دلائل استمرار الإمامة وديموميتها
يمكن الاستدلال على إثبات هذه الحقيقة من خلال الآيات القرآنيّة أوّلاً، ومن طريق الروايات ثانياً.
الطريق الأوّل: الآيات القرآنيّة
الآية الأولى: قوله تعالى: (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنّي جَاعِلٌ فِي الأرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدّسُ لَكَ قَالَ إِنّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ)(1) . أشارت هذه الآية المباركة إلى:
أوّلاً: أنّ هذا الخليفة أرضي، وهو موجود في كلّ زمان، والدال على ذلك قوله: (جَاعِلٌ) لأنّ الجملة الاسميّة، وكون الخبر على صيغة (فاعل) التي هي بمنزلة الفعل المضارع، تفيد الدوام والاستمرار، مضافاً إلى أنّ الجعل في اللغة، كما يقول الراغب في المفردات، له استعمالات متعدّدة ومنها (تصيير الشيء على حالة دون حالة)(2)، وهذا ما أكّده جملة من المفسرين، كالرازي في (التفسير الكبير)(3) والآلوسي في (روح المعاني)(4)، وعندما يقارن هذا الجعل بما يناظره من الموارد في القرآن الكريم نجد أنّه يفيد معنى السنّة الإلهيّة كقوله تعالى: (جَعَلَ لَكُم مِمَّا خَلَقَ ظِلالاً)، (وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً) ونحوهما.
ثانياً: إنّ هذا الخليفة ليس هو مطلق الإنسان فيكون من قبيل قوله تعالى: (هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الأرْضِ فَمَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ)(5). وإنّما المقصود به إنسان بخصوصه، وذلك بقرينة الآيات اللاحقة التي أثبتت أنّ هذا الموجود الأرضي إنّما استحقّ الخلافة الإلهيّة لأنّه عُلِّم الأسماء كلّها مباشرة منه تعالى: (وَعَلَّمَ آدَمَ الأسْمَاءَ كُلَّهَا)، ثمّ صار واسطة بينه تعالى وبين ملائكته (يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَائِهِمْ) ومن الواضح أنّه لا يمكن أن يراد به كلّ إنسان حتّى أولئك الذين عبّر عنهم القرآن الكريم بقوله تعالى: (أُولَئِكَ كَالأنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ)(6)، إذن فهذه الآية تدل على ضرورة استمرار الخلافة الإلهيّة، أمّا من هو ذلك الخليفة في كلّ زمان فله بحث آخر، سنعرض له لاحقاً.
الآية الثانية: قوله تعالى لإبراهيم الخليل (عليه السلام): (إِنّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً)(7)، وهذه الإمامة هي غير النبوّة والرسالة التي كانت لإبراهيم (عليه السلام). والشاهد على ذلك:
1 : (طلب الإمامة للذريّة حيث قال: (وَمِن ذُرّيَّتِي)، ومن الواضح أنّ حصول إبراهيم (عليه السلام) على الذريّة كان في كبره وشيخوخته، كما قال: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ)(8)، وحكى سبحانه عن زوجة إبراهيم: (قَالَتْ يَا وَيْلَتَى ءَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ)(9). ولا يصح هذا الطلب إلاّ لمن كان عنده ذريّة، أمّا من كان آيساً من الولد ويجيب مبشّريه بقوله: (أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَن مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُون)(10)، فلا يصح منه والحالة هذه أن يطلب أي شيء لذريّته)(11). ولو كان ذلك في أوائل حياته وقبل أن يرزق الذريّة، لكان من الواجب أن يقول: (ومن ذريّتي إن رزقتني ذريّة)، وإلاّ لزم منه أن يخاطب الخليل (عليه السلام) ربّه الجليل بما لا علم له به، وهذا ما يتنزّه عنه مقام إبراهيم الخليل (عليه السلام).
2 : (إنّ قوله تعالـى: (وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَات فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً)(12) يدل على أنّ هذه الإمامة الموهوبة إنّما كانت بعد ابتلائه بما ابتلاه الله به من الامتحانات، وليست هذه إلاّ أنواع البلاء التي ابتُلي (عليه السلام) بها في حياته، وقد نصّ القرآن على أنّ مِن أوضحها قضيّة ذبح إسماعيل (عليه السلام)، قال تعالى: (قَالَ يَابُنَيَّ إِنّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنّي أَذْبَحُكَ) إلى أن قال: (إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ)(13),( 14).
