بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين
والصلاة والسلام على محمد واله الطيبين الطاهرين
في المقدمة أشير إلى ملاحظتين سريعتين:
الملاحظة الأولى: كما قلت مراراً وأؤكد مرة أخرى أن بحث الوضع يعد من الأبحاث الأساسية في علم الأصول، أساساً في نظرية المعرفة عموماً، ليس آثار وثمرات وفوائد بحث الوضع مختصة بالبحث الأصولي أو الفقه، افترضوا أننا نقرأ نظرية المعرفة وفلسفة اللغة والوضع وهي جداً مهمة. ولذا السيد الخوئي في (الدراسات، المجلد الأول، ج1) يقول: (هذا وإنما أطلنا الكلام في حقيقة الوضع لأنه يترتب عليه ثمرات مهمة) القضية لا يتبادر إلى الذهن أن الثمرة تظهر فيما لو نذر، قضية واقعية عقلية مهمة، ثم يشير إلى بعض الثمرات، إذن القضية مهمة فلذا لا يتبرم الأعزاء من تأخرنا في هذا البحث، وأنا إن شاء الله في كل مناسبة أبين ثمرة. هذه هي الملاحظة الأولى.
الملاحظة الثانية: نحن بالأمس أشرنا إلى أن كلام السيد الخوئي في الشق الأول بأنه يفترض الإمكان ويبطل ذلك من خلال اللازم الباطل.
حتى تتضح هذه القضية ونحن قلنا أنه أساساً القضية في نفسها غير ممكنة، حتى يتضح هذا أضرب مثالاً.
لو جاء شخص وفرض انعدام الصادر الأول، قال: أن الصادر الأول معدوم لأنه الصادر الأول ممكن أو ليس بممكن؟ ممكن، ويمكن أن يوجد ويمكن أن لا يوجد، يعني تتساوى نسبته إلى الوجود، فأنت افرض عدمه كما تفرض وجوده، فرض عدمه ممكن أو ممتنع؟ ممكن. ولكنه لازمه ما هو؟ لازمه أيضاً ممكن أو أن لازمه باطل؟ لازمه ممتنع لأن لازمه هو عدم وجود الحق تعالى لأن هو العلة التامة لوجوده، فنقول ويستحيل عدم الصادر الأول لا لذاته بل لما يلزم منه وهو انعدام العلة التامة. وهذا الذي عبر عنه السيد الطباطبائي في (نهاية الحكمة، ص48) قال: (وربما أطلق الإمكان وأريد به كون الشيء بحيث لا يلزم من فرض وقوعه محال) يعني بعض الأشياء في نفسها ممكنة, ولكن يلزم من فرضها محال، وبعضها لا يلزم من فرضها محال.
نرجع إلى أصل البحث.
تقدم الكلام عن الإشكال الأول الذي ذكره سيدنا الأستاذ السيد الخوئي على كلام المحقق العراقي وما أجيب عليه في كلمات السيد الشهيد والسيد الروحاني وما قلناه تعليقاً على كلمات هذين العلمين وكلمات السيد الخوئي.
الإشكال الثاني: هو ما ذكره سيدنا الشهيد الصدر+ في تقريرات بحثه، لا إشكال ولا شبهة – للاستذكار- مبنى المحقق العراقي في الوضع أن هناك علاقة واقعية نفس أمرية بين اللفظ وبين المعنى، وفهم السيد الشهيد لكلام العراقي أن الجاعل بالاعتبار وضع هذه العلاقة على هذه العلاقة الواقعية، وعلى هذا الأساس السيد الشهيد يشكل، أنا أبين انطلاقة الإشكال، يعني على أي أساس يشكل، يقول بأنه اعتبر العلاقة الواقعية النفس الأمرية ما بين اللفظ وما بين المعنى. هنا يقول أنه هنا في المقام اعتبر العلاقة الواقعية يوجد فيه احتمالان:
الاحتمال الأول: هو أنه جعل اللفظ الذي ليس فيه سببية ذاتية للكشف عن المعنى أعطاه السببية الذاتية. يعني أنا عندما أضع يدي على الماء لا توجد فيه سببية للحرارة ولكن الجاعل يجعل فيه السببية للحرارة. فالجاعل ماذا فعل؟ أوجد السببية في اللفظ إذا تُصور ينتقل الإنسان إلى المعنى. هذا هو الاحتمال الأول. يقول: وهذا الاحتمال باطل جزماً، لا أنه لا يتحقق بالاعتبار بل لا يتحقق بالتكوين أيضاً لأن القضايا الذاتية غير قابلة للجعل، لا فقط بالاعتبار بل حتى في التكوين. القضايا الذاتية ذاتية وذاتي الشيء يعلل أو لا يعلل؟ وذاتي الشيء لم يكن معللاً، أصلاً علة لا يتحمل، وإذا قلنا جعلت الذاتية هذا معناه أنه تحمل العلية. يعني واقعاً هل يمكن لموجود أن يجعل الأربعة زوجاً، أصلاً ممكن أو غير ممكن؟ لماذا؟ لأن الزوجية حقيقة الأربعة، ذاتية للأربعة، لازم ذاتي للأربعة.
