المرجعية الدينية وإسلام القرآن
(عرض توصيفي موجز للمشروع الإصلاحي الديني للسيد كمال الحيدري) (دام ظله)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وآله الطاهرين.
قال تعالى: {قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} (هود: 88).
حديثنا اليوم يتناول فقرتين مهمتين لهما صلة وثيقة بديننا ودنيانا واُخرانا، فهو حديث مصيري نُشخِّص من خلاله واقعنا الديني وما نحن عليه، وأما الفقرتان فهما:
الفقرة الأُولى: هوية المرجع الديني.
الفقرة الثانية: هوية الإسلام الصحيح.
تنبيه أول: إنَّ جميع ما سنتعرَّض له سنلتزم فيه الحياد والجانب التوصيفي وليس الجانب الدفاعي، فأنا هنا لست بصدد الدفاع عن أحد ولا بصدد الهجوم على أحد، وما سأقوم به هو عرض توصيفي إجمالي لنظرية السيد الأُستاذ كمال الحيدري في هاتين الفقرتين؛ وهو عرض مستفاد إلى حدٍّ كبير من كلماته؛ وبالتالي فإنَّ جميع الملاحظات التي يُمكن طرحُها من قبلكم لابد أنَّ تمس الجانب التوصيفي لا أن تمسَّ شخصاً بعينه.
تنبيه ثان: بعد الجولة التوصيفية كان مقتضى الإنصاف أن أُبدي رأيي الخاص بمشروع السيد الأُستاذ (دام ظله)، وبيان أُسلوبه إجمالاً في التعاطي مع الأزمات التي تواجه كل مشروع إصلاحي، وما أُبيِّنه لا يمثل أكثر من وجهة نظري المنبثقة من تتلمذ ومعايشة مع السيد الأُستاذ لأكثر من خمسة عشر عاماً، ابتداءً من عام (1998م) وإلى عام (2013م).
الفقرة الأُولى: هوية المرجع الديني
أما هوية المرجع الديني، فإنَّ معرفتها موقوفة على فهم هوية الدين؛ وهذا أمر جدّ سهل؛ فقد أجمع علماء المسلمين من الفريقين معاً على أنَّ الدين لا يقتصر على الشريعة والأحكام الفقهية، وإنما هو عقيدة وشريعة وأخلاق؛ والعقيدة تُشكِّل المنظومة الفكرية والإيمانية، والتي يُطلق عليها اصطلاح أُصول الدين؛ ونظراً لكونها متعلِّقة بالإيمان في قبال الكفر والشرك والإلحاد فالأولى أن يُصطلح عليها عنوان أُصول الإيمان، وهذا ما يلتزم به سيدُنا الأُستاذ كمال الحيدري.
ونظراً إلى كون الدين، بجميع أقسامه يتوقَّف على فهم المباني العقلية وتفصيلاتها، وعلى المباني النقلية وتفصيلاتها، فقد دخل في الدين البحث العقلي المتمثل بالفلسفة وما تتوقَّف عليه من علوم آلية كعلم المنطق، ودخل البحث النقلي المتمثل بالقرآن والسنة الشريفة؛ وحيث إننا قلنا بأنَّ المسألة الإيمانية هي تعبير آخر عن أُصول الدين باصطلاح القوم، فلابد من دخول علم آخر يقتضيه الإيمان؛ فالإيمان في حقيقته وواقعه فيه بعد معرفي يتمثل بأُصول الدين، وفيه بعد معنوي يتمثل بالوصول إلى حقيقة التوحيد وحقيقة الموحِّد، وحقيقة الطاعة فنقترب، وحقيقة المعصية فنبتعد؛ ونيل مقامات القرب من الله تعالى، وغير ذلك من المسائل المعنوية؛ وهذا ما نبحثه في العرفان.
ونظراً لكون الحياة العملية للإنسان والمجتمع متوقّفة على الرؤية الاجتماعية والسياسية، فلابد من امتلاك هذه الرؤية، وهو ما يُصطلح عليه أحياناً بالعالم بأُمور زمانه؛ فقد ورد عن مفضل بن عمر عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (يا مفضل لا يفلح من لا يعقل، ولا يعقل من لا يعلم، وسوف ينجب من يفهم… والعالم بزمانه لا تهجم عليه اللوابس…)(1).
