اشتمل القرآن الكريم على جوانب عديدة يمكن حصرها إجمالاً بما يلي:
(1) الجانب العقائدي.
(2) الجانب الأخلاقي.
(3) الجانب العملي الفقهي (الأحكام الشرعيّة من حلال وحرام…).
(4) الجانب العلمي (بيان جملة من الحقائق الكونيّة في بعديها الآفاقي والأنفسي، الظاهري والباطني).
(5) الجانب اللغوي الإعجازي.
في مجموع هذه الجوانب البالغة الأهميّة طوليّاً يؤدّي الإمام دورين مهمّين هما: دور البيانيّة ودور الحافظيّة.
أمّا الدور الأوّل: فهو الدور الأساسي في بُعده التشريعي وقد صرّح القرآن الكريم به في قوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} (النحل: 44)، ومن الواضح أنّ القرآن الكريم قد اشتمل على جميع الجوانب المتقدّمة ولم يقتصر على الجانب الفقهي، وبذلك يمثّل الإمام مرجعية العالم الأولى في كلّ ما يمتّ بصلة إلى القرآن الكريم وموضوعاته المختلفة.
أمّا الدور الثاني، وهو أيضاً أساسيّ في وظيفته التشريعيّة: فهو يتمثّل بحفظه للقرآن ومنهجه المبيّن من خلاله × في جميع الجوانب المتقدّمة وغيرها ممّا لم نقف عليه، فيصون الشريعة من الانحراف الذي قد يقع من قبل المغرضين وغيرهم.
قد أشار القرآن الكريم إلى هذا الدور الريادي العظيم بقوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (الحجر: 9)، ومن الواضح أنّ حفظ القرآن يحتاج إلى أسباب حقيقيّة مباشرة، وجهة واضحة المعالم، مأمونة الجانب، قادرة على ذلك، وليس هنالك من هو أعظم من الإمام نفسه. كما أنّ الدور الحفظي الذي يؤدّيه لا يقتصر على حفظ متن القرآن ونصوصه؛ فذلك دورٌ قد نهض به الإمام في وقته، وشاع بين المسلمين ما حفظه الله تعالى بواسطته، وهو القرآن الحاضر بين أيادينا، المنتشر في أصقاع الأرض، وإنّما يعمّ حفظه جميع الموارد والمواضيع والجوانب المذكورة آنفاً، فمع أنّ متن القرآن واحد ونصوصه واضحة لجميع المسلمين إلّا أنّهم قد اختلفوا ـ على مرّ العصور ـ فيما بينهم في تفسيره وتأويله، وصارت الأمّة فرقاً ومذاهب قد بلغت بحسب الضبط الروائي
ـ لا التاريخي ـ ثلاثاً وسبعين فرقة كلّها في النّار إلّا واحدة([1])، وهذه الفرقة الناجية إنّما نجت لأنّها حفظت المنهج القرآني والشريعة المقدّسة عن الانحراف، ولولا هذه الفرقة المتمثّلة بأئمّتها أوّلاً وأصالةً وبعلمائها ثانياً ووراثةً لما بقي من الإسلام باقية، ولصار الانحراف هو سمته الأولى، كما هو حال الأديان الأخرى.
وفي ضوء افتراق الأمّة إلى ذلك العدد الكبير يتّضح لنا أنّ حفظ القرآن لم يُوكل إلى الأمّة وإلّا لما بقي من الأمّة ناج، وإنّما أُوكل إلى أئمّة الأمّة الذين نصّبهم الله تعالى وجعلهم حججه في الأرضين، فهم «الفلك الجارية في اللجج الغامرة، يأمن من ركبها، ويغرق من تركها، المتقدّم لهم مارق، والمتأخّر عنهم زاهق، واللازم لهم لاحق…»([2]).
وهذه البيانيّة المعصومة والحافظيّة الدائمة لدين الله القويم لها مجال آخر سنأتي عليه في دوره التكويني الذي في ضوئه ستتّضح لنا ضرورة وجود إمام في كلّ زمان، وأنّ الأرض لا تخلو منه البتّة.
إذا اتّضح لنا الدور التشريعي للإمام في مجال القرآن الكريم ننتقل إلى دوره التشريعي الذاتي باعتباره عدل القرآن الكريم.
