نصوص ومقالات مختارة

  • ملاكات الإمامة

  • نحاول من خلال الظواهر القرآنية الوقوف على ما ظهر منها من ملاكات الإمامة، فقد ذكرتْ جملة من الآيات القرآنية أمرين أوْحَتْ بأنّهما المناط في جعل الإمامة وتسنّم هذا المنصب الأرفع، وهما:

    1- الصبر

    2- اليقين بآيات الله تعالى

    وقد جاء ذلك في قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ} (السجدة: 24).

    فعدّت الآية الكريمة الصبر ومن قبله الإيقان بالآيات مقوّمي الإمامة. فما هو الصبر، وما هي مراتبه؟ وما هو اليقين، وما هي مراتبه؟

    أوّلاً: الصبر

    الصبر لغةً: حبس النفس من الفزع من المكروه والجزع عنه، بمنع الباطن من الاضطراب، والأعضاء من الحركات غير المعتادة([1]).

    فإن كان من أجل إظهار الثبات أمام الناس حتّى يكون مَرْضيّاً عندهم؛ فذلك هو صبر العوامّ ولا أجر فيه، لأنّ المقصود فيه غير الله تعالى، وما ذلك إلّا لأنّهم {يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} (الروم: 7).

    وإن كان لأجل طلب ثواب الآخرة فهو صبر العبّاد الزهّاد، الذين وعد الله تعالى بإيفائهم أجورهم فقال: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} (الزمر: 10).

    وإن كان ذلك ابتهاجاً منهم ورضىً بما أولاهم ربّهم، فإنّه صبر العارفين وإن كان في صورته الظاهرية أمراً مكروهاً.

    إنّ صبر العارفين يأخذ طابع الحبّ والوله بما جاء به المحبوب، وأولئك الذين بشّرهم ربّهم بصلواتٍ ورحمة {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} (البقرة: 155 ـ 157).

    يُروى أنّ جابر بن عبد الله الأنصاري & مرض، فعاده الإمام محمد الباقر × فسأله: «كيف تجد حالك؟» قال: أنا في حال الفقر أحبّ إلَيَّ من الغنى، والمرض أحبّ إليَّ من الصحَّة، والموت أحبّ إليَّ من الحياة.

     ولا ريب أنّ الفقر والمرض والموت ابتلاءات تحتاج إلى صبر شديد، وقد كان جابر يطلب بذلك أجر الآخرة إلّا أنّه قدّم ما يحبّه هو، وإن كان يستلزم منه صبراً، ولم يقدّم ما يريده الله تعالى، ولذا أجابه الإمام × بقوله: «أمّا نحن أهلَ البيت، فما يرد علينا من الله من الفقر والغنى والمرض والصحّة والموت والحياة فهو أحبُّ إلينا»([2])، لأنّه من عطايا المولى القدير، وكلّ ما هو آتٍ منه فهو محبوب ومطلوب.

    ولعلّ صبر العوامّ ينسجم مع الوقوف الصوريّ الساذج، كما أنّ صبر العبّاد الزهّاد ينسجم مع الوقوف الصوريّ التحقيقي، ويكون الوقوف التصديقي التحقّقي منسجماً مع صبر العرفاء، والعارف هو كلّ من وقف على معرفة الله تعالى وتحقّق بها، وهو العالم الربّاني، ودونه إمّا متعلّم على سبيل النجاة، أو جاهل تتجاذبه الأصوات المختلفة وتعصف به الرياح المتعاكسة([3]).

    والصبر بمرتبته الثالثة المناسب للتحقّق هو المناط الأوّل المعتمد في مقام الإمامة الإلهيّة دون المرتبتين الأولى والثانية.