وعليه ستكون المحصلة لدينا في مجموع العلوم المطلوب توفّرها في المرجع الديني هي كالتالي:
العقيدة والفلسفة والأخلاق والعرفان، والفقه والقرآن والحديث إضافة للرؤية الاجتماعية والسياسية، والتي يُمكن اختصارها بعلمي الاجتماع والسياسة، فيكون عارفاً بطبيعة المجتمعات وعاداتهم وتقاليدهم وثقافاتهم، وهو ما نصطلح عليه بالإدارة الاجتماعية، وكذلك يكون عارفاً بأُمور السياسة وكيفية إدارة الدولة، وهو ما نصطلح عليه بالإدارة السياسية.
وهذه العلوم (العقيدة والفلسفة والأخلاق والعرفان والفقه والقرآن والحديث والاجتماع والسياسة) هي القدر المُتيقَّن في شخصية المرجع الديني، وإلا فهنالك علوم ثانوية ينبغي أن يكون متوفِّراً عليها أيضاً، من قبيل علم الدراية وعلم الرجال وعلمي التاريخ والتأريخ(2).
فمن كان جامعاً لهذه العلوم فهو مرجع ديني حقيقي، ومن لم يكن جامعاً لذلك فهو ليس مرجعاً دينياً، وإنما هو مرجع فيما يعلمُه؛ فإن كان عالماً بالعقيدة فهو مرجع عقدي، ومن كان عالماً في الفقه فهو مرجع فقهي، ومن كان فيلسوفاً فهو مرجع في الفلسفة، ومن كان مفسِّراً فهو مرجع في التفسير، وهكذا الحال فيمن كان عالماً في علمين فهو مرجع فيهما، أو في ثلاثة منها فهو مرجع فيها، وأما من كان عالماً فيها جميعاً فهو مرجع ديني حقيقي.
وعليه فما يُطلق اليوم وفي السابق على المرجع الفقهي بأنه مرجع ديني فهو ـ بحسب نظرية السيد الأستاذ كمال الحيدري ـ معتمد على المسامحة في الاستعمال، وإلا فهو ليس مرجعاً دينياً إلا إذا كان جامعاً لتلك العلوم.
تنبيه: نحن هنا لا ننكر على علمائنا ومراجعنا في النجف الأشرف أو في قم المقدسة أن يكون بعضهم أو كلُّهم جامعين لتلك العلوم، لأننا هنا بصدد الكلِّية أو ما يُسمَّى في علم الأُصول بالبحث الكبروي وليس في الجزئية أو البحث الصغروي؛ فمن كان منهم جامعاً لتلك العلوم المطلوبة فهو مرجع ديني بحسب الاصطلاح.
كما في قولنا: الإنسان حيوان ناطق، حيث نكون بصدد إثبات أجزاء ماهية الإنسان، لا بصدد إثبات أنَّ زيداً من الناس إنسان أو ليس بإنسان، ونقول: من كان جامعاً للحيوانية الناطقية فهو إنسان وإلا فلا، وهذا واضح.
من هنا يتعيَّن علينا في مراجعة هوية المرجع الديني التثبت في ذلك؛ فإن كان جامعاً لتلك العلوم فهو كذلك، وإلا فهو فيما يفهم فقط، وهو محترم في مجاله، ولكن لا يحق له التدخل في المجالات الأُخرى، فمن كان فقيهاً فقط فلا يحق له أن يكتب تفسيراً ولا يحق له أن يقدم منظومة في العقيدة، وهكذا من كان عالماً في العقيدة فقط فإنه لا يحق له أن يتدخل في الأحكام الشرعية.
ما هي وظيفتنا تجاه المرجع الديني؟
لا ريب نحن أمام مشكلة عميقة وخطيرة جداً، وهي أننا لابد لنا كمكلَّفين من البحث عن المرجع الديني وليس عن المرجع الفقهي أو المرجع العقدي أو المرجع التفسيري، وعليه فليس أمامنا سوى أحد الطريقين للوصول إلى المرجع الديني، وهما:
أولاً: الوصول إلى الشخصية الفريدة الجامعة لهذه العلوم المختلفة.