إنّ الإمام × هو بنفسه يمثّل السنّة الشريفة في قوله وفعله وتقريره، والسنّة حجّة كالقرآن الكريم بإجماع المسلمين كافّة، وإن كانت تأتي في طوله لا في عرضه. ومن الواضح أنّ دور السنّة الشريفة في التصدّي لبيان الأحكام الشرعيّة الفرعيّة وبيان الفضائل والأخلاق والمطالب العقائديّة ما لا يخفى حضوره وتميّزه، فالصلاة ـ مثلاً ـ لم يتطرّق القرآن الكريم إلّا لوجوبها وتحديد أوقاتها، وأمّا تفصيلاتها الكثيرة جدّاً فقد تصدّت السنّة الشريفة لبيانها، فالسنّة مبيّنة ومتمّمة للأحكام الشرعية الواقعية، ولا تقلّ أهميّة هذا الدور في مجال العقائد رغم أنَّ القرآن الكريم قد تصدّى بشكل ملحوظ جدّاً إلى قضيّة التوحيد والمعاد، ولكنّ الكلام هو الكلام في خصوصيّات وتفصيلات التوحيد والمعاد، فضلاً عن العدل والنبوّة والإمامة، وهكذا في الأخلاق والسلوك.
وبذلك يتّسع دور الإمام التشريعي في مجالَيه البياني والحفظي، فإنّه مبيّن للشريعة وحافظ لها، سواء ما جاء منها في القرآن الكريم أو ما جاء في سنّته الشريفة.
جدير بالذكر أنّ السنّة الشريفة طبقاً لمدرسة أهل البيت ^ تشمل الرسول الأكرم ’ وعِترته الطاهرة المتمثّلين بالأئمّة الاثني عشر، ابتداء من أمير المؤمنين علي × وانتهاء بالإمام المهديّ محمد بن الحسن عجّل الله فرجه الشريف وبمعيّة الصدّيقة الطاهرة فاطمة الزهراء ÷، فهذه الوجودات المعصومة المباركة تمثّل السنّة الشريفة.
بخلاف ذلك ما نجده في المدارس الإسلاميّة الأخرى فإنّها عادة ما تقتصر على سنّة النبي ’، وهذا ما جعلهم يعيشون جوّاً معرفياً خانقاً ووضعاً استدلالياً مربكاً اضطرّهم إلى البحث عن أمارات غير السنّة الشريفة، كالقياس والاستحسان والمصالح المرسلة والعمل بالرأي، لاسيّما بعد طرحهم للأصول العملية عند غياب الدليل، ولم يقتصر هذا الخناق المعرفي ـ الذي اضطرّهم إلى توسيع دائرة السنّة لتشمل الصحابة ـ على مجال الأحكام الشرعيّة، وإنّما ظهر جليّاً أيضاً في التفسير والعقائد، بل وصل بهم إلى مجال الأخلاق والسلوك، فظهرت عندهم مدارس فقهيّة عديدة ومدارس كلاميّة كثيرة ومدارس أخلاقيّة انتهت في معظمها إلى الصوفيّة.
إنّ هذا الفقر والعوز المصادري([3]) في بيان الأحكام والعقيدة والأخلاق والسلوك لم تعانِ منه مدرسة أهل البيت ^ نتيجة التزامها بالثقلين كتاب الله والسنّة المتمثّلة بالنبيّ وعِترته الطاهرين صلوات الله عليهم أجمعين.
ولعلّ ذلك الشتات المعارفي والخناق المصادري الذي نتج عنه ظهور آراء مختلفة ومتضاربة في الفقه والعقائد والأخلاق والسلوك قد اضطرّ القوم إلى غلق باب الاجتهاد لئلّا تتشظّى مدارسهم العلميّة بنحو أكبر، ثمّ دفعوا لهذا الإغلاق المعرفي ثمناً باهضاً جدّاً وهو جعل الأمّة بعلمائها ومتعلّميها أمّة مقلّدة.
وهكذا كان الخروج عن ركب الإمام في دوره التشريعي ثمنه ذلك التشظّي والتفرّق والتقليد المطبق الذي لا يُبقي حجراً معرفيّاً على حجر.