إذن لا فقط أن هذا الأمر لا يمكن أن يتحقق بالاعتبار بل لا يمكن أن يتحقق بالتكوين فما بالك الاعتبار. حتى نقرأ عبارات السيد الشهيد+.
طبعاً هذا المعنى إجمالاً أشار إليه في (تقريرات السيد الهاشمي، ج1، ص74) يقول: (ولكن الصحيح رفض ما افترض من إمكان إيجاد السببية الواقعية) لأن المحقق العراقي يقول توجد سببية واقعية بين اللفظ والمعنى (بين شيئين بمجرد الوضع والجعل فإن السببية صفة ذاتية للسبب الحقيقي فلا يمكن جعلها تكويناً لما ليس بسبب فضلاً عن وضعها تشريعاً واعتباراً) هذه في الأمور التكويني غير معقولة فما بالك في الأمور الاعتبارية.
هذا المعنى بشكل واضح أيضاً أشار إليه في (مباحث الأصول، تقريرات السيد الحائري) يقول: (فإن قصد الأول) مراده من الأول يعني الاحتمال الأول الذي اشرنا إليه (قلنا من الواضح أن السببية في ذات الأسباب لا تقبل الجعل وإنما هي ذاتية لها تنبع من حاق ذاتها ولا يمكنك أن تجعل الماء مثلاً سبباً للحرارة على حد سببية النار للحرارة) لماذا؟ لأن الماء حقيقة فيه حرارة أو لا توجد فيه حرارة، فلا يعقل أن يجعل فيه الحرارة، والعكس كذلك، فلا يعقل للنار أن تجعل فيها خصوصية المائية، أبداً. لأن النار حقيقتها تنبع منها الحرارة، لازم ذاتي لها.
وأوضح من الموضعين معاً ما أشار إليه في (تقريرات الشيخ حسن عبد الساتر، ج2، ص47) البحث هناك مفصلاً، قال: (فإن أريد في المقام بجعل السببية الذاتية في اللفظ بحيث يجعله) يعني يجعل اللفظ (بذاته سبباً لهذا المعنى المخصوص بعد أن لم يكن سبباً فهذا أمر مستحيل) لماذا؟ (لأن السببية الذاتية حيث أنها من خواص الأسباب الذاتية يستحيل أن تكون مجعولة بجعل مستقل وإذا استحال وضع وجعل السببية تكويناً لما ليس بسبب فيستحيل جعلها تشريعاً أو اعتباراً). هذا الاحتمال الأول.
إذن هذا الاحتمال لا يعقل وغير معقول في نفسه.
