المنهج السندي ومخاطره على المعارف الدينية
شاهد تطبيقي
بقلم الدكتور طلال الحسن
شاهد على دسّ الروايات الإسرائيلية في تراثنا التفسيري
ينبغي أن يُعلم بأنَّ الدسّ في التراث الروائي ليس مختصّاً بالتراث الروائي السنّي، وإنّما يشمل التراث الروائي الشيعي أيضاً، فإنَّ الكثير من الروايات الإسرائيلية قد دخلت أو أُدخلت في تراثنا الروائي، ممَّا يجعل مسؤوليتّنا تجاه تنقية التراث الروائي ـ السنّي والشيعي معاً ـ على درجةٍ واحدة، وقد حاول بعض المعاصرين معالجة ذلك في حدودٍ ضيّقةٍ جداً، فتناول التراث الروائي الذي ورد فيه تصريحٌ أو تلويحٌ بتحريف القرآن وانتهى إلى نتائج مهمّة؛ منها بطلان هذه الروايات جملةً وتفصيلاً، كما أثبت عائدية هذه الروايات، وكيف أنها دخلت في تراث الروائي لمدرسة أهل البيت([1])؛ وهي محاولة محمودة مشكورة، لكنّها تبقى محاولةً محدودةً في إطار موضوعها، والمشكلة التي نريد عرضها والتصدّي لها أكبر بكثير من ذلك، فالمسألة تمسّ التراث الروائي بأسره.
ولنأخذ شاهداً على دسّ الروايات الإسرائيلية في تراثنا الروائي التفسيري، ويحتوي هذا الشاهد على أمرين، هما:
الأمر الأوّل: دخول الإسرائيليات في التراث الروائي والتفسيري الشيعي.
الأمر الثاني: عدم التحقيق في نقل الروايات من مصادرها الأوّلية.
الشاهد الروائي قد جاء فيه رمزان من رموز الدسّ الإسرائيلي، وهما: ابن جريج، وتميم الداري([2]).
روى أبو جعفر الطبري (ت: 310 هـ) عن ابن جريج، عن عكرمة… قال: كان عدي وتميم الداري، وهما من لخم نصرانيان، يتّجران إلى مكّة في الجاهلية، فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وآله حوّلا متجرهما إلى المدينة، فقدم ابن أبي مارية مولى عمرو بن العاص المدينة، وهو يريد الشام تاجراً؛ فخرجوا جميعاً، حتّى إذا كانوا ببعض الطريق مرض ابن أبي مارية، فكتب وصيّته بيده ثمَّ دسَّها في متاعه، ثم أوصى إليهما، فلمَّا مات فتحا متاعه، فأخذا ما أرادا، ثمَّ قدما على أهله فدفعا ما أرادا، ففتح أهله متاعه، فوجدوا كتابه وعهده وما خرج به، وفقدوا شيئاً فسألوهما عنه، فقالوا: هذا الذي قبضنا له ودفع إلينا. قال لهما أهله: فباع شيئاً أو ابتاعه؟ قالا: لا. قالوا: فهل استهلك من متاعه شيئاً؟ قالا: لا. قالوا: فهل تجر تجارة؟ قالا: لا. قالوا: فإنا قد فقدنا بعضه فاتهما، فرفعوهما إلى رسول الله صلى الله عليه وآله، فنزلت هذه الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ} (المائدة: 106)([3]).
هذه الرواية ينقلها الطبري، وكنيته أبو جعفر، وعندما يُنقل عنه تارة يُقال: قال الطبري، وتارة يُقال: قال أبو جعفر؛ وقد روى هذا الخبر الشيخ الطوسي (ت: 460 هـ) في تفسيره التبيان، مع اختلاف يسير في بعض الألفاظ، وبالنحو التالي:
ذكر الواقدي([4]) وأبو جعفر (ع) أنَّ سبب نزول هذه الآية ما قال أسامة بن زيد عن أبيه قال: كان تميم الداري وأخوه عدي نصرانيّين وكان متجرهما إلى مكّة، فلما هاجر رسول الله (ص) إلى المدينة قدم ابن أبي مارية مولى عمرو بن العاص المدينة وهو يريد الشام تاجراً فخرج هو وتميم الداري وأخوه عدي حتّى إذا كانوا ببعض الطريق مرض ابن أبي مارية فكتب وصيّة بيده ودسَّها في متاعه وأوصى إليهما ودفع المال إليهما وقال أبلغنا هذا أهلي، فلما مات فتحا المتاع وأخذا ما أعجبهما منه، ثمّ رجعنا بالمال إلى الورثة، فلما فتَّش القوم المال فقدوا بعض ما كان خرج به صاحبهم، ونظروا إلى الوصيّة فوجدوا المال فيها تامّاً وكلَّموا تميماً فيها وصاحبه، فقالا: لا علم لنا به وما دفعه إلينا أبلغناه كما هو، فرفعوا أمرهم إلى النبي صلى الله عليه وآله فنزلت هذه الآية)([5]).
وهنا ينقل الشيخ الطوسي عن الواقدي وعن أبي جعفر، ثم تُضاف تحيّة (ع) التي هي مختصر (عليه السلام) وهي تحيّة خاصّة بالأئمّة من أهل البيت، فيكون المُشار إليه هو الإمام محمّد الباقر عليه السلام؛ لأنَّ كنيته هي أبو جعفر؛ وهنا وقع الخلط بين أبي جعفر الطبري وبين أبي جعفر الباقر عليه السلام، والظاهر لنا أنَّ تحيّة السلام قد وُضعت فيما بعد؛ للأسباب التالية:
أوّلاً: لم يعتد علماء مدرسة أهل البيت قرن أسماء الأئمّة بالعلماء والمفسِّرين بهذا النحو؛ وإنّما يقولون في مثل هذا المورد: وهو المرويّ عن أبي جعفر عليه السلام، فيُفردونه ولا يجعلون الأئمّة كسائر الرواة والمحدّثين؛ من قبيل: وكما في: (وقيل: أريد بهم أصحابهم من الكفّار، وروي عن أبي جعفر عليه السلام: أنّهم كهّانهم)([6])، وكما في: (وروى مثل ذلك عن أبي جعفر عليه السلام وحكي عن ابن عباس: أنَّ آدم…)([7]).
ثانياً: إنَّ كلمة (ذّكر) لا تُطلق عادة على أئمّة أهل البيت عليهم السلام، وإنّما يُقال فيهم: روي عنهم، وغير ذلك.
ثالثاً: إنَّ تقديم اسم الواقدي على أبي جعفر يدلّ على أنَّ المراد من أبي جعفر هو الطبري وليس غيره، فيكون المناسب هو مجيء اسم أبي جعفر الطبري المفسّر.
رابعاً: التسلسل بين الاسمين قد رُوعي فيه الفترة الزمنية التي عاش فيها كلّ واحد؛ فكان من المنطقي أن يتقدَّم السابق، ويتأخّر اللاحق؛ والسابق هو الواقدي الذي كانت وفاته ـ على أبعد الاحتمالات ـ في عام (209) هجريّة، وأمّا الطبري فقد كانت وفاته في عام (310 هـ)، فيكون من المنطقي تقدّم الواقدي السابق على الطبري اللاحق؛ في حين لو كان المراد من أبي جعفر هو الإمام الباقر عليه السلام فإنه قد تُوفّي في عام (114) هجرية؛ فينبغي أن يتقدَّم ذكره على الواقدي، لا أن يتأخَّر عنه، كما هو واضح.
خامساً: لو كانت الرواية مرويّة عن الإمام الباقر عليه السلام لوُجد لها أصل أو شبه في موضع آخر من كتبنا أو كتب مدرسة الصحابة بالرواية عنه مباشرة.
سادساً: إنَّ هذه الرواية لم يروها أحد قبل أبي جعفر الطبري.
إذن فالخبر قد ذكره الواقدي وأبو جعفر الطبري.
وهنا ينفتح الباب لنقلة الخبر عن التبيان، وكالمعتاد فإنَّ الشيخ الطبرسي قد أقام تفسيره على أرضية التبيان كما صرَّح هو في مقدمة تفسيره؛ ولكنَّ الفارق هو أنَّ العلامة الطبرسي لمَّا توهَّم أنَّ المقصود من أبي جعفر هو الإمام الباقر عليه السلام فقد تعاطى معه وفق السياقات المعروفة في مدرسة أهل البيت، ممَّا زاد الأمر غموضاً وتعقيداً، وصار كلّ قارئ يقرأ هذا الخبر عنده لا ينصرف ذهنه أبداً إلا إلى الإمام محمد الباقر عليه السلام، حيث يقول: وهو المرويّ عن أبي جعفر عليه السلام.
والآن لننقل الخبر كاملاً؛ ليتبيَّن لنا حجم التشويه الواقع في هذا المورد، والذي تُشابهه موارد اخرى، سنأتي عليها في البحوث التطبيقية.
قال الطبرسي: (سبب نزول هذه الآية أنّ ثلاثة نفر خرجوا من المدينة تجّاراً إلى الشام، تميم بن أوس الداري، وأخوه عدي، وهما نصرانيّان، وابن أبي مارية