وهذا ما أكدته جملة من الروايات الصحيحة الواردة في المقام. عن الإمام الصادق (عليه السلام) في حديث مطوّل يقول فيه: (وقد كان إبراهيم عليه السلام نبيّاً وليس بإمام حتّى قال الله (إِنّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً)(15). وهذه الإمامة التي ثبتت لإبراهيم (عليه السلام) طلبها لذريّته من بعده، حيث قال: (وَمِن ذُرِّيَّتِي) وقد استجاب الحقّ سبحانه دعاءه، ولكن لم يجعلها في الظالمين من ذريّته، وإنّما في غيرهم, يقول الرازي في ذيل هذه الآية: (وقوله: (وَمِن ذُرِّيَّتِي) طلب للإمامة التي ذكرها الله تعالى، فوجب أن يكون المراد بهذا العهد هو الإمامة، ليكون الجواب مطابقاً للسؤال، فتصير الآية كأنّه تعالى قال: (لا ينال الإمامة الظالمين، وكل عاص فإنّه ظالم لنفسه) فكانت الآية دالّة على ما قلناه.
فإن قيل: ظاهر الآية يقتضي انتفاء كونهم ظالمين ظاهراً وباطناً، ولا يصح ذلك في الأئمّة والقضاة.
قلنا: أمّا الشيعة، فيستدلّون بهذه الآية على صحّة قولهم في وجوب العصمة ظاهراً وباطناً. وأمّا نحن فنقول: مقتضى الآية ذلك. إلاّ أنّا تركنا اعتبار الباطن فتبقى العدالة الظاهرة معتبرة)(16). لكن لم يبيّن لنا الرازي، لماذا ترك ما دلّت عليه الآية من وجوب العصمة ظاهراً وباطناً، واكتفى بالعدالة الظاهريّة، مع اعترافه بدلالة الآية على ذلك، وكيف كان (سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْألُونَ)(17). ومن الواضح أنّ استجابة دعائه في ذريّته، لا يختص بالصلبيين فقط، بل هو شامل لجميع ذريّته شريطة أن لا يكون ظالماً. وهذا ما أكّده الإمام الرضا (عليه السلام) بقوله: (إنّ الإمامة خصّ الله عزّ وجلّ بها إبراهيم الخليل عليه السلام بعد النبوّة والخلّة مرتبة ثالثة، وفضيلة شرّفه بها وأشاد بها ذكره، فقال: (إِنّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً)، فقال الخليل عليه السلام سروراً بها: (وَمِن ذُرّيَّتِي) قال الله تبارك وتعالى: (لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) فأبطلت هذه الآية إمامة كلّ ظالم إلى يوم القيامة وصارت في الصفوة، ثمّ أكرمه الله تعالى بأن جعلها في ذريّته أهل الصفوة والطهارة، فقال: (وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلاًّ جَعَلْنَا صَالِحِينَ ٭ وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ)(18)، فلم تزل في ذريّته يرثها بعض عن بعض، قرناً فقرناً، حتّى ورّثها الله تعالى النبي صلى الله عليه وآله فقال جلّ وتعالى: (إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ)(19) فكانت له خاصّة، فقلّدها عليّاً عليه السلام بأمر الله تعالى على رسم ما فرض الله، فصارت في ذريّته الأصفياء الذين آتاهم الله العلم والإيمان بقوله تعالى: (وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ)(20) فهي في ولد علي عليه السلام خاصّة إلى يوم القيامة)(21).
_________________________
(1) البقرة: 30.
(2) المفردات في غريب القرآن، ص 94، مادّة (جعل).
(3) التفسير الكبير، ج 2، ص 165.
([4]) روح المعاني، ج 1، ص 220.
(5) فاطر: 39.
(6) الأعراف: 179.
(7) البقرة: 124.
(8) إبراهيم: 39.
(9) هود: 72.
(10) الحجر: 54.
(11) العصمة، مصدر سابق، ص 32.
(12) البقرة: 124.
(13) الصافات: 106.
(14) الميزان في تفسير القرآن، ج 1، ص 268.
(15) الأصول من الكافي، ج 1، ص 174.
(16) التفسير الكبير، ج 4، ص 42.
(17) الزخرف: 19.
(18) الأنبياء: 73.
(19) البقرة: 68.
(20) الروم: 56.
(21) الأصول من الكافي، ج 1، ص 199، باب في فضل الإمام وصفاته.