    أمّا موارد الصبر فهي:

    1- الصبر عند المصيبة

    2- الصبر على الطاعة

    3- الصبر عن المعصية

    فلا يظهر من الصابر جزع ولا شكوى عند المصيبة ـ سواء كانت في نفسه كالمرض أو في مالِه أو في ولْده وعرضه وعياله ـ وذلك هو الصبر الجميل المشار إليه بقوله تعالى: {فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً} (المعارج: 5) حيث سئل الإمام محمد الباقر × عن الصبر الجميل فقال: «ذلك صبر ليس فيه شكوى إلى الناس»([4])، وعدم الجزع ـ كما عرفت ـ هو بقاء الطمأنينة والاستقرار النفسي وعدم الاعتراض ظاهراً وباطناً، وقد روي أنّ الرسول الأكرم ’ قد هملت عيناه بالدموع عند وفاة ولده إبراهيم، وقال في ذلك: «تدمع العين ويحزن القلب ولا نقول ما يسخط الربّ وإنّا بك يا إبراهيم لمحزونون…»([5]) يكون منه ذلك ولا يقصد بدمعته الرحيمة وحزنه النبوي سوى وجه محبوبه ومعبوده وغاية منتهاه، فلا تزيده الدمعة إلّا قرباً، والحزن إلّا وجداً وولهاً بالله تبارك وتعالى.

    وكان ’ إذا نزلت بأهله شدّة يأمرهم بالصلاة ويقرأ: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} (طه: 132)([6]) والأمر بالصبر عند البلاء لأجل حفظ آثاره الوضعية؛ فإنّ تحت نيران البلاء والمحنة أنوار النعمة.

    وقد كان الأنبياء هم الأشدّ بلاءً، وقد كان الرسول الأعظم ’ أشدّهم بلاءً، وروي عنه ’ قوله في ذلك: «ما أُوذِيَ نبيٌّ مثل ما أُوذيت»([7]).

    وقد كان يدفع بالتي هي أحسن؛ لأنّ خلقه القرآن، فصبَر في جميع أحواله، فاستحقَّ البشرى من ربّه بجعل الإمامة في عترته الطاهرة، ووصفَهم بالصبر([8]) بقوله تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ} (السجدة: 24).

    إنّه الصبر على المصائب والنوائب التي تتصدّع منها الجبال الصمّ، فمنهم من يُلوَّع بفقد وديعة عنده، ومنهم من يُقطّع بالسمّ، ومنهم من ترُضّ الخيول صدره، ومنهم من يُغيّب في السجون أوطاراً يغيب فيها ذِكره، ومنهم من كان وما زال يتجرّع عبر قرونٍ طوال آلام غيبته،
    فـ {سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} (الرعد:24).

    وأمّا الصبر على الطاعة وعن المعصية فإنّه يختلف بحسب نوع الطاعة ونوع المعصية، فنفس أداء الصلوات اليومية يحتاج إلى صبر ولكنّ أداءها في أوّل أوقاتها يحتاج إلى صبر أكبر، وأداؤها بنوافلها يحتاج إلى صبر أكبر، وإتيان ذلك في المسجد يحتاج إلى صبر أكبر.

    ثمّ أداء كلّ ذلك بالمستوى الظاهري من الصلاة يحتاج إلى صبر معيّن ولكن أداءها بحضور قلبيّ وتوجّه كامل يحتاج إلى صبر أكبر وأعظم، وهكذا في العبادات الأخرى.

    ثمّ الصبر على العبادة نفسها شيء، والصبر على عدم إظهارها بين الناس شيء آخر يحتاج إلى استعداد أكبر، والشكر على أداء هذه العبادات وحفظ سرّيتها يحتاج إلى صبر أعظم وأعظم.

    وكلّما اتسعت الرقعة المعرفية للإنسان احتاج إلى درجة أكبر وأعظم من الصبر، إمّا لالتزامه بالموارد المندوبة على نحو قريب من وجوبها عملاً؛ فيشعر بالذنب لترك مورد منها، أو لتقصير في كيفية أدائها، وإمّا لازدياد درجة الحضور القلبي إلى مستوى لم يعهده من قبل؛ فيكون الرجوع عنه بخساً في حقّه وحقّ ربّه جلّ وعلا، فيحتاج ذلك المستوى الحضوري صبراً أكبر وأعظم.