ثانياً: الوصول إلى شخصية تركيبية مؤلَّفة من عدّة أشخاص.
أما الشخصية الفريدة فهي الشخصية الجامعة لتلك العلوم، وبالتالي سيكون المرجع الديني متمثلاً بشخص بعينه، كما لو افترضنا أنَّ (سيناً) من العلماء كان جامعاً لتلك العلوم فإنه سيكون المرجع الديني الحقيقي الذي يجب علينا جميعاً مراجعته وأخذ الدين عنه.
وأما الشخصية التركيبية فهي شخصية علمية مؤلَّفة من عدّة أشخاص، كما لو تصوّرنا أنَّ ذلك العنوان الجامع (المرجع الديني) متحقّق في حاصل الجمع بين فلان وفلان وفلان، فهؤلاء بمجموعهم يكونون مرجعاً دينياً، وأما بلحاظ كل واحد منهم فهو مرجع فيما يعلم ويفهم لا غير.
فلو تصورنا عالماً في العقيدة وعالماً في الفقه وعالماً في التفسير وعالماً في الحديث وعالماً في الفلسفة وعالماً في العرفان وعالماً في الاجتماع وعالماً في السياسة وعالماً في التاريخ والتأريخ، فإن مجموعهم سيُشكِّل عندنا مرجعاً دينياً؛ بمعنى أنه لا يحق لنا إطلاق عنوان المرجع الديني على واحدٍ منهم، وإنما نُطلقه على مجموعهم، وبحسب الاصطلاح الأُصولي نُطلقه على العموم المجموعي، من قبيل عنوان أهل البيت فإنه لا يصدق على رسول الله وحده (صلى الله عليه وآله) ولا على الإمام علي وحده (عليه السلام)، ولا على أيّ إمام وحده، وإنما هو عنوان صادق على مجموعهم، كما أنَّ الاعتقاد بهم لا يُحقِّقه مجرد الاعتقاد بواحد منهم، وإنما لابدَّ من الاعتقاد بهم جميعاً، دون استثناء أحد منهم (عليهم السلام).
وبالتالي فإنَّ وظيفتنا الشرعية تُملي علينا البحث عن تلك الشخصية الفريدة أو عن البديل المتمثل بالشخصية التركيبية المأخوذة على نحو العموم المجموعي.
التركيب الكلي والتركيب النسبي:
وفي ضوء ما تقدم يتبيَّن أنَّ الشخصية الفريدة هي فريدة حقاً ويصعب تحصيلها، فإن وُجدت كان بها، ولزم التمسّك بها، وإلا فنحن أمام طريقين، وهما:
الأول: البحث عن المرجع التركيبي النسبي.
الثاني: البحث عن المرجع التركيبي الكلي.
أما المرجع التركيبي النسبي فنعني به خصوص المرجعية الدينية المركَّبة من أقل عدد ممكن؛ فمثلاً يكون عندنا مرجع في العقيدة والشريعة والتفسير والحديث، ومرجع آخر في الفلسفة والعرفان، ومرجع آخر في الاجتماع والسياسة والتأريخ؛ وكلما ضاقت الدائرة فذلك أفضل ـ كما سيأتي توضيحه ـ فلو كان لدينا مرجعية دينية ثنائية مركَّبة من عالم في العقيدة والفقه والتفسير والحديث والفلسفة والعرفان بمعية عالم في التأريخ والاجتماع والسياسة، فذلك أفضل عملياً من المرجعية الدينية الثلاثية، والثلاثية أفضل من الرباعية، وهكذا.
إذن هنالك صيغة أُحادية للمرجعية الدينية، وهي الشخصية الفريدة، وهنالك صيغة ثنائية وثلاثية ورباعية، وهي الصيغة التركيبية النسبية، وهنالك صيغة مُبتنية على عدد العلوم وهي الصيغة التركيبية الكلّية.
