العصمة
ثمّ بحوث كثيرة في قوله تعالى: (إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ…) لا سيّما فيما يرتبط ببحث الإرادة.
جدير بالذكر أنّ لفظ (إنّما) من أدوات الحصر، كما نصّ على ذلك علماء اللغة العربية، فتدلّ على حصر إرادته تعالى بإذهاب الرجس عن هؤلاء البررة وتطهيرهم، فلا إرادة له تعالـى خـلاف هذه، كمـا قال الراغـب فـي قـوله تعالـى: (إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ…)(1)، (أي ما حرّم إلاّ ذلك)(2).
قال ابن حجر الهيثمي:
(ثمّ هذه الآية منبع فضائل أهل البيت النبوي، لاشتمالها على غرر مآثرهم، والاعتناء بشأنهم، حيث ابتدأت بـ(إنّما) المفيدة لحصر إرادته تعالى في أمرهم على إذهاب الرجس الذي هو الإثم أو الشكّ فيما يجب الإيمان به عنهم، وتطهيرهم من سائر الأخلاق والأحوال المذمومة، وسيأتي في بعض الطرق تحريمهم على النار، وهو فائدة ذلك التطهير وغايته…)(3).
أمّا لفظ الإرادة فهي ومشتقّاتها من الألفاظ القرآنية الكثيرة الاستعمال فيه، وهي أيضاً من الألفاظ الشائعة في المحاورات العرفية.
واصطلح الأصوليون على تقسيم الإرادة إلى:
1ـ تكوينية، وهي: إرادة الشخص صدور الفعل عنه بنفسه، من دون تخلّل إرادة غيره في صدوره، كما في إرادة الله تعالى خلق العالم، وإيجاد الأرض والسماء، وكإرادتك أكلك وشربك وصلاتك وصيامك.
2ـ تشريعية، وهي: إرادة الشخص صدور الفعل من غيره، بإرادته واختياره، كما في إرادة الله تعالى صدور العبادات والواجبات من عباده، باختيارهم وإرادتهم، لا مجرّد حصولها بأعضائهم، وصدورها بأبدانهم بدون تخلّل القصد منهم، وكما في إرادتك صدور الفعل من ابنك وخادمك بلا إجبار منك وإلجاء(4).
قال الطباطبائي:
(للمشيئة والإرادة انقسام إلى الإرادة التكوينية الحقيقية، والإرادة التشريعية الاعتبارية.
فإنّ إرادة الإنسان التي تتعلّق بفعل نفسه نسبة حقيقية تكوينية، تؤثّر في الأعضاء الانبعاث إلى الفعل، ويستحيل معها تخلّفها عن المطاوعة، إلاّ لمانع.
وأمّا الإرادة التي تتعلّق منّا بفعل الغير، كما إذا أمرنا بشيء أو نهينا عن شيء، فإنّها إرادة بحسب الوضع والاعتبار، لا تتعلّق بفعل الغير تكويناً، فإنّ إرادة كلّ شخص إنّما تتعلّق بفعل نفسه من طريق الأعضاء والعضلات.
ومن هنا كانت إرادة الفعل أو الترك من الغير لا تؤثّر في الفعل بالإيجاد والإعدام، بل تتوقّف على الإرادة التكوينية من الغير بفعل نفسه، حتّى يوجد أو يترك عن اختيار فاعله لا عن اختيار آمره وناهيه…)(5).
وحينئذ يصبح الفارق الرئيسي بين هذين القسمين هو تخلّل إرادة اختيارية بين المريد وتحقّق الفعل المراد، وعدم تخلّلها في ذلك. فمتى كان بإمكان إرادة الطرف الآخر أن تحول بين الفعل ومريده، كانت تلك الإرادة من القسم الثاني ـ أعني التشريعية ـ، وإلاّ فهي من القسم الأوّل أي التكوينية.
من هذه القسمة الحاصرة للإرادة، والدائرة بين النفي والإثبات، يتّضح لنا عدم إمكان قسم ثالث لها.
ويتّضح أيضاً عدم إمكان تخلّف الإرادة عن تحقّق الفعل المراد خارجاً في الحالة الأولى، وذلك لكون الإرادة على أقلّ التقادير هي الجزء الأخير من العلّة، وأنّ استحالة تخلّف المعلول عن العلّة من البديهيات. وهذا بخلاف الحالة الثانية لها، حيث يمكن فيها عدم تحقّق الفعل خارجاً من خلال إرادة الغير المتوسّطة بينها وبين الفعل، كما في حالات عصيان التشريع وعدم امتثاله.