    ولا ريب أنّ صبر العالم في العبادة أعظم من صبر الجاهل، وصبر العارف حضوراً أعظم من صبر العارف حصولاً في العبادة، ولا يخفى أنّ العبادة وإن كانت محبوبة بنفسها (بمعنى أنّ الإنسان يحبّ لنفسه أن يكون عابداً) ولكنّ النفس بطبعها تنفر من العبادة وإدامتها إمّا نتيجة حبّها للراحة والاسترخاء والكسل، كما في العبادات اليوميّة، وإمّا لحرص وبخل وشُحّ([9])، كما في الحجّ والجهاد بالمال ودفع الحقوق الشرعيّة.

    ولأجل صعوبة ذلك يحتاج الإنسان العاقل أن يتأمّل ويدقّق كثيراً في تصحيح النيّة والإخلاص، فربّما يدفع البعض حقوقه الشرعيّة بغير رضىً منه أو بانزعاج وتنفّر، فيغفل بذلك عن قصد القربة من الله تعالى، فيكون قد خسر ماله وأجر عمله هذا([10]).

    هذا في الطاعات، وأمّا المعاصي فإنّ أشدّها على الإنسان والتي تحتاج إلى صبر عظيم منه هي المعاصي التي تكون ميسّرة وسهلة على صاحبها، كالغيبة والكذب والبهتان والثناء على النفس بما ليس فيها ونفي محاسن الآخرين بما هم عليها.

    إنّ الذات الإنسانيّة تميل ميلاً كثيراً إلى إثبات الكمالات لها، ونفيها عن غيرها، ولأجل هذا الميل الشديد يحتاج الإنسان إلى صبر عظيم لكبح هوى النفس عن مدحها ولجمها عن ذمّ غيرها.

    إنّ التحكّم بهوى النفس أمر عظيم وديمومته أمر أعظم، {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} (فصلت: 36).

    وما أعظم من ذلك هو الصبر على أذى الآخرين وعدم دفعه بالمثل مع القدرة عليه، شرط أن لا يصل المقام به إلى حدّ الإذلال، وإلّا فَقَد يجب عليه ذلك، وقد ورد عن الرسول الأكرم ’: «صل من قطعك، وأعطِ من حرمك، واعفُ عمّن ظلمك، فإنّك إن فعلت ذلك كان لكَ عليهم من الله ظهير»([11]).

    إنّ الصلة والإعطاء والعفو تحتاج إلى مراتب كبيرة من الصبر، {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} (الشورى: 43).

    ويصل المطاف بالصابر أن يعطي من نفسه فيتعاطى مع عدوّه وكأنّه وليّ حميم، وأشدّ ما يُكافأ به العدوّ هو أن يُطاع الله فيه، فإنّ العدوّ عادة ما يتوق إلى وقوع المعصية منك، ولا ريب أنّك بالصبر عليه ستملأ فمه حجراً وتحفظ نفسك من الرغبة في الانتقام.

    إنّ الصبر الذي يعتبر ركناً أساسياً في ملاكات الإمامة لابدّ أن يكون في أعلى وأشرف مرتبة. إنّه الصبر الذي نسبه الله سبحانه إلى أُولي العزم من رسله بقوله تعالى: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُل} (الأحقاف: 35)، سواء كان عند المصائب والنوائب أو على الطاعات أو عن المعاصي، ولا ريب أنّ الصبر في أيّ نوع من هذه الأنواع الثلاثة إذا كان هو الأشدّ فهو الأكثر ثواباً والأعظم كمالاً.

    ومن يقرأ سيرة الأنبياء والأوصياء عموماً وسيرة النبيّ وأهل بيته ^ يجد من الشواهد على سموّ درجات صبرهم وقوّة عزمهم ما يصعب حصره ويندر وجوده فيمن هم دونهم.