ولو لاحظنا الواقع العملي للمكلَّفين نجد أنَّ التركيبية النسبية أفضل حالاً لهم وأكثر عملانية من الصيغة التركيبية الكلّية؛ كما أنَّ الصيغة التركيبية النسبية كلما قلَّ فيها عدد المراجع كلما كان أفضل حالاً للمكلَّفين؛ فإنَّ المكلَّف ـ عادة ـ لا يُمكنه تحصيل الشخصية التركيبية الكلّية، نظراً لاشتراط الوثاقة في كل ذلك، وفي ذلك ضرب من التعقيد، ولذلك كلما ضاقت دائرة المراجع التي تتشكَّل منها الصيغة التركيبة النسبية كان أفضل حالاً من الناحية العملية.
وأما من الناحية العلمية فالاقتصار على أقل عدد هو أفضل حالاً أيضاً؛ لأنَّ الجامع بين علمين أفضل حالاً من الجامع لعلم واحد، والجامع لثلاثة علوم أو أكثر وأفضل حالاً من الجامع لعلمين؛ لأنَّ الرؤية الكونية الإلهية التي يتوفَّر عليها الجامع لأكثر من علم عادة ما تكون أفضل وأدق وأتقن من الرؤية الانفصالية؛ وبالتالي فكلما كان المرجع جامعاً لأكثر من علم كلما كانت رؤيته الكونية أصح وأدق، وكان هو الأقرب لمقام المرجعية.
تنبيه: إذا ما توفَّر المرجع على العلوم الأساسية الثلاث، وهي العقيدة والشريعة والتفسير فهو الأقرب لمقام المرجعية الدينية، فإذا ما أردنا أن نجمع إلى جواره المراجع الأُخرى في العلوم الأُخرى فإنه مقدَّم عليهم؛ لأنه ما توفَّر عليه هو أشبه ما يكون بناصية العلوم.
هذا خلاصة ما أفهمه عمَّا يراه السيد الأُستاذ كمال الحيدري في موضوع المرجع الديني.
الفقرة الثانية: هوية الإسلام الصحيح
وأما هوية الإسلام الصحيح، فإنَّ المذاهب الإسلامية وإن كانت تُصرِّح بأنها تعتمد على القرآن والسنة الشريفة والعقل والإجماع، إضافة للقياس والعمل بالرأي عند مدرسة الصحابة، إلا أنَّ الواقع العملي لا يبدو كذلك؛ وهذا ما حدا بالسيد الأُستاذ الحيدري إلى تحليل هذه الظاهرة الخطيرة، وقد انتهى به البحث إلى إفراز مدرستين، الأُولى مدرسة الحديث، وهي المدرسة الحاكمة في جميع الأوساط الدينية؛ ومدرسة القرآن، وهي المدرسة المنكوبة المثكولة المهجورة، التي غبنا أو غُيِّبنا عنها، فطُرِحَ القرآن وحضر الحديث، وصار القرآن مرجعاً صورياً وصار الحديث مرجعاً حقيقياً متفرِّداً.
والمشكلة ليست في التفرّد وحسب، وإنما هنالك مشكلة أخطر وأعظم، وهي أنَّ هذا المُتفرِّد قد أُبتلي بالدسّ والتزوير والتشويه والتحريف؛ فبإجماع الأُمة الإسلامية أنَّ الروايات مبتلاة بالإسرائيليات والدسّ والتزوير، ومن الواضح أنَّ تاريخ هذا التزوير يمتدّ إلى صدر الإسلام، وأنَّ أول من شكا من ظاهرة التزوير والدس ووَضْع الحديث هو رسول الله (صلى الله عليه وآله) كما هو المتواتر بين علماء المسلمين جميعاً.
وقد حاول الأعلام حلّ هذه المشكلة وتجاوز الإخفاقات الروائية، وهي صادقة ومحاولات جادة، ولكنها لا تفي بالغرض بل إنَّ الكثير منها قد أضرَّت أكثر ممَّا نفعت، من قبيل اعتماد التوثيقات العامة والخاصة للرجال، فصارت الرواية تُقبل لوثاقة رواتها وتُرد لضعف رواتها، وهذا هو منهج السيد الخوئي الذي رفض حتى ما هو مشهور بين الأصحاب من كون عمل الأصحاب جابراً وإعراضهم كاسراً، فقال: لا عملهم جابر للرواية الضعيفة ولا إعراضهم كاسر للرواية الصحيحة؛ كما أنّه رفض التوثيقات الأعلائية الواردة في بعض الأصحاب الذين تعتبر مراسيل مسانيد، من قبيل محمد بن أبي عمير؛ فكان منهجه الحاكم هو التوثيق الوارد في رواة الرواية.
