بحد ذاته لا مستقلاً ولا غير مستقل، فكل ما كان النظر إليه آلياً فهو معنى حرفي) وهنا التبين نظر إليه بنحو الآلية فيلزم أن يكون التبين معنى حرفياً. ولا يمكن الالتزام بذلك.
هذا هو البيان الثاني، طبعاً هنا لا يرد إشكال السيد الشهيد، لأن إشكال السيد الشهيد قال أن الفناء إذا كان في المفهوم في المصداق نحو، أما مفهوم في مفهوم آخر فمقصود صاحب الكفاية، وهنا يقول مفهوم في مفهوم أخذ بنحو الفناء في مفهوم طلوع الفجر، إذن ينطبق عليه الضابط الذي ذكره السيد الشهيد وهو أن مقصود صاحب الكفاية أن ملاك المعنى الحرفي هو فناء مفهوم في مفهوم، وهنا يوجد عندنا فناء مفهوم التبين في مفهوم طلوع الفجر.
فهذا البيان وهذا الإشكال وارد بهذا البيان أو لا؟
الجواب: أيضاً غير وارد، وذلك … هذه قيمة الإشكال إن الإشكال يجعل المبنى إذا كان فيه ثغرات … الآن بالبيان الأول للسيد الخوئي اتضح ليس مطلق الفناء هو ملاك المعنى الحرفي وإنما نحو خاص من الفناء، هذا البيان الثاني سوف يبين لنا نحو أخص من الفناء.
أعزائي تارة أن الفناء يطلق … نتكلم في الفناء اللغوي والأصولي لا في الفناء العرفاني. تارة يطلق الفناء بلحاظ الدلالة التصورية اللغوية، ما معنى الفناء بلحاظ الدلالة التصورية؟ يعني الشيء إذا لوحظ في نفسه له معنى أو ليس له معنى، لغة بغض النظر عن المراد الجدي والدلالة التصديقية الجدية، أصلاً صدرت من اصطكاك حجرين، أو من اصطكاك الباب أو من نعاق الغراب، هذا الصوت … تارة يطلق الفناء اللغوي بلحاظ الدلالة التصورية اللغوية، بمعنى أن الشيء في نفسه لو نظرت إليه لو سمعته له معنى … يتبادر ذهنك إلى معنى أو لا يتبادر؟ لا يتبادر.
أضرب لكم مثالاً وإن كان بعيداً بعض الشيء، عندنا نقطة نسميها النقطة الفلسفية، النقطة الفلسفية تقع في مقابل الخط أمر عدمي، وعندنا نقطة رياضية في الرياضيات، إذا وضعت رقم (5) ووضعت أمامها قبالها، نقطة أخرى، نقطة ثالثة، بعض الناس الله يذكر أساتذتنا بالخير يقول: بعض الناس كل همه يريد أن يزيد نقاطه في البنوك.
سؤال: إذا رفعت الـ (5) هذه النقاط ما هي قيمتها؟ يعني ماذا؟ لا شيء، إذا لا شيء كيف إذا وقعت أمام (5) تكون شيئاً، المعنى الحرفي من هذا النحو، إذا جاء في جملة يعطيك معنى، احذف الجملة منه، أصلاً لغة ليس فيه معنى. طبعاً لا أنه جاء في أي جملة كان يعطي معنى، لا، في ضمن قواعد، إذا قلت (سرت بصرة من) لا يعطي معنى، أما إذا قلت (سرت من البصرة، من كربلاء) فيعطي معنى، أما آخر (من) فلا يعطي معنى. نفس النقطة الرياضية اجعلها على يمين العدد يعطي معنى، أجعلها على يساره لا تعطي معنى.
[أنا أنصح الأعزاء أن هذا العدد يتأملوا فيه كثيراً، نصف حقائق الوجود تفهمها من خلال الأعداد، ولذا الفيثاغوريين في اليونان أساساً كل نظام الوجود كانوا يفسرونه وفق نظام الأرقام والأعداد، الواحد ليس عدد، ولكن مع أنه ليس عدد لكن بتكرر يوجد … ما فرق الخمسة عن الواحد؟ الستة … بينك وبين الله إذا ضفت واحدة واحدة، هذا ماذا يفعل … الذي كل المعادلات والأحكام سوف … جاءوا إلى الله سبحانه وتعالى قالوا الله واحد ووحدته ليست بعدد وليست عددية، واحد لا كالعدد، ولكن بتكرره يوجد … هؤلاء قالوا بتشأنه وبظهوره يوجد … ما معنى يتكرر، المهم تأملوا في هذا البحث القيم واللطيف، نحن الذين نقضي ساعات من أعمارنا في المعنى الحرفي، لنقضي ست ساعات في فهم الأعداد، وموجودة في كلمات الأئمة].