الاحتمال الثاني: وهو أن الجاعل، نحن الآن بحثنا في الجعل الاعتباري، أن الجاعل لا يتصرف في ذاتيات الأشياء حتى يقال له بأنه يمكن التصرف أو لا يمكن؟ لا يمكن. وإنما يوجد في الشيء وصفاً يكون ذلك الوصف سبباً للانتقال إلى المعنى، يعني لا أن اللفظ يجعله سبباً ذاتياً لأي شيء؟ لا يجعل اللفظ سبباً ذاتياً للدلالة على المعنى، لأن هذا غير قابل للجعل، وإنما هذا اللفظ بنفسه فيه دلالة ذاتية على المعنى أو ليس فيه دلالة؟ ليس فيه دلالة، ولكن يجعله بنحو يعطيه وصف عرضي يجعله دالاً على المعنى. أضرب لكم مثالاً كما هو يضرب السيد الشهيد، يقول: لو جئنا إلى النار الحرارة وصف ذاتي لها غير قابل للجعل، ولكن الماء الحرارة وصف ذاتي لها؟ لا. فأنت جئ بالماء وضع الماء على النار فتنتقل الحرارة من النار إلى الماء فيتصف الماء بحرارة ذاتية أو عرضية وصفية؟ وصفية، عند ذلك يمكنك أن تنسب الحرارة إلى الماء مع أنها وصف ذاتي أو ليس وصفاً ذاتياً؟ كذلك يجعل في اللفظ وصف بسبب هذا الوصف يكون كاشفاً عن … إذن اللفظ بما هو في ذاته كاشف أو غير كاشف؟ غير كاشف، هذا ما يعبر عنه السيد الحائري أو الشيخ حسن عبد الساتر بالسببية العرضية، والأول يعبرون عنه بالسببية الذاتية, اتضح الاصطلاح ما هو المراد بالسببية العرضية في المقام، السيد الحائري في (ص98) يقول: (أو يقصد بذلك جعل السببية العرضية للفظ، بمعنى أنه يوجد في اللفظ) لا نفس اللفظ (ما هو سبب ذاتاً للانتقال إلى المعنى) ليس اللفظ بما هو لفظ بل (هو الوصف العارض على اللفظ من قبيل جعل الماء سبباً عرضياً للحرارة بمعنى أن يوجد فيه ما هو سبب للحرارة، وذلك بجعل الماء على النار لكي يكسب الحرارة ويكون الماء سبباً بالعرض للحرارة) والسبب الحقيقي لها هي نفس الحرارة، نفس ذلك الوصف. هذا من قبيل ما قرأناه في الفلسفة وهو أنه البياض أبيض بالذات أما الجسم أبيض بذاته أو بسبب البياض العارض عليه، كذلك في المقام ليس اللفظ بذاته يكشف عن المعنى ويدل على المعنى، بل بسبب هذا الوصف العرضي الذي أعطاه الجاعل للفظ حتى يدل على المعنى.
سيدنا هذا الاحتمال ما هو إشكاله، يقول: هذا الاحتمال معقول لا مشكلة فيه، هذا الاحتمال الثاني معقول، ولكن المحقق العراقي لم يبين لنا ما هو الوصف العرضي الذي صار سبباً للانتقال إلى المعنى.
هذا المعنى في (ص47) يقول: (فهذا أمر معقول في المقام وهو أن نوجد في اللفظ خصوصية زائدة وببركتها يصبح اللفظ سبباً بالعرض وتلك الخصوصية ببركتها أصبح اللفظ سبباً بالعرض للمعنى) هذه الخصوصية لم يبينها هذا المسلك، المحقق العراقي لم يقل لنا ماذا أعطيت للفظ حتى صار كاشفاً عن المعنى؟
إذن ملخص إشكال السيد الشهيد في جملتين: يقول: إما مراده من أنه يجعل السببية يجعل السببية الذاتية، الجواب: هذا محال في التكويني فضلاً عن الاعتباري. وإما مراده أنه يعطي للفظ سببية لا ذاتية بل سببية عرضية حتى يكون الماء حاراً حتى يكون اللفظ دالاً على المعنى، هذا أمر معقول ولا استحالة فيه إلا أنه ما هو ذلك الشيء الذي وضعه الجاعل في اللفظ حتى صار بهذه الخصوصية. لابد أن نعرف ماذا فعل له، في الماء أعطاه الحرارة فصار حاراً، في الجدار أعطاه البياض فصار أبيضاً، أما في اللفظ ماذا أعطاه حتى صار كاشفاً عن المعنى؟
هذا كلام أستاذنا السيد الشهيد الصدر.