وفي ظلّ هذا المنهج السندي سقطت مئات ـ إن لم تكن آلافاً ـ من الروايات العظيمة المضامين بسبب ضعف سندها؛ كما أنه قد اعتُبرت منها مئات الروايات الباطلة المضمون، وصُحِّح العمل بها بسبب صحَّة سندها لا غير.
من هنا يرى السيد الأُستاذ الحيدري أنَّ المذهب الشيعي الإمامي الاثني عشري القائم على أساس الروايات بالدرجة الأساس قد اعتمد على كم غير قليل من الروايات المدسوسة والمزوّرة، ولابد من تصحيح ذلك الأمر من خلال مراجعة ذلك التراث الروائي ووضع ضابطة جديدة لا تجعلنا نخسر المضامين العظيمة من جهة، ولا تجعلنا نقبل بالمضامين الباطلة من الجهة أُخرى، وليس أمامنا إلا القرآن الكريم، فهو النص الوحيد الذي لم يقع فيه التحريف بإجماع الأُمة الإسلامية، وبالتالي لابد من تنقية التراث الروائي قرآنياً.
جدير بالذكر أنَّ روايات العرض كثيرة، منها: عن الإمام موسى الكاظم (عليه السلام): (اعرضوها على كتاب الله فما وافى كتاب الله عزّ وجل فخذوه، وما خالف كتاب الله فردوه)(3).
إذن المرجعية الأُولى في التصحيح هو القرآن نفسه، كما أنَّ المرجعية الأولى في التأسيس هو القرآن نفسه، والرجوع للقرآن وعرض الحديث عليه هو ما عناه السيد الحيدري بالخروج من إسلام الحديث إلى إسلام القرآن؛ فليس مراده ترك الروايات أو الطعن بها جزافاً، وإنما مراده وضع ضابطة قطعية لقبول التراث الروائي، وهذه الضابطة هي القرآن بمعية العقل البرهاني أيضاً.
وجدير بالذكر أيضاً أنَّ هنالك فوارق كثيرة بين إسلام الحديث وإسلام القرآن لابدَّ من الوقوف عليها؛ لبيان خطورة إسلام الحديث وجلالة إسلام القرآن؛ كما أنَّ هنالك ملامح وتطبيقات وثمرات علمية وعملية عظيمة بين هذين الإسلامين، اللذين يرى في أحدهما ـ وهو إسلام القرآن ـ هو الإسلام الصحيح، وفي الآخر ـ وهو إسلام الحديث ـ هو الإسلام غير الصحيح؛ وهذا نأمل الوقوف عليه توصيفاً في مناسبة أُخرى.
وأخيراً لا يُقال أنَّ إسلام القرآن هو مجرد دعوة عمرية مُبطَّنة؛ لأنها عين دعوى: (حسبنا كتاب الله)؛ فإنَّ إسلام القرآن وفق ما يراه السيد الأُستاذ الحيدري لا يلغي الحديث ليُقال فيه ذلك، وإنما هو دعوة للعودة للقرآن علماً وعملاً من جهة، وجعله الضابطة الأساسية في تصحيح الروايات من جهة أُخرى؛ فالقرآن هو المعيار الديني الأول، وهو المعيار التصحيحي الأول(4) للحديث.
انطباعاتي الخاصة حول المشروع الإصلاحي ورائده:
اتضح أنَّ تلك السطور قد تكفّلت بتقديم تصوير إجمالي موجز جداً عن المشروع الديني الإصلاحي، والذي يُمكن اختصاره بكلمة واحدة، وهي: (الرجوع من إسلام الحديث إلى إسلام القرآن)؛ وهو مشروع لم يكن وليد وقته، وإنما له سوابق وإرهاصات كثيرة، فقد سبق أن تعرَّض السيد الأُستاذ (دام ظله) إلى هذا الموضوع في مناسبات مختلفة، وضمن عناوين مختلفة، حيث نجد جذور البحث في كتابه (منطق فهم القرآن)، وفي (المنهج التفسيري للعلامة كمال الحيدري)، وأيضاً في كتابه التفسيري (اللباب في تفسير الكتاب)، وفي بعض دروس البحث الخارج فقهاً وأُصولاً.