تقدّم أنّ من وظائف الإمام التشريعيّة بيان الأحكام الشرعيّة، وهذا الدور البياني إنّما يكون بالكشف عن الحكم بواسطة القرآن الكريم، أو بلا واسطة؛ باعتباره × واقفاً على الواقع الفعلي للأحكام. فتفصيلات الأحكام وملاكاتها التي لم ترد في القرآن وقد بيّنها الإمام بقول أو بفعل أو بتقرير إنّما هي نتيجة وقوفه التحقّقي على الأحكام وملاكاتها. والسؤال الذي يطرح نفسه هو: هل دور الإمام التشريعي بيانيّ فقط؟ أم هو بيانيّ في موارد وتأسيسيّ في موارد أخرى، بقطع النظر عن النسبة البيانية والنسبة التأسيسية؟
بعبارة أخرى: إنّ الحكم الشرعي يمرّ بمرحلتين، هما:
والأولى تسمّى بمرحلة الثبوت، والثانية بمرحلة الإثبات. فما هو دور الإمام التشريعي؛ هل هو إثباتيّ محض، حيث يُبرز الأحكام المجعولة من قبل؟ أم هو أعمّ فيشمل صورة الجعل أيضاً ولو في موارد محدودة؟
بناءً على حصر دور الإمام بالبيانيّة والكشف، تُنفى عنه الولاية التشريعية. أمّا بناءً على ثبوت صورة الجعل له، فستثبت له الولاية التشريعيّة.
فالولاية التشريعيّة مجالها التأسيس لا البيان، وأمّا التبليغ فمجاله البيان حصراً. ونظراً لأهميّة هذا الموضوع ـ لكونه يتعلّق بخصوصيّة هامّة من خصوصيات الإمام، والدخيلة أيضاً بمعرفتنا بالإمام ـ احتاج الأمر إلى توضيح أكثر، ولو بصورة موجزة.
إنّ الأحكام الشرعيّة تقف خلفها ملاكات خاصّة بها، وهذه الملاكات تعتبر عنصراً أساسياً من عناصر مرحلة الثبوت، فالله سبحانه وتعالى قد لاحظ أوّلاً ـ قبل جعل الحكم ـ الملاك المقتضي للحكم، فلاحظ في أداء الصلاة مصلحة، وفي شرب الخمر وجود مفسدة، وهكذا، وتلك المصلحة تولّد الحبّ وتلك المفسدة تولّد البغض، فالمصلحة والمفسدة هما طرفا ملاكات الأحكام، والحبّ والبغض هما طرفا الإرادة.
فلوجود مصلحة في الصلاة أرادها الله ـ أي أحبّها ـ ثمّ ترجم هذا الحبّ والإرادة بإيجاب الصلاة على المكلّفين؛ حرصاً منه تعالى على عدم فوات هذه المصلحة العظيمة عليهم.
ثمّ احتاج ذلك الجعل إلى إبرازٍ وإعلانٍ وإظهارٍ، وهكذا تكفّل القرآن الكريم بجزء مهمّ، ثمّ جاءت السنّة متمّمة، حيث أظهرت وكشفت ما لم يظهره ويكشف عنه القرآن الكريم.
فالمرحلة الأولى ـ الثبوتية ـ هي عبارة عن ملاك (مصلحة أو مفسدة)، وإرادة (حبّ أو بغض)، وجعل واعتبار، والمرحلة الثانية ـ الإثباتية ـ هي عبارة عن إبرازٍ وإظهارٍ لذلك الجعل الشرعي.
والآن يمكننا أن نصوّر الدور التشريعي أو الولاية التشريعيّة للإمام في جعل الأحكام بوضوح، في ضوء معرفتنا لتينك المرحلتين، ومن الواضح: أنّ المصالح والمفاسد والحبّ والبغض من الأمور التكوينيّة لا تمسّها يد الشارع بما هو شارع ـ لا بما هو مكوّن وخالق ـ فيكون نفس الجعل والاعتبار هو محلّ الأخذ والردّ.
فهل يمكن للإمام أن يقوم بهذا الدور بعد أن يلاحظ ملاك الحكم ويحصل لديه الحبّ إذا كانت هنالك مصلحة، أو بغض إذا كانت هناك مفسدة، فيجعل حكماً مطابقاً للملاك؟([4]).
هنا اختلف الأعلام، بين مثبت ونافٍ، والصحيح هو ثبوت الولاية له في ذلك ولكن ضمن دائرة محدودة.
وإثبات ذلك ممكن عقلاً ونقلاً.