الآن تعالوا إلى الملاحظات، في مقام الجواب عن كلمات وإشكالات السيد الشهيد، أول إشكال وهو أنه فرض – كالسيد الخوئي، يعني تبعاً لسيده الأستاذ- أنه المحقق العراقي قائل بأنه جعل السببية الواقعية، ونحن عندما قررنا كلام المحقق العراقي قلنا جعل السببية الواقعية أو جعل مفهوم الملازمة، وكل الإشكال تنشأ من هنا. فرض أنه يجعل السببية الواقعية، قال: السببية الواقعية غير قابلة للجعل تكويناً فضلاً عن أن تكون مجعولة اعتباراً. هذه الملاحظة ا لأولى، وهي أنه أساساً المحقق العراقي بتعبيرنا لم يدع أنه جعل قال طريقاً وقال مقدمة، إذا تتذكرون وقد قرأنا العبارات ولا نحتاج إلى التكرار، قال طريقاً إلى السببية الواقعية. مقدمة للسببية الواقعية، وهذا ما عبر عنه بالمقدمة المعدة، شرط، عبروا عنها ما شئتم، هذا أولاً.
وثانياً: أن السيد الشهيد أشار إلى مسألتين، الآن لا ندخل فيهما موكولة إلى الأبحاث الفلسفية في محلها، وهو أنه واقعاً إعطاء الشيء خصوصية، إعطاء النار خصوصية الحرارة هذه ذاتية كالزوجية للأربعة حتى لا تكون قابلة للجعل أو أنها مجعولة جعلاً تكوينياً أي منهما؟ إذا تتذكرون فيما سبق قلنا يوجد رأيان، إذن لابد أن نعرف مبنى السيد الشهيد ما هو؟ هذه قضية محل بحثها في محله.
ومسألة ثانية فلسفية، طبعاً هذه المناقشة … لا يقال: أن هذه المناقشة في الأمثلة. نعم، هذه المناقشة في الأمثلة ولكن أريد أن أنبه ذهن الأعزاء، والمناقشة في المثال ليست من دأب المحصلين، نعم كله صحيح، ولكن أريد أن أقول أن هذه الأمثلة التي ضربها ليست متفق عليها بل هي محل الكلام، لأن كثير من الأعزاء يفهم المطالب من خلال المثال فإذا تبدل المثال المطلب كله يضيع عليه، أنا أريد أن أناقش المثال. هذا واحدة.
والثانية في مسألة العرض، وهو أنه جنابك عندما تضع الماء على النار فيكون الماء … هذه الحرارة من أين جاءت للماء، بالذهن الأولي العرفي أن الحرارة انتقلت من النار إلى الماء. هذا ممتنع عقلاً، لأن الحرارة عرض والعرض قابل للانتقال أو ليس قابل للانتقال؟ وإلا لو انتقلت الحرارة للزم بقاء العرض بلا موضوع في آن واحد، لأن آن الاتصال غير آن الارتباط، آن الانفصال … هذا عرض كان قائماً بالنار الآن يريد أن ينقطع عنه ويرتبط بالماء، لما صار آن الانفصال غير آن الاتصال إذن آناً ما يبقى العرض بلا جوهر ويعقل أن يكون العرض بلا جوهر؟ من هنا وجدت نظرية تسمى بنظرية الكمون، يقولون أن الحرارة لا تأتي للماء من الخارج. نعم، الحرارة كامنة في الماء ولكن ببركة النار يخرج ما كان باطناً فيكون ظاهراً، هناك بحث مفصل.
إذن هذه الأمثلة التي ضربها السيد الشهيد سواء في السببية الذاتية أو في السببية العرضية فيها كلام كثير عند أعلام الحكماء، الآن ليس بحثنا فقط أنا أردت أن أنبه ذهنك إلى أن الأمثلة فيها كلام كثير.
وأما المناقشة الثانية – إن صح التعبير- تلك كانت مناقشة في المثل.