    ثانياً: اليقين بالآيات

    وهو الركن الثاني من ملاكات الإمامة طبقاً لآية الإيقان في سورة السجدة، وهذا الإيقان له مراتب ثلاث أشرنا إليها في أبحاثنا الأخرى([12]) وهي علم اليقين وعين اليقين وحقّ اليقين، وقد عرفت هنالك أنّ علم اليقين حصوليّ، وعين اليقين وحقّه مرتبتان من مراتب اليقين الحضوري، ولذا فالأثر المترتّب على الأوّل قد يتخلّف، فمقتضى هذا اليقين هو حصول الإيمان بمتعلّقه ولكنّ ثبوته ليس ضرورياً، فمن الممكن حصول هذه المرتبة اليقينيّة مع تخلّف أثرها، وقد أشار القرآن الكريم إلى هذه الحقيقة بقوله تعالى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ} (النمل:14) بمتعلّقه عين اليقين هو تبتان من مراتب اليقين الحضوري, ولذ فالأثر المترتب على الأول قد يتخلّف, فمقتضى هذا اليقين هو حصول الإبخلاف مراتب اليقين الحضورية عيناً وحقّاً فإنّها موجبة لترتّب الأثر.

    ثمّ إنَّ هاتين المرتبتين لا تنفكّان في دائرة الحضور عن رؤية الملكوت، أي أنَّ رؤية الملكوت والانفتاح على عالم الغيب مقدّمة ضرورية لإفاضة اليقين، فيكون حصول هذا اليقين بأيّ رتبتيه كاشفاً عن حصول رؤية الموقن للملكوت.

    واليقين الذي ينسجم مع مقام الإمامة والذي يشكّل ركناً أساسياً فيها هو ما يرافقه انكشاف لعالم الملكوت، وفي ذلك يقول السيد الطباطبائي: «…وبالجملة فالإمام يجب أن يكون إنساناً ذا يقين، مكشوفاً له عالم الملكوت، متحقّقاً بكلمات من الله سبحانه…»([13]).

    وقد لوّح القرآن الكريم إلى هذه الحقيقة الغيبية والعلاقة التكوينية بين اليقين الحضوري وانكشاف عالم الملكوت في قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ} (الأنعام: 75).

    فطريق الإيقان وانكشاف الملكوت، هو الالتفات إلى أنّ الانكشاف بنفسه ليس واسطة في ثبوت اليقين للرائي وإنّما هو واسطة في إثباته إليه، أي أنّ الانكشاف يكون علّة لإفاضة اليقين من قبل الله تعالى في قلب الرائي لا أنّه علّة لإيجاد اليقين بنفسه.

    فلكي يكون إبراهيم × من الموقنين، لابدّ له من الانفتاح على عالم الغيب، ولقد كان له ذلك.

    وحيث إنّ الانفتاح على عالم الغيب وتجلّي الحقائق الباطنيّة لعالم الظهور يعني حصول انطلاقة معارفيّة ارتقائيّة قد أُشير لها بالسير (في الحقّ بالحقّ) فإنّ المراتب المعرفية للرائي سوف تأخذ سقفاً جديداً وأُفقاً آخر، وهذا يعني بالضرورة علوّ منزلته ودرجته، >إنّما يرتفع العباد غداً في الدرجات وينالون الزلفى من ربّهم على قدر عقولهم<([14]).

    أي أنّ الثواب ودرجات القرب معلولان لمستوى العقل الذي يكون عليه الإنسان، ويراد بالعقل هنا خصوص المعرفة. فالقرب والبعد متفرّعان على الدرجة والمرتبة المعرفية التي يكون عليها العبد، بل إنّ الخطابات الإلهيّة قد اقترنت بذلك أيضاً، أي: بقدر العقول ودرجات المعرفة للمتلقّين يكون مستوى الخطاب الموجّه إليهم.

    فقد روي عن الرسول الأكرم ’: «إنّا معاشر الأنبياء أُمرنا أن نكلّم الناس على قدر عقولهم»([15]).