أمّا عقلاً، فإنّ مناط جعل الأحكام هو العلم بملاكات الأحكام، أي الوقوف على المصالح والمفاسد، ونظراً لكون الإمام معصوماً فإنّه سوف يحكم طبقاً لتلك المصالح والمفاسد، نعم، لو لم تكن له القدرة على الوقوف الفعلي على المصالح والمفاسد فإنّه لا يتسنّى له الجعل ـ بل لا يصحّ منه ـ إذا التزمنا بشرطيّة العلم بالملاك، وأمّا إذا اشترطنا العلم بحصول المطابقة بين جعله والملاك فإنّه يكفي في إمكان جعله عصمتُه، ولكنّنا سنلتزم بشرطيّة الوقوف الفعلي على الملاكات لا بشرطيّة العلم بحصول المطابقة فحسب.
وحيث إنّنا نفترض في الإمام أن يكون واقفاً فعلاً على ملاكات الأحكام، فإنّه يمكنه جعل أحكام على طبقها؛ فأهليّة جعل الحكم متوافرة تماماً، فلا ضير من الالتزام بذلك، بل هنالك مصلحة عظيمة تترتّب على الالتزام بمُشرّعياته، كما سيأتي.
أمّا نقلاً، فإنّ هنالك إشارات قرآنيّة إلى هذا المعنى، كما في قول الله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً} (الأحزاب: 36)، وفي قوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيماً} (النساء: 105)، فقوله {بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} فيه إشعار إلى وقوفه الفعلي على ملاكات الأحكام فضلاً عن الأحكام، فيأمره بالحكم في ضوء وقوفه الفعلي ذلك. وممّا يساعد على ذلك أنّه تعالى لم يقل في هذه الآية: لتحكم بين الناس به (أي: بالكتاب المنزل)، وإنّما قال: {بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} فتعمّ دائرة حكمه ’ ما رآه في الكتاب المنزل وما في غيره؛ لعلمه ’ بمناطات الأحكام. وهنالك آيات أخر قد يستفاد منها ذلك أيضاً.
أمّا في السنّة الشريفة فإنّنا نجد تصريحاً بذلك في بعض الروايات، منها:
وهنا نودّ التنبيه إلى أمور ثلاثة، وهي:
الأمر الأوّل: أنّ هنالك فرقاً كبيراً بين ولاية الاتّباع وبين ولاية التشريع الفعلي. فقد خلط جملة من الأعلام بين هذين العنوانين، فعبّروا بالولاية التشريعيّة وأرادوا بها ولاية الاتّباع، واستدلّوا لها بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} (النساء: 59)، فهذه الآية وغيرها التي أمرت بطاعة الله والرسول ’ تثبت حكم الطاعة على الأمّة للرسول ووجوب اتّباعه.
ومن الواضح: أنّ وجوب اتّباع الرسول ’ على الأمّة أمر قد أطبقت عليه الأمّة الإسلاميّة جمعاء؛ إذ لا يبقى معنى لحاكميّته دون إحراز الطاعة منهم.
إذاً، فما نعنيه في المقام ليس وجوب الطاعة والمتابعة بل أصل جعله للأحكام، فمن أثبت الولاية التشريعيّة إنّما يريد بها هذا المعنى لا خصوص الطاعة والاتّباع.
الأمر الثاني: قد يقال: إنّ الموارد التي أُنيطت بجعل أحكام لها إلى الإمام ألم تجعل لها أحكام من قبَلِ الله تعالى؟ وعلى فرض وجود أحكام مسبقة، ما جدوى الجعل الثاني لها من قبل الإمام ؟ فهل هذا إلّا تحصيل للحاصل؟!
الجواب: هو أنّه قد تقدّمت إجابة ضمنيّة على هذا السؤال في رواية زرارة المذكورة آنفاً، حيث جاء في ذيلها: «…ليعلم من يطيع الرسول ممّن يعصيه». فعلّة إناطه جعل جملة من الإحكام إلى الرسول هو ليميز الخبيث من الطيّب، ولئلاّ يقال أو يصاح في حضرته المقدّسة: حسبنا كتاب الله! ولا يقول له بعض: أ مِن عندك هذا أم من عند الله؟!
لقد كانوا يشكّكون في عصمة الرسول ’ وطهارته ويظنّون به الظنون، فلو أذعن هؤلاء بأنّ له ذلك وبإذن من ربّه جلّ وعلا لما تطاولوا عليه، ولعلّهم يعلمون بذلك ولكنّهم قد أخذتهم العزّة بالإثم ونعرات الجاهليّة الأولى فأحدثوا لنا بذلك جاهليّة أخرى.
جديرٌ بالذكر أنّ عدم جعل أحكام من قبَلِ الله تعالى في جملة من الموارد لتترك إلى الإمام لا ينافي علم الله تعالى المسبق بذلك، فعلمه شيء وجعله شيء آخر.
ولولا خشية التطويل في البحث، والتهويل ممّن جهلوا حقيقة الموقف، لبسطنا القول ورفعنا مظلّة البحث كاملة ليتّضح لنا جانب مهمّ وعظيم من شخص الإمام وقدره، ولكنّنا وجدنا أنّ الصبر على هاتا أحجى، فصبرنا وفي العين قذى، وفي الحلق شجا([8]).
الأمر الثالث: قد يقال إنّ هذا الدور التشريعي التأسيسي سيجعل من الإمام مجتهداً، فهل يلتزم القائلون بولايته التشريعيّة بكونه × مجتهداً إن أصاب فله أجران وإن أخطأ فله أجر واحد؟
الجواب: إنّ الاجتهاد يعني استنباط الحكم من مداركه الشرعيّة وهي القرآن والسنّة والعقل والإجماع، فهنالك حكم موجود في هذه المدارك الشرعيّة الأربعة يستنبطه الفقيه بأدوات معرفيّة محدّدة، فهو لا يؤسّس شيئاً وإنّما يكشف بواسطة الدليل عن الشيء وهو الحكم. هذا أوّلاً، وأمّا ثانياً فإنّ الاجتهاد إنّما يكون في صورة غياب الأحكام الواقعيّة عن الفقيه وعدم وقوفه على ملاكات الأحكام فيضطرّ إلى إعمال فكره ورأيه ـ سواء كان له مدرك شرعي، كما هو الحال في مدرسة أهل البيت، أو صار هو المدرك لرأيه في صورة غياب الدليل الشرعي، كما هو الحال في المدارس الأخرى ـ وهذا غير ما نحن فيه، حيث نشترط في الإمام أن يكون عالماً بالأحكام الشرعيّة الواقعيّة في صورة وجودها، وعالماً بملاكات الأحكام في صورة عدم الحكم؛ ليتسنّى له الحكم على طبق الملاك المعلوم له واقعاً.
ومن الغريب جدّاً ـ بل المستهجن أيضاً ـ أن يرى البعض أنّه ليس هنالك أحكام واقعيّة مسبقة، وأنّ الأحكام الواقعيّة يؤسّس لها الفقيه فتكون على طبق ما يحكم به([9])ـ في صورة عدم وجود أحكام شرعيّة واقعيّة معلنة في القرآن الكريم والسنّة الشريفة ـ أو أنّ هنالك أحكاماً واقعيةً ولكنّها في صورة غيابها عن الفقيه فإنّه يحكم في مواردها وأنّ الواقع سوف يتبدّل في ضوء ما حكم به الفقيه([10])، فيدور الواقع مدار قول الفقيه، سواء كان هنالك حكم واقعيّ أو لم يكن.
وموضع استغرابنا واستهجاننا ليس في ذلك ـ رغم الإشكالات التي تعترض هذا المبنى؛ أبرزها الوقوع في دائرة التصويب الفاحش ـ وإنّما في كون هؤلاء يمنحون هذا الدور التأسيسي للفقهاء ويمنعونه عن الرسول الأكرم ’، حيث يعتبرونه مجرّد مبلّغ لا غير!
وينبغي أن يُعلم أنّ هنالك تعبيراً واصطلاحاً آخر يذكر عادة في موارد البحث في الولاية التشريعيّة وهو الهداية التشريعيّة، وقد يبدو لأوّل وهلة عدم الفرق بينهما، إلّا أنّ الصحيح هو وجود فرق يسير ينبغي توضيحه، فإنّ هنالك نسبة عموم وخصوص مطلق بينهما، فكلّ ولاية تشريعيّة هي هداية، وبعض الهداية ولاية تشريعيّة.
توضيح ذلك: إنّ الولاية والهداية تنتهيان إلى هدف واحد وهو إراءة الطريق للمكلّفين، وهذه الإراءة تارةً تكون بالكشف عن شيء قد أُنشئ من قبل وهو الحاصل في الأعمّ الأغلب من مسائل الشريعة ـ سواء كانت في العقائد أو الفقه أو الأخلاق أو السلوك ـ حيث يقوم الإمام هنا بدور البيانيّة فقط، وتارةً أخرى تكون الإراءة بواسطة الكشف عن شيء أنشأه الإمام بنفسه حيث مارس فيه دوره وولايته التشريعيّة.
فإراءة الطريق أمام المكلّفين إمّا أن تكون ببيانيّة محضة لموارد لم يؤسِّس لها البتّة، وإمّا أن تكون ببيانيّة لموارد أسّس لها الإمام في رتبة سابقة، وبذلك يكون الإمام في موردي البيانيّة قد مارس دور الهداية التشريعيّة، ولكن في أحدهما هداية فقط وهو الأكثر، وفي الآخر ولاية وهداية وهو الأقلّ.
ومن الواضح: أنّ الهداية التشريعيّة في ضوء البيانيّة المحضة محلّ وفاق وإجماع المسلمين قاطبة، وأمّا الهداية التشريعيّة في ضوء البيانيّة غير المحضة فهي محلّ خلاف واختلاف بين الأعلام.
فلا يوجد قائل بعدم ثبوت الهداية التشريعيّة للإمام، وإذا ذكر خلاف في مقام فإنّه يكون كاشفاً عن كون المراد به خصوص الولاية لا الهداية، وإن حصل خلط واضح عند جملة من الأعلام في استعمال الاصطلاحين.
وعلى أيّ حال، فإنّ الهداية التشريعية ثابتة للإمام قطعاً، بل هي ثابتة لكلّ مروّج للشريعة، كما هو واضح.
وسوف يكون هنالك تذكير آخر بهذا المطلب الدقيق عندما نبحث الفرق بين الولاية والهداية التكوينيّتين.
—————————————————–
([1]) عن الرسول الأكرم ’ أنّه قال: «ستفترق أمّتي ثلاثاً وسبعين فرقة واحدة منها ناجية والباقون هالكون». انظر: وسائل الشيعة للفقيه المحدّث الشيخ محمد بن الحسن الحرّ العاملي، تحقيق ونشر مؤسّسة آل البيت لإحياء التراث، الطبعة الأولى، 1409 هـ، قم: ج27 ص50 ح30؛ مجمع الزوائد ومنبع الفوائد لنور الدين الهيثمي، دار الكتب العلمية، 1408هـ، بيروت: ج7 ص258؛ الدر المنثور للسيوطي، مصدر سابق: ج2 ص298، ومثّل الفرقة الناجية بالذين ركبوا سفينة نوح، من ركبها نجا ومن تخلّف عنها غرق، ومثل سفينة نوح في الإسلام هم أهل البيت ^. انظر: الدرّ المنثور، مصدر سابق: ج1ص72.
([2]) من أدعية شهر شعبان، مرويّ عن الإمام علي بن الحسين ‘. انظر: مفاتيح الجنان للشيخ المحدّث عباس القمّي &، دار الثقلين، الطبعة الثالثة، 1420هـ، بيروت: ص215.
([3]) نسبة إلى مصادر (جمع مصدر).
([4]) وحيث إنّه عالم بحدود المصلحة فإنّه يجعل حكماً وجوبيّاً أو استحبابيّاً طبقاً لحدود المصلحة، وهكذا في المفسدة فيجعل حرمةً أو كراهةً، ثمّ يقوم بإبراز جعله للأمّة المأمورة باتّباعه.
([5]) أصول الكافي، مصدر سابق: ج1 ص267 ح7.
([6]) المصدر السابق: ج1 ص267 ح8.
([7]) المصدر السابق: ج1 ص267 ح6.
([8]) إشارة إلى كلمات أمير المؤمنين علي × بعد أن أقصي عن خلافته السياسيّة حيث كان يقول: «…فرأيت أنّ الصبر على هاتا أحجى، فصبرت وفي العين قذى، وفي القلب شجاً، أرى تراثي نهباً». نهج البلاغة نسخة المعجم المفهرس، مؤسّسة النشر الإسلامي، الطبعة الخامسة، 1417هـ، قم: ج1 ص31.
([9]) ينسب هذا القول إلى الأشاعرة. انظر: دروس في علم الأصول، الحلقة الثالثة، للسيّد الشهيد محمّد باقر الصدر، مؤسّسة النشر الإسلامي: ص14ـ15، موضوع شمول الحكم للعالم والجاهل.