إلا أنَّ السيد الأُستاذ (دام ظله) ونظراً لأهمية البحث وضرورته فقد أفرد له حلقات خاصة في برنامجه المليوني الناجح (مطارحات في العقيدة)، وذلك في شهر رمضان من عام 1434هـ، فكانت عدد حلقاته قد بلغت العشرين، تدرَّج فيها بشكل تحقيقي منقطع النظير، مستعرضاً الخلفيات التاريخية والسياسية والأيديولوجية لانتشار إسلام الحديث وإقصاء إسلام القرآن، موضِّحاً خطورة الموقف وآثاره السلبية العظيمة، دون أن يترك الموقف في حيز النقد، وإنما أردف نقده البناء بتقديم النظرية الإسلامية للإسلام الصحيح، من خلال بيان أهم الملامح الأساسية لمشروعه الإصلاحي.
ونحن بحسب متابعتنا للبرنامج وبحوثه المتعلّقة بأصل المشروع وجدنا أنَّ هنالك مسؤولية كبرى لا يمكن التنصّل عنها، بل إنَّ التنصّل عنها ضرب من ضروب الخيانة للعلم والمعرفة عموماًَ وللدين خصوصاً، وقد حاولنا مراراً وتكراراً الوقوف على ثغرات المشروع الإصلاحي عند ناقديه، بل وعند الخصوم الذين يتقاطعون تماماً مع الرؤى العلمية للسيد الأُستاذ (دام ظله)، فلم نجد نقداً بناءً، ولا ثغرة ملحوظة، فكان جُلّ ما ذكروه وما أثار حفيظتهم ـ بحسب ما نُقل لهم أو ما هم ينقلون ـ هو توتره وارتفاع صوته وكثرة اتهاماته لمراجع الشيعة، والتشكيك بالتراث الروائي والعلمائي للشيعة، ونعت رواياته بالإسرائيليات، وعدم التزامه بالحكمة القائلة (ليس كل ما يُعرف يُقال)، وغير ذلك ممَّا صورته ذاكرتهم الإسقاطية، التي تغافلت عن سنوات الجهاد العظيمة التي خاض فيها السيد الأُستاذ (دام ظله) أشرس حروبه ومواجهاته مع الإسلام الأموي التكفيري القاتل، وتناسوا جميع انتصاراته التي أقضَّت مضاجع التيميين، وأفقدتهم صوابهم، والتي أعادت الرشد للكثير من اخواننا من أهل السنة لمطالعة تراثهم بموضوعية، ولما وصل الأمر
ـ بحسب ما تقتضيه الموضوعية والسلامة في الدين والموقف ـ إلى تناول تراثنا الشيعي بعين ناقدة حريصة، تعالت الأصوات، وانتفخت الأوداج، واحمرت العيون!.
ونحن في الوقت الذي نُعلن فيه عن تأسّفنا الشديد على عدم قراءة مشروعه الإصلاحي قراءة موضوعية نلتمس لهم العذر، فالكثير منهم كان سليم النية حسن القصد، رغم أنه أخطأ الطريق.
أما ما ذكروه من نقودات سطحية لا ترقى لشيء، وغاية ما فيها هو البناء العاطفي الذي قام عليه العقل العام ـ بحسب اصطلاح السيد الأُستاذ ـ من توتر وارتفاع الصوت، فلنا أن نسأل: ما الذي ينتظرونه وهو يقف أمام تراث مشوب بالأخطاء الفادحة، وأمام أقوال علمائية صنعت للأُمة عقائد بعيداً عن القرآن الكريم؟؛ وما الذي ينتظرونه من أُستاذ عاش أكثر من ثلاثين عاماً مع القرآن وهو يرى القرآن بنوره وهداه منهوباً مسلوباً، خامل الذكر، خافت الصوت؟.
ألا تأخذ المسلم الغيور وهو يسمع أنَّ مسلماً ما قد أُهين، أو أنَّ كتاباً لعالم مسلم قد مزَّقوه، فكيف لا تأخذه الغيرة على كلمات الله وهو يراها غير منظورة في ذاكرته وثقافته وسلوكه، وكأنَّ القرآن ما وُجد إلا لنختم قراءته في شهر رمضان، أو نسمعه في أوقات العزاء!.
ولو طالعوا بعض التراث، وهم من أتباع إسلام الحديث لا إسلام القرآن، لحمله على محمل حسنٍ في ارتفاع صوته الذي ما ارتفع إلا لإعلاء كلمة الحق، وفي ارتجاف يده التي ما ارتجفت إلا لشدَّة ألمه وأساه على الواقع المرير؛ فلو كانوا منصفين وهم أهل الحديث لحملوه على محمل حسن؛ ففي التراث ما يسع ذلك، فقد روي عن الإمام جعفر الصادق عن الإمام الباقر (عليهما السلام)، عن الصحابي الجليل جابر بن عبد الله الأنصاري، أنه قال: (كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) إذا خطب احمرت عيناه، وعلا صوته، واشتد غضبه، كأنه منذر جيش يقول: «صبحكم مساكم<، ويقول: «بعثت أنا والساعة كهاتين<؛ ويقرن بين إصبعيه السبابة والوسطى، ثم يقول: «أما بعد، فإنَّ خير الأمور كتاب الله، وخير الهدى هدى محمد… <(5).
وأما دعوى اتهاماته لمراجع الشيعة، فإنه لم ينقد أشخاصهم، وهي قابلة للنقد أيضاً، وإنما نقد مناهجهم العلمية، وطريقة تعاطيهم مع التراث، وحركتهم البطيئة التي لا تنسجم مع ما نحن فيه من انفجار علمي هائل، وتداخل اجتماعي كبير، وصراع فكري وثقافي وديني لا سابقة له، وغير ذلك من تمزّق وشتات في جميع أوساطنا، بما فيها الوسط الديني؛ فهل كان المطلوب منه ـ وهو الحسني الحيدري ـ أن يتمسَّح بأعتاب الصمت المألوف، أم كان المطلوب منه أن يُضيف صمتاً جديداً إلى محفل الصمت الموروث؟!.
إذن: (أين الحسن أين الحسين، أين أبناء الحسين، صالح بعد صالح، وصادق بعد صادق، أين السبيل بعد السبيل، أين الخيرة بعد الخيرة، أين الشموس الطالعة، أين الأقمار المنيرة، أين الأنجم الزاهرة، أين أعلام الدين وقواعد العلم؟؟؟)(6) ؛ وأين صرخة سيد الشهداء أبي عبد الله الحسين (عليه السلام): (هيهات منا الذلة، يأبى الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنون، وحجور طابت وطهرت، وأنوف حمية، ونفوس أبية، من أن نؤثر طاعة اللئام، على مصارع الكرام، ألا وإني زاحف بهذه الأسرة على قلة العدد وخذلان الناصر…)(7).
وأما التشكيك بالتراث الروائي والعلمائي للشيعة، ونعت رواياته بالإسرائيليات، فإنها تهمة كاذبة بائسة، فغاية ما ذكره في المقام هو أنَّ التراث الروائي الإسلامي ومنه الشيعي فيه وضع ودسّ وتزوير وفيه الكثير من الروايات الإسرائيلية، وهذا أمر تسالم عليه جميع أعلام المحقّقين من الفريقين معاً، وهل خفي عنهم التراث الروائي التفسيري؟!.
وأما عدم التزامه بالحكمة القائلة (ليس كل ما يُعرف يُقال)، فذلك لأنهم اعتادوا الصمت في أغلب الأمور، فصار كل كلام يُذكر في المقام مشمولاً لقاعدة لزوم الصمت، وكأننا قد كُلّفنا بالصمت لا بالكلمة، وهل بُعث الأنبياء بالصمت؟!.
نعم، إنه (دام ظله) كان ولا زال ملتزماً بقاعدة (ليس كل ما يُعرف يُقال)، فلم يصدر منه من الكلام الذي لا ينبغي أن يُقال شيء، ولو باح بشيء من ذلك لغُلِّقت أبواب، وسُمِّلت عيون، وشابت رضّع؛ وإلى الله المُشتكى؛ ولو لم يكن عاملاً بهذه القاعدة الإسكاتية لأظهر للأُمَّة أضعاف ما أظهره وهو العالم بالزوايا والخفايا، وقد تجاوز عمره الحوزوي الأربعين عاماً؛ ولكنه يتمثل كلمة جدّه الأعظم أمير المؤمنين علي (عليه السلام) في قولته التاريخية: (فرأيت أن الصبر على هاتا أحجى، فصبرت وفي العين قذى، وفي الحلق شجا؛ أرى تراثي نهبا)(8).
وأما ما ينفقونه من أموال سخية، سلبوها من حقوق المستضعفين، وما يبذلونه من جهود جلية، ما ادَّخروها إلا لطمر صوت الحقيقة، فإنَّ ذلك فعلهم، وهو خائب في مسعاه، ومردود على من ألقاه، وصدق الله العلي العظيم القائل: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً} (الفرقان: 23).
نعم، ذلك هو فعل الإنسان، (… فكد كيدك، واسع سعيك، وناصب جهدك، فوالله لا تمحو ذكرنا…)(9) ، وفعل الإنسان كزبد سرعان ما يذهب جفاء.
وأما فعل الله تعالى الذي لا تغيب شموسه، فهو الباقي وإن رغمت أُنوف، وهو المثمر المغدق وإن ضاقت نفوس، وهو ما ينفع الناس، قال تعالى: {… كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ} (الرعد: من الآية 17).
التقليد الأعمى:
وأخيراً نود التذكير ببعض الآيات القرآنية الداعية للخروج من دوائر الانغلاق على الموروث من دون تفكّر وتدبّر، وكيف أنَّ عمدة أدلة خصوم الدعوات التصحيحية في تأريخ الإنسان كانت قائمة على أصل واحد لا غير، وهو الركون لما عليه الآباء بلا تفكّر فيه.
قال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ} (البقرة: 170).
وقال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ} (المائدة: 104).
وقال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ} (لقمان: 21).
وقال تعالى: {قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ} (يونس: 78).
والحمد لله رب العالمين وصلى الله على النبي الخاتم الأمين وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى من اتبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
العبد الراجي رحمة به
د. طلال الحسن
—————————–
(1) أُصول الكافي، للشيخ الكليني: ج1 ص26 ح29.
(2 ) الفرق بين علم التاريخ وعلم التأريخ هو أنَّ الأول يتعلَّق بالسرد التاريخي للأحداث، والثاني يتعلّق بتحليل تلك الوقائع والأحداث؛ فالأول سردي معلوماتي والثاني فكري تحليلي.
(3 ) أُصول الكافي، الشيخ الكليني: ج1 ص8.
(4) المراد من كونه المعيار الأول لتصحيح الروايات هو وجود معيار آخر يصحّ الاعتماد عليه وهو العقل القطعي، أي: الدليل العقلي القطعي، وفي صورة وجود روايات لا مُصحِّح لها وفق هذين المعياريين ـ كما في جملة من الروايات الواردة في تفصيلات الشريعة ـ فلابد من اعتماد نظام التصحيح القرائني، والذي من جملته اعتماد الروايات المتواترة المضمون.
(5) سنن ابن ماجة، محمد بن يزيد الزويني: ج1 ص17 ح45؛ وأيضاً صحيح مسلم، مسلم النيسابوري: ج3 ص11.
(6) من دعاء الندبة. (المزار، محمد بن المشهدي: ص578).
(7 ) أبصار العين في أنصار الحسين (عليه السلام)، للشيخ محمد السماوي: ص37.
(8) نهج البلاغة، خطب الإمام علي (عليه السلام): ج1 ص31 خطبة رقم: (3)، المسماة بالشقشقية.
(9 ) من خطبة للسيدة زينب (عليها السلام) قالتها في مجلس الطاغية يزيد بن معاوية.