    وقد بيّنا ـ في بحث لنا([16]) ـ أنّه باختلاف المراتب المعرفية تختلف مراتب ودرجات التكليف، فكلّما ازدادت درجات المعرفة تعمّقت العبودية لله سبحانه وعظمت الطاعة له، فإذا ما سلّمنا بأنّ مستويات التكاليف الإلهيّة رهن بدرجات العقول والمراتب المعرفية للسائرين، فإنّ هذا يعني أنّ التكاليف الإلهيّة مأخوذة على نحو الكلّي المشكّك فيختلف سقفها وأفقها باختلاف المعرفة، إمّا بزيادة مفرداتها أو بزيادة مراتب مفرداتها، فيكون الأصل محفوظاً ولكنّ درجة المطلوب منه سوف تتحدّد بحسب الرقعة المعرفية التي تحقّق بها الرائي.

    إذا كان الأمر كذلك فإن ممّا لا ريب فيه أن تكون هنالك تكاليف جديدة ـ طولاً وعرضاً ـ تحتّم على العارف الالتزام بها، وهذه التكاليف المعارفية المولد سوف تحتاج إلى ما يناسبها من الصبر عليها؛ ما يعني أنّ الملاكين الظاهرين لنا من جوّ آية الإيقان في مقام الإمامة هما الإيقان والصبر، وهذا هو المناسب حتّى لظاهر الآية الكريمة: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ} (السجدة: 24) فهم في رتبة كانوا موقنين ـ إيقاناً مصحوباً بانكشاف الملكوت ـ ثمّ صبروا على معطيات ذلك الإيقان المعارفي، وفي ذلك إشارة إلى عظمة ما تحقّقوا به من مظهرية الصبور، وإنّ مراتب الصبر هذه لهي أرفع وأشرف بكثير من مراتب الصبر الحاصلة قبل الإيقان وانكشاف الملكوت لهم ^، وإن كنّا نعتقد اعتقاداً راسخاً أنّهم ^ ما انْفَكُّوا عن الإيقان والكشف طرفة عينٍ أبداً، وبذلك يكون الصبر الصادق عليهم والواقع منهم هو خصوص الصبر بعد الإيقان، فيكون الصبر بعد الإيقان هو المقصود من فردَي الصبر في ملاكات الإمامة.

    يقول السيد الطباطبائي في ذيل هذه الآية: «فبيّن أنّ الملاك في ذلك صبرهم في جنب الله ـ وقد أطلق الصبر؛ فهو في كلّ ما يبتلى ويمتحن به عبدٌ في عبوديّته ـ وكونهم قبل ذلك موقنين»([17])، يريد بقوله: «وكونهم قبل ذلك…» أي قبل صبرهم في جنب الله كانوا موقنين، فيكون الصبر الواقع منهم هو بعد الإيقان، كما هو واضح.

    فتلخّص إلى هنا: أنّ شرطي الإمامة الإلهيّة ومناطيها بحسب الظواهر القرآنية هو الإيقان الحضوري والصبر بمراتبه الرفيعة.

    وأمّا الملاكات الباطنية في مقام الإمامة الإلهيّة فذلك أمرٌ لا يعلمه إلّا الله والراسخون في العلم، ومن ترشّح عليهم منهم بقدر مقدور([18]).

    ولقد كان الرسول الأكرم ’ يصف عمّاراً بالإيمان، ويصف سلمان بالعلم، ويصف أبا ذر بالصدق، ويصف المقداد بالصبر، ولا ريب أنّ لهذه الأوصاف آثاراً ومدخليّة كبرى في مراتبهم المعرفية ونوع الإجابات التي يأخذونها عن الرسول الأكرم ’ وعن أمير المؤمنين × وبقدر ما يترشّح عليهم منهما ‘ تكون درايتهم بمقامات ومنازل الإمامة الإلهيّة، ولكن دون أن تكون لهم الإحاطة بذلك.

    نعم، يمكن القول إجمالاً بأنّ الإمامة هي أرفع مراتب الخلافة الإلهيّة، فلا مرتبة فوقها البتّة، ولازمه أن يكون الإمام × جامعاً للكمالات وحائزاً على أشرف مراتبها. وحيث إنّ من سواه من الخلق لا يكون جامعاً لذلك تكون معرفته به بقدره لا بقدر الإمام([19]).

    ———————————————————-

    ([1]) مسكّن الفؤاد للشيخ زين الدين العاملي المعروف بالشهيد الثاني، تحقيق ونشر مؤسّسة آل البيت ^، الطبعة الثالثة، 1412هـ، قم: ص41.

    ([2]) جامع السعادات للشيخ محمد مهدي النراقي، نشر مؤسّسة الأعلمي للمطبوعات، الطبعة السادسة، 1408هـ ، بيروت: ج3 ص285.

    ([3]) ورد عن عليّ ×: «الناس ثلاثة: عالم ربّاني، ومتعلّم على سبيل نجاة، وهمج رعاع، أتباع كل ناعق، يميلونَ مع كلّ ريح…» الخصال، للشيخ الصدوق أبي جعفر محمّد بن علي بن الحسين بن بابويه القمي، صحّحه وعلّق عليه علي أكبر الغفاري، نشر مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم، 1405هـ: ص1.

    ([4]) أصول الكافي، مصدر سابق: ج2 ص93 ح23.

    ([5]) فروع الكافي، مصدر سابق: ج3 ص262 ح45.

    ([6]) انظر الدر المنثور لجلال الدِّين السيوطي، نشر دار المعرفة، الطبعة الأولى، 1365هـ: ج5 ص613.

    ([7]) كشف الغمّة، علي بن عيسى الإربلي، دار الأضواء، بيروت، الطبعة الثانية، 1985م: ج3 ص346.

    ([8]) انظر أصول الكافي، مصدر سابق: ج2 ص88 ح3.

    ([9]) الشحّ أشدّ من البخل، والبخل أشدّ من الحرص.

    ([10]) المراد من الحقوق الشرعيّة خصوص الزكاة الماليّة والبدنيّة والخمس.

    ([11]) مستدرك الوسائل للمحقّق حسين النوري، نشر مؤسّسة آل البيت ^ لإحياء التراث، الطبعة الثانية، 1408هـ: ج15 ص252 ح2.

    ([12]) انظر: معرفة الله، من أبحاث السيّد كمال الحيدري، بقلم: طلال الحسن، دار فراقد، قم: ج1ص188 اليقين البحثي واليقين النصّي.

    ([13]) الميزان في تفسير القرآن، للسيّد العلّامة محمّد حسين الطباطبائي، مؤسّسة إسماعيليان، قم: ج1 ص276.

    ([14]) مستدرك الوسائل، مصدر سابق: ج11 ص210 ح23.

    ([15]) أصول الكافي، مصدر سابق: ج1 ص23 ح15.

    ([16]) في كتابنا: معرفة الله، مصدر سابق: الفصل الثالث (مراتب المعرفة).

    ([17]) الميزان في تفسير القرآن، مصدر سابق: ج1 ص275.

    ([18]) يذكر أنّ كميل بن زياد ـ وهو من خيرة أصحاب أمير المؤمنين عليّ × ـ لم يجبه الإمام × عن سؤاله  ابتداء، فقال &: أو لست صاحب سرّك؟ فقال ×: «ولكن يرشح عليك ما يطفح منّي…»، ثمّ شرع × بالإجابة بعد إلحاحٍ من كميل. انظر شرح الأسماء الحسنى، للملّا هادي السبزواري، مكتبة بصيرتي، قم: ج1 ص131.

    ([19]) ورد عن الرسول الأكرم ’: «يا عليّ لا يعرف الله إلّا أنا وأنت، ولا يعرفني إلّا الله وأنت، ولا يعرفك إلّا الله وأنا»، انظر إرشاد القلوب للحسن بن أبي الحسن الديلمي، دار الشريف الرضيّ: ج2 ص209؛ مشارق أنوار اليقين، للحافظ رجب البرسي، تحقيق السيّد علي عاشور، انتشارات ذوي القربى، الطبعة الأولى، 1422 هـ، قم: ص173.

    • تاريخ النشر : 2015/05/26
    • مرات التنزيل : 4441

  • جديد المرئيات