ارجع إلى بحثي:
إذن مرة أن اللفظ بحسب الدلالة التصورية له معنى في نفسه أو معناه في غيره؟ إذا صار له معنى في نفسه بحسب الدلالة التصورية فهو معنى اسمي، وإذا صار له دلالة ولكن ليس في نفسه بل بتوسط غيره فهو معنى حرفي، هذا نحو من الفناء ولكن في الدلالة التصورية … أما تعالوا معنى إلى المعنى الاسمي، المعنى الاسمي ليس له معنى في نفسه بحسب الدلالة التصورية أو ليس له معنى في نفسه؟ له معنى في نفسه. يحتاج إلى غيره حتى يكون له معنى، طبعاً بعد الوضع لا قبل الوضع لأنه قبل الوضع مهمل، بعد الوضع يحتاج إلى غيره ليعطي معنى لغة، تصوراً يحتاج إلى غيره أو لا يحتاج؟ لا يحتاج. الآن تعالوا نسأل صاحب الكفاية نقول له أنت عندما تقول فناء مرادك أي نوع من الفناء؟
لأشرح الفناء بحسب الدلالة التصديقية، نحن الآن شرحنا الفناء بنحو الدلالة التصورية.
أما الفناء بحسب الدلالة التصديقية، ما معنى الفناء بحسب الدلالة التصديقية؟ يعني أنه عندما ذكر اللفظ لا يريده بنحو الموضوعية وإنما يريد بنحو الطريقية والمعرفية وإن كان بحسب الدلالة التصورية له معنى، يعني الآن المثال الذي ذكره السيد الخوئي، يعني تعالوا معنى إلى التبين وإلى طلوع الفجر، التبين له معنى بحسب الدلالة التصورية أو ليس له؟ نعم، له. طلوع الفجر له معنى أو ليس له معنى؟ بحسب الدلالة التصورية التبين وطلوع الفجر على حد سواء. بخلافه في (من) والابتداء، فإن (من) بحسب الدلالة التصورية ليس له معنى. إذن على مستوى الدلالة التصورية ما الفرق بين (من) والتبين؟ إن (من) لا معنى له لغة، أما التبين فله معنى لغة.
بحسب الدلالة التصديقية تارة تقول التبين وتقول أن الأكل والشرب وعدم ذلك متوقف على التبين وعدم التبين. فإن تبينت تشرب وإن لم تتبين فلا تشرب، مرة هكذا. ومرة لا، تجعل التبين معرفاً لطلوع الفجر، ولكن كلاهما معنى اسمي ولكن مرة يؤخذ كموضوع بما هو في نفسه ومرة يؤخذ بما هو معرف لغيره. الآن التبين وطلوع الفجر هو من النحو الأول أو من النحو الثاني؟ وصاحب الكفاية يقول أن الذي يجعل الشيء حرفاً ومعنى حرفياً هو الفناء في المعنى الأول، يعني التصوري، لا الفناء بالمعنى الثاني يعني التصديقي، إذن ما ذكره صاحب الكفاية هو فناء … الآن يصير تدقيق وتحقيق في كلام السيد الشهيد، السيد الشهيد ماذا قال؟ قال: مراد صاحب الكفاية فناء مفهوم في مفهوم آخر لا فناء مفهوم في المصداق، الآن الجواب: لا، ليس مطلق فناء مفهوم في مفهوم آخر ولو بالدلالة التصديقية، وإنما فناء مفهوم في مفهوم آخر بالدلالة التصورية.
وعلى هذا الأساس فإشكال سيدنا الأستاذ وارد أو غير وارد؟ غير وارد.
إذن إلى هنا انتهينا إلى هذه النتيجة الأساسية، ما هو ملاك الحرف عند أصحاب هذه النظرية التي في عقيدتي لا تختلف عن النظرية الأولى التي قالت أن الحروف لا معنى لها وإنما معناها في غيرها، النظرية الثانية أيضاً تريد أن تقول نفس ذلك الشيء وهو أن الحرف بما هو حرف في نفسه كالنقطة الرياضية له اثر لو تضع مئة أو مئتين أو مليون نقطة إلى جنب الأخرى يميناً ويساراً لا تعطي أثراً أبداً. ولكن واحدة من هذه النقاط اجعلها أمام رقم ضمن شروط خاصة يعطيك أثراً، يختلف حال الـ (5) بلا نقطة على يمينها مع حال الـ (5) مع نقطة على يمينها. واضح هذا المعنى؟
ولكن بأي قيد؟
أولاً: ليس فناء مفهوم في مصداق، بل فناء مفهوم في مفهوم آخر.
ثانياً: ليس مطلق فناء مفهوم في مفهوم آخر ولو بالدلالة التصديقية، بل فناء مفهوم في مفهوم آخر بلحاظ الدلالة التصورية.
فإذن كلا بياني سيدنا الأستاذ السيد الخوئي لا البيان الذي ذكره في أجود التقريرات تام ولا البيان الذي ذكره في المحاضرات أيضاً تام.
الإشكال الرابع: ذكره أيضاً في (أجود التقريرات، ص24) (كما أن لحاظ المعنى حالة لغيره لو كان موجباً لكونه معنى حرفياً لزم منه كون جميع المصادر معاني حرفية) يقول يلزم أن كل المصادر في اللغة العربية مع أنها معاني اسمية يلزم أن تكون معاني حرفية. والتالي باطل. ليس هناك شك عند أحد أن (الضرب) معنى اسمي، لا إشكال أن (الضرب) مصدر من المصادر، معنى اسمي، ولكن على مبنى صاحب الكفاية يلزم أن يكون كل المصادر في اللغة العربية معاني حرفية. والتالي باطل فالمقدم مثله.
سيدنا على أي أساس، لماذا هذا اللازم، كما تعلمون في أي قياس استثنائي لابد من بيان الملازمة وبطلان اللازم، أما بطلان اللازم فواضح، إنما المهم بيان الملازمة، لماذا لو تم مبنى صاحب الكفاية للزم كون المصادر معانٍ حرفية، هذا وجه الملازمة، ما هو الفرق بين المصدر واسم المصدر؟
المشهور المتداول بينكم والذي في أذهانكم أن المصدر هو الحدث منسوباً إلى الغير، يعني الحدث بما هو حالة للغير، بما هو مبين حال نفسه أو حال غيره؟ حال غيره. ضارب، صحيح اسم فاعل، ولكن (ضارب) ماذا يبين؟
ولنضرب مثالاً أوضح: (إيجاد) ما هو؟ الإيجاد ليس هو الوجود، هو الوجود الذي أوجده الغير، والوجود ما هو؟ الوجود اسم مصدر لا مصدر. إذن ما هو المصدر؟ هو الحدث بما هو حالة للغير، فاعلاً كان أو مفعولاً. أما اسم المصدر ما هو؟ هو الحدث في نفسه بلا أن يبين كونه حالة للغير. هذا هو المشهور على الألسن ويدور عليه … بعد ذلك إذا سمح الوقت أبين أن هذا الاصطلاح يوافق عليه النحاة أو لا يوافقون؟ سيأتي بحثه. ولكن كلامي الآن مع تقرير كلام السيد الخوئي (قدس الله سره).
إذن السيد الخوئي يقول بناء على هذا التعريف للمصدر واسم المصدر إذن المصدر سوف يكون معنى حرفياً، لماذا؟ لأنه الحدث بما هو في نفسه أو الحدث بما هو حالة لغيره؟ فيصير مثل الحركات الإعرابية ومثل المعاني الحرفية، إذن يلزم أن تكون المصادر بناء على ما ذكره معانٍ حرفية، والتالي باطل فالمقدم مثله.
أقرأ لكم العبارة مرة أخرى، يقول: (كما أن لحاظ المعنى حالة لغيره لو كان موجباً لكونه معنى حرفياً لزم منه كون جميع المصادر معانٍ حرفية) لماذا سيدنا؟ يقول: (فأنها تمتاز) يعني المصادر (عن أسماء المصادر بكونها مأخوذات بما أنها أوصاف لمعروضاتها) يعني حالة لغيرها لا حالة لنفسها (بخلاف أسماء المصادر الملحوظ فيها الحدث بما أنه شيء في نفسه مع قطع النظر عن كونه وصفاً لغيره).
إذن إذا صار الشيء حالة لغيره ووصفاً لغيره فيكون معنى حرفياً، طبعاً سوف أضيف للسيد الخوئي وهو أنه بناء على ذلك الأعراض في الخارج أيضاً تكون معانٍ حرفية. إذن، نشير إلى الإشكال، فتخلص أن هذا النقض الآخر الذي ذكره سيدنا الأستاذ السيد الخوئي وهو أنه بناء على هذا التمييز بين المصادر وأسماء المصادر يلزم أن تكون المصادر معانٍ حرفية.
هذا الإشكال وارد أو لا سيأتي يوم السبت إن شاء الله.
والحمد لله رب العالمين.