وفي الواقع فإنّ كلا القسمين من الإرادة يستحيل تخلّفه عن المراد، بيد أنّ المراد ومتعلّق الإرادة مختلف فيهما، فهو في القسم الأوّل التحقّق الخارجي للفعل، أمّا في القسم الثاني فتشريعه للمكلّفين، فمتى ما شاء تشريع الحكم فلا يعقل تخلّف ذلك.
قال في الأصول العامّة للفقه المقارن:
(وهي يعني التكوينية والتشريعية وإن كانت من حيث استحالة تخلّف المراد عنها واحدة، إلاّ أنّها تختلف بالنسبة إلى المتعلَّق، فإن كان متعلَّقها خصوص الأمور الواقعية من أفعال المكلّفين وغيرها، سمّيت تكوينية، وإن كان متعلَّقها الأمور المجعولة على أفعال المكلّفين من قِبَل المشرّع سمّيت إرادة تشريعية)(6).
أمّا فيما يرتبط ببحثنا فربّما يقال إنّ الإرادة في قوله تعالى: (إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ…)، هي من القسم الثاني ـ أعني التشريعية ـ فيكون المعنى: (إنّما شرّعنا لكم أهل البيت الأحكام لنذهب عنكم الرجس ونطهّركم).
ولكن هذا التفسير للإرادة يتنافى مع الحصر المستفاد من كلمة (إنّما)، إذ من الواضح أنّ الغاية من تشريع الأحكام إذهاب الرجس عن جميع المكلّفين لا عن خصوص أهل البيت، ولا خصوصية لهم في تشريع الأحكام، وليست لهم أحكام مستقلّة عن أحكام بقيّة المكلّفين.
على أنّ حملها على الإرادة التشريعية يتنافى أيضاً مع اهتمام النبيّ صلّى الله عليه وآله بأهل البيت عليهم السلام، وتطبيق الآية عليهم بالخصوص، كما يأتي ذلك لاحقاً.
كما أنّ حملها على التشريعية يبعدها عن كونها منقبة للمخاطبين بها من أهل البيت; لأنّها تكون إنشاءً وطلباً للتطهير وإذهاب الرجس من المخاطبين بها، وهذا خلاف ما أجمع عليه المفسّرون في فهم هذه الآية المباركة، من أنّها بصدد الإخبار عن منقبة وفضيلة لأهل البيت، لهذا نجد النزاع قائماً فيما بينهم في شأن نزولها، ويحاول كلّ فريق إثبات نزولها في قوم دون آخرين.
وهذا خير شاهد على أنّ الآية ليست بصدد الإنشاء والطلب، كما يحاول مدّعو الإرادة التشريعية، بل هي إخبار عن أمر خارجي، وهذا لا ينسجم إلاّ مع الإرادة التكوينية.
قال الطبرسي:
(فلا تخلو الإرادة في الآية أن تكون هي الإرادة المحضة، أو الإرادة التي يتبعها التطهير وإذهاب الرجس.
ولا يجوز الوجه الأوّل، لأنّ الله تعالى قد أراد من كلّ مكلّف هذه الإرادة المطلقة، فلا اختصاص لها بأهل البيت دون سائر الخلق، ولأنّ هذا القول يقتضي المدح والتعظيم لهم، بغير شكّ ولا شبهة، ولا مدح في الإرادة المجرّدة، فثبت الوجه الثاني)(7).
وقال الطباطبائي في الميزان:
(ويكون المراد بالإرادة أيضاً غير الإرادة التشريعية، لما عرفت أنّ الإرادة التشريعية، التي هي توجيه التكاليف إلى المكلّف، لا تلائم المقام أصلاً)(8).
وكلّ هذا شاهد بأنّ هذه الآية المباركة تمثّل منقبة كبيرة، وتشير إلى مزيد فضل لمن نزلت في حقّه.
وإذ لم يمكننا حمل الإرادة على التشريعية فلابدّ من حملها على التكوينية، لأنّ القسمة حاصرة فيهما.
_________________
(1) سورة البقرة: 173.
(2) المفردات، مصدر سابق، ص27.
(3) الصواعق المحرقة، أحمد بن حجر الهيتمي المكّي، مكتبة القاهرة، مصر، ص144.
(4) اصطلاحات الأصول، الشيخ الميرزا عليّ المشكيني، مطبعة الهادي، قم، إيران، ط5، 1413هـ، ص29.
(5) أصول الكافي، مصدر سابق، ج1، ص151، تعليقة رقم1.
(6) الأصول العامّة للفقه المقارن، مصدر سابق، ص149.
(7) مجمع البيان، أبو علي الفضل بن الحسن الطبرسي، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، ط1 1415هـ / 1995م، ج8، ص159.
(8) الميزان، مصدر سابق، ج16، ص313.