وأما المناقشة الثانية: سيدنا هذا كلامنا موجه للسيد الشهيد، سيدنا أن الجاعل والواضع لم يضع لا السببية الذاتية ولا السببية العرضية، ملخص مفيد. لم يضع لا هذا ولا هذا، أصلاً خارج عن قدرته لأن وضعه وضع اعتباري جعل اعتباري لا يستطيع لا أن يجعل الأول ولا أن يجعل الثاني. إذن ماذا فعل؟ كل الذي فعله هو هذا، وهو أنه حقق موضوعاً يوجد هناك نظام في التكوين أوجد السببية الواقعية، من قبيل أن الفلاح ماذا فعل للبذرة حتى تثمر؟ جعل فيها السببية الذاتية أو السببية العرضية؟ الفلاح يجيب لا أعرف لا الذاتية ولا العرضية، ولكن أعلم بأن هذه أخذتها من المخزن ووضعتها في الأرض، أساساً أكثر من ذلك، أساساً أنا في النوم يدي صارت بشكل ما وبذرة من السقف وقعت على الأرض وخرجت، لأن الله وضع نظاماً في هذه الأرض إذا وضعت فيها البذرة تنتج هذه. ولهذا غير متوقفة لا على فهم المعنى ولا على إرادة المعنى وأبداً ولا التعهد ولا أبداً أبداً. أنا كل الذي فعلته ربطت أوجدت الملازمة، مفهوم الملازمة لا الملازمة الواقعية النفس أمرية، أوجدت الملازمة بين اللفظ وبين المعنى. نعم، في خلق الإنسان الله وضع فيه قانوناً تكوينياً أنه إذا حصلت الملازمة بين هذه تتحول إلى ماذا؟ وهذا ما سيأتي في بيانه هو+، هو بعد ذلك سيأتي.
ولذا أنت جنابك الآن ضع الشيء أمامك، واحذف كل الموانع، ماذا فعلت حتى انعكست الصورة في ذهنك، والله لم أفعل شيئاً إلا أن وضعت هذا … والله وضع نظاماً في وجودي إذا وجد شيء أمامي ولا يوجد فيه مانع يأخذ ماذا؟ رغم انفي، لو أصدر ألف أمر وأمر إلى النفس أن لا تأخذ صورة، يمتثل أو لا يمتثل؟ لا يمتثل. هذا نظام تكويني غير مرتبط … إذن سيدنا قولك: هل جعل السببية؟ الجواب: كلا، السببية الذاتية؟ الجواب: لا. هل جعل السببية العرضية؟ الجواب: لا. لا هذه ولا تلك. حتى لا يقول لنا إذا كان قد وضع السببية العرضية فما هي تلك الخصوصية. أصلاً لم يضعه، وكل ما وضعه أن هذا ملازم لهذا.
إذن هذا التحليل الذي قدمه السيد الشهيد بعيد عن كلام المحقق العراقي، لأن المحقق العراقي لم يدعِ أساساً – الإشكال الأول- أن الجاعل جعل السببية، لا الذاتية ولا العرضية.
إذن هذا الإشكال الثاني انتهى. إذن الإشكال الثاني غير تام.
يبقى عندنا كلام وهو أنه هذا الكلام أساساً في نفسه صحيح أو ليس بصحيح؟
الجواب: كلام تام في نفسه.
السؤال الأول: هذه النظرية صحيحة أم لا، هل توجد عليها ملاحظة؟
الجواب: لا، لا توجد.
السؤال الثاني: هل هي متعينة؟
الجواب: إذا بطلت باقي النظريات في حقيقة الوضع تكون هذه النظرية متعينة، أما إذا صحت نظريات أخرى، ما المحذور؟ لأننا نحن بحثنا في ماذا؟ نحن عندنا قضية واقعة لا يشك فيها أي عرفي أنه عندما يسمع اللفظ ينتقل ذهنه إلى المعنى. في علم الأصول نحن نحلل هذه العملية من قبيل أنك تأتي إلى الفقه يقول لك عندك واجب كفائي وواجب عيني، عندك واجب تعييني وعندك واجب تخييري، هذه مسلمات الفقه لا تحتاج إلى البحث، ولكن تأتي في علم الأصول لتحلل هذه العملية، هذا معنى الواجب التخييري أو هذا معنى الواجب التخييري، هذا لا علاقة له بأنه يوجد واجب تخييري، نحن الآن لا نتكلم في الوضع، الوضع موجود في الخارج، متحقق في الخارج، وإنما الكلام في التحليل، هذا التحليل بالضرورة نظرية واحدة أو لعله يكون خمس نظريات صحيحة كلها، متى تكون نظرية المحقق العراقي متعينة؟ إذا ثبت نظرية الأصفهاني باطلة، ونظرية النائيني باطلة، ونظرية السيد الخوئي باطلة، ونظرية السيد الصدر باطلة، ونظرية الايرواني باطلة، ونظرية السيد السيستاني، هذه كلها إذا بطلت نقول إذن فتتعين نظرية المحقق العراقي. إما إذا صحت بعض النظريات فلا محذور فيه.
هذا تمام الكلام في نظرية المحقق العراقي.
النظرية الثانية: وهي نظرية المرزا:
مما يؤسف له في كلمات الأعلام عموماً حتى في كلمات السيد الشهيد عندما يذكر كلام المرزا يُذكر فقط في مسألة من هو الواضع، هو الله أو غيره، مع أن نظرية المرزا النائيني نظرية متكاملة متكلمة عن حقيقة الوضع ما هي، وعن الواضع من هو، وعن كل الأسئلة التي تقدم الكلام، ماذا يفعل ماذا لا يفعل، هذا كله، ولكنهم اكتفوا بماذا … لعله – لا أريد أن أقول السيد الشهيد أو غيره – اكتفى بعضهم بأنه لم يراجع كلمات المرزا وإلا لو يراجع كلمات المرزا يجد أن المرزا يقدم نظرية كاملة في المقام.
هذه النظرية قائمة على تمهيد وعلى أصل النظرية.
أما التمهيد: يقول المرزا النائيني أنه بعد انتهينا من بطلان الاتجاه الأول، ما هو الاتجاه الأول؟ يتذكر الأعزاء ماذا قلنا في الاتجاه الأول، قلنا أن دلالة اللفظ على معناه ليست دلالة ذاتية مستغنية عن الجعل اعتباري أو تكويني، لا، هذه الدلالة تحتاج إلى جاعل، إذن هي تحتاج إلى جعل، إذن الاتجاه الأول باطل.
إذن دخلنا إلى الاتجاه الثاني وهو نحتاج إلى جعل، لكي تتضح نظرية المرزا نحتاج إلى مقدمتين بل مقدمات:
المقدمة الأولى: أن اختصاص أي لفظ بأي معنى من المعاني لا يمكن أن يكون جزافياً بل يحتاج إلى خصوصية أدت أن نربط هذا اللفظ بهذا المعنى، الأعزاء حتى يراجعون … في (فوائد الأصول، ج1، ص29 وما بعد) وكذلك (أجود التقريرات، ج1، ص17 وما بعد).
لماذا سيدنا تقول بأنه لابد، هذه عبارته في (ص31) (بل لابد وأن يكون هناك جهة ما اقتضت تأدية معنى الإنسان بلفظ الإنسان ومعنى الحيوان بلفظ الحيوان). طبعاً هو يميز بعد ذلك لماذا بعض الأحيان نقول معنى وبعض الأحيان نقول مفهوم، ما الفرق بين المعنى وبين المفهوم؟ ما هو الفرق بين المعنى وبين المفهوم وبين المدلول؟ يشير إليه، إن شاء الله سنشير إليه.
سؤال: لماذا تفترض هذا المعنى؟ يقول: لأنه ربط لفظ بمعنى خاص دون لفظ آخر بلا مناسبة وبلا جهة تقتضي ذلك يلزم الترجيح بلا مرجح، والتالي باطل فالمقدم مثله.
ولذا عبارته في (أجود التقريرات، ص17) يقول: (أن الواضع الحكيم جعل لكل معنى لفظاً مخصوصاًٍ باعتبار مناسبة بينهما مجهولة عندنا) ليس بالضرورة أن نطلع عليها، وسأبين لماذا ليس بالضرورة. لماذا شيخنا تقول بالضرورة لابد من مناسبة؟ يقول في (فوائد الأصول، ج1، ص30) (ومن المعلول أن إيداع لفظ خاص لتأدية معنى مخصوص لم يكن باقتراح صرف وبلا موجب، بل لابد من أن يكون هناك جهة اقتضت تأدية المعنى بلفظه المخصوص على وجه يخرج عن الترجيح بلا مرجح) لماذا يقول لابد من وجود مناسبة، ما هو الدليل؟ يقول: حتى نخرج من مشكلة الترجيح بلا مرجح.
