لا علاقة لموضوع تشريع القصاص بموضوع مكانة الشخص من الناحية الإنسانية، إنما كان هذا التشريع موافقاً لظاهرة اجتماعية عالمية سائد عصرئذٍ، ومن الطبيعي أنَّ أي دعوة إصلاحية يفترض بها، وهي تمارس مشروعها وتهتم بنحو جدي بتطبيقه، أن تأخذ جميع تفاصيل الواقع القائم الذي تريد تغييره بنظر الاعتبار؛ ففي ذلك ضمانة للمشرِّع أن يحقق أهدافه، وإلا أصيب خطابه ومشروعه بفصام وقطيعة مع المتلقين الذين يريد إصلاحهم.
إن ظاهرة وجود الرق في المجتمع الإنساني ظاهرة في منتهى التعقيد والالتباس، ولا تكاد تعرف حتى اليوم أسبابها وعواملها بنحو واضح وقطعي، ولا يتحمل الإسلام في امتدادها واتساعها إلا بالمقدار الذي سمحت له الظروف في مقاومتها والحد منها.
وإذا ما أردنا أن نفهم الدور الذي مارسه الإسلام في هذا الصدد، فإن علينا ألا نقتصر على بعض العناوين أو بعض الأحكام التي تضمنها التشريع الإسلامي ونعزلها عن مجموع المفاهيم الأخرى التي دعا لها الإسلام وسعى لتكريسها في حياة البشر.
إن بشاعة الرق لم تدفع بالمشرع الإسلامي أن يفقد عقلانيته في معالجتها فيضيِّع بذلك أصل المشروع الذي انطلق منه؛ إنما عمل على سن مجموعة واسعة من التشريعات (الكفارات مثلاً) التي من شأنها أن تحد من وجود هذه الظاهرة، وهو قبل ذلك عمل ما وسعه لتغيير القاعدة الفكرية التي يخضع لها انتماء الإنسان، فأشاد صرح تحرير الإنسان في نطاقه الاجتماعي من خلال اجتثاث انتمائه الداخلي لغير الله تعالى قائلاً: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاّ نَعْبُدَ إِلاّ اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ). ثم أضاف للإنسان معياراً أخرى ينسِّق علاقته الاجتماعية بالآخرين بقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ). بل ـ وهذا ما لا ينبغي أن يغيب عن تفكيرنا ـ إن الإسلام رفع من مكانة العبد المقتول وأهميته كإنسان في ذلك الواقع القاسي بأن جعل مطلق القتل (وحتى ولو كان المقتول عبداً لا يكافئ الحر في ديته) إبادة للجنس البشري، والعكس صحيح أيضاً، فقال تعالى: (مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً). وهذا بحد ذاته يعد أعمق دفاع تبناه تشريع ما في الدفاع عن إنسانية الإنسان ومكانته وأهميته دون تمييز بين حر وعبد.
وحتى والمشرع الإسلامي يقبل على مضض بواقع الفارق الاجتماعي في موضوع القصاص، لا يغفل تذكير أصحاب الدم بأن القاتل (وهو العبد بحسب الفرض) بأنه أخو لكم، وأن العفو أحب لله تعالى، وأنه أكثر اتباعاً للمعروف وسبيل الخير، فنراه يقول: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ).
إن عزل التشريعات الإسلامية عن سياقاتها وظروفها الزمانية والمكانية، وعن سلسلة المفاهيم والعقائد التي عمل على تأسيسها في حياة الإنسان، هو في الواقع نظرة مبتسرة في فهم الإسلام ينقصها الكثير من التريث والموضوعية.