مقدمة منهجية لدراسة المدارس الفكرية الإسلامية
عندما ندرس الفكر الإسلامي منذ عصوره الأولى، نجد أن علماء المسلمين اختلفوا في مسائل الوجود الأساسية إلى مشارب ومذاهب متعددة جعلت منهم متكلمين وعرفاء وفلاسفة إشراقيين ومشائين وغيرهم. ومن هنا يطرح هذا التساؤل الأساسي عن السبب الذي أدّى إلى مثل هذه الاختلافات الكبيرة.
قبل الإجابة عن ذلك لا بُدّ من الإشارة إلى مقدمة منهجية مفادها: أننا نبحث تارة في الطريق والمنهج الذي يوصلنا للكشف عن حقائق الموجودات الخارجية ـ كما هي في الواقع ونفس الأمر ـ وأخرى نتكلم في الأسلوب الذي لابُدّ من إتباعه لإثبات تلك الحقائق للآخرين.
من الواضح أنّ النتيجة المترتبة على البحث الأوّل قد لا تكون قابلة للإثبات للآخرين، فمثلاً الحقيقة التي يصل إليها الإنسان من خلال الكشف والوحي والرؤيا والحدس ونحوها لا يمكن إيصالها للآخرين، فمسّت الحاجة إلى إتباع منهج يمكن من خلاله إثبات تلك الحقائق للآخرين.
ومن الواضح أن النتائج المترتبة على البحث الثاني هي التي تقوم بدور تجميع معطيات الجهد البشري، فيقع عليها النقض والإبرام. ومن خلال هذا ـ البحث الثاني ـ تتكامل العلوم والفلسفات، وتتكون منهما الحضارات والمدنيات الإنسانية على مسرح التاريخ. وإلاّ لو توّقف الجهد العلمي للإنسان على البحث الأوّل لما استطاعت الأفكار أن تتلاقح فيما بينها لتنتهي إلى نتائج أكمل وأفضل، لأن المفروض أنّ كثيراً من معطيات البحث الأوّل لا يمكن إثباتها للآخرين. على هذا الأساس قد تختلف المدارس بعضها عن بعض في البحث الأوّل ـ وأعني به الطريق الموصل لتكوين رؤية كونية في المسائل الأساسية المطروحة أمام الإنسان ـ ولكن هذا لا يعني أن الأسلوب الذي تتبعه هذه المدارس للحوار العلمي فيما بينها يختلف أيضاً، بل قد تكون متفقة في الأسلوب الذي تتبعه في البحث الثاني، وأعني به المنهج المتبع لإيصال الحقائق إلى الآخرين. فمثلاً نجد أن الأسلوب العقلي الذي يعتمد من حيث الهيئة والصورة القياس الأرسطي، ومن حيث المادة والمحتوى اليقينيات الأرسطية ـ وهو القياس البرهاني المنتج للنتيجة اليقينية من بين الأقيسة ـ قد تتفق مجموعة من المدارس الفكرية لإتباعه في البحث الثاني وإن كانت هذه المدارس مختلفة فيما بينها في البحث الأوّل، لأن لكل منها طريقتها الخاصة للوصول إلى الكشف عن حقائق الأشياء. وهذا ما نجده واضحاً في المدرسة المشائية والإشراقية والحكمة المتعالية، فإنها متفقة جميعاً في إتباع المنهج العقلي ـ وإن كان بدرجات متفاوتة ـ في البحث الثاني، وإنما وقع الاختلاف الكبير فيما بينها في البحث الأوّل، وربما اطردت هذه القاعدة في العرفان النظري وعلم الكلام أيضاً.
فعندما نتكلم عن المدارس المتعددة والمسالك المختلفة التي وجدت على مسرح الفكر الإنساني لتكوين هذه الرؤية الكونية أو تلك، إنما ينحصر حديثنا في المقام الأوّل من البحث، وهو السبيل للوقوف على حقائق الأشياء. وهنا اختلف الفلاسفة والعرفاء والمتكلمون فيما بينهم، حيث اختار كل فريق طريقاً ومنهجاً للوصول يختلف عن الآخرين، فتعددت الرؤى واختلفت; من فلسفية وكلامية وعرفانية.
لعلنا نوفق ـ بإذن الله وعنايته ـ لوضع دراسة مفصّلة تبين لنا تفاصيل هذه المدارس التي وجدت على مسرح الفكر الإنساني في تاريخه الطويل، ثم بيان ما هو الحق الذي لا بُدّ أن يُتّبع; لأن الحق أحق أن يتّبع. ولكن ما لا يُدرك كلُّه لا يُترك كلُّه. ولهذا سوف نقتصر في هذه المقدمة على ذكر إجمالي لأصول هذه المدارس الفكرية والعقائدية.
وسيتضح لنا أن هذه المدارس الفكرية تتفق على الأغلب في البحث الثاني، حيث تحاول بأجمعها الاستعانة بالأسلوب والمنهج العقلي لإيصال هذه الحقائق إلى الآخرين، وإن كان التوفيق قد حالف بعضها وجانب بعضها الآخر، كما سيتضح ذلك في البحوث اللاحقة إن شاء الله. أما المدارس وأنواع الرؤى الكونية التي يقع الحديث عنها، فهي:
1 ـ المدرسة المشائية.
2 ـ المدرسة الكلامية ـ الدينية.
3 ـ المدرسة العرفانية.
4 ـ المدرسة التوفيقية، التي تنقسم بدورها إلى:
أ ـ المدرسة الإشراقية.
ب ـ مدرسة الحكمة المتعالية.
إنّ الضابط الذي ذكره المحققون لهذا التقسيم هو ما أشار إليه الحكيم السبزواري، حيث قال: «ووجه ضبط افتراق أهل العلم والمعرفة إلى المتكلم والحكيم المشائي والإشراقي والصوفي، أن المتصدّين لمعرفة حقائق الأشياء إما أن يبحثوا بحيث يطابق الظاهر من الشريعة في الأغلب فيقال لهم: "المتكلمون"، وإما أن لا يراعوا المطابقة ولا المخالفة، فإما أن يقتصروا على المجاهدة والتصفية فيقال لهم: "الصوفية"، وإما أن يكتفوا بمجرد النظر والبيان والدليل والبرهان فيقال لهم: "المشاؤون" فإن عقولهم في المشي الفكري، فإن "النظر" و"الفكر" عبارة عن حركة من المطالب إلى المبادئ، ومن المبادئ إلى المطالب. وإما أن يجمعوا بين الأمرين فيقال لهم: "الإشراقيون"; فإنهم لتجافيهم عن عالم الغرور واجتنابهم عن قول الزور، مستشرفون إلى عالم النور، فتشملهم العناية الإلهية بإشراقات القلوب وشرح الصدور»(1). وقريب منه ما ذكره اللاهيجي في شرح رسالة المشاعر(2).
________________
(1) شرح الأسماء الحسنى، السبزواري، ص 234، الطبعة الجديدة.
(2) شرح رسالة المشاعر، اللاهيجي، ص 4.