سؤال: هذه إنما أنا أؤكد عليها لأنه بعد ذلك ستجدون الإشكالات أنه جملة منها أيضاً لم يلتفت لما ذكره المحقق النائيني.
سؤال أيها المرزا: بالضرورة أن هذه الخصوصية والمناسبة لابد أن تكون في اللفظ حتى تؤدي إلى المعنى أو ليس بالضرورة ذلك؟
الجواب: يقول: لا، أنا لا أقول بالضرورة أن اللفظ فيه خصوصية تؤدي إلى المعنى، ولذا عبارته واضحة وصريحة في هذا المعنى، يقول: (ولا يلزم أن تكون تلك الجهة راجعة إلى ذات اللفظ) أنا لا أقول أن في اللفظ خصوصية ذاتية، لأنه إذا صار في اللفظ خصوصية ذاتية أو مناسبة ذاتية فهل يمكن جعلها لمعنى ثاني أو لا يمكن جعلها؟ لا يمكن جعلها. لماذا؟ لأن هذا اللفظ فيه خصوصية هذا المعنى (أ) فكيف يمكن أن يجعل لفظ واحد لمعنيين متقابلين كالقرء مثلاً، لا يمكن.
قال: (أن تكون تلك الجهة راجعة إلى ذلك اللفظ حتى تكون دلالة الألفاظ على معانيها ذاتية كما ينسب ذلك إلى سليمان بن عباد، بل لابد وأن يكون هناك جهة ما اقتضت تأدية معنى الإنسان بلفظ الإنسان ومعنى الحيوان بلفظ الحيوان) وليس بالضرورة نابعة من اللفظ.
هذه المقدمة الأولى.
إذن المقدمة الأولى أنه لابد من وجود مناسبة اقتضت وضع اللفظ المعين للمعنى المعين.
المقدمة الثانية: وهو أن المعاني، لا أريد أن أقول لا متناهية، ولكن يقيناً بلغت من الكثرة حداً تقريباً يستحيل عادة أن يلم بها شخص واحد. وبطبيعة الحال هل يستطيع هناك بشر يضع الألفاظ للمعاني؟ ولذا عبارته في (فوائد الأصول، ص30) يقول: (وكيف يمكن ذلك) يعني أن يأتي شخص أو مجلس أو مؤسسة وتضع الألفاظ للمعاني (وكيف يمكن ذلك مع كثرة الألفاظ والمعاني على وجه لا يمكن إحاطة البشر بها، بل لو ادعي استحالة ذلك) هذه الاستحالة الوقوعية لا الاستحالة الذاتية (لم تكن بكل البعيد بداهة عدم تناهي الألفاظ لمعانيها). ولو سلم إمكان ذلك، هذا تنزل في المقدمة الثانية، لو سلمنا واقعاً بوجود شخص على هذا المستوى لنقله التاريخ لنا قال أن فلان كان من القدرة بمكان أنه بمفرده أو مؤسسة أو دولة أو أي كان، والتالي باطل فالمقدم مثله.
النتيجة المترتبة على هذين المقدمتين في جملة واحدة: إذن واضع اللغة أو الألفاظ للمعاني بشر أو لا؟ ليس ببشر. هو من؟ هو الله تعالى. القضية ليست استحسانية المرزا شاهد في المنام أن الألفاظ الواضع لها هو الله سبحانه وتعالى، بل هناك مجموعة من المقدمات، ومن يريد أن يدخل البحث العلمي لابد له أن يناقش هذه المقدمات.
من هنا تبدأ نظريته، يقول: الله ماذا فعل حتى حصل هذا الاقتران؟ الآن لا علاقة لنا بفعل الله، أصلاً هذا الوضع الذي وضعه الله كيف أوصله إلى البشرية، والله وضع في اللوح المحفوظ هذا اللفظ موضوع لهذا المعنى، وافترضوا أيضاً بأنّا استدللنا لذلك (وعلم آدم الأسماء كلها) كما استدل له البعض، أن الله واضع الأسماء للمسميات (وعلم آدم الأسماء كلها) كيف أبلغ البشر بذلك؟ هذا هو بحثنا الآتي.
والحمد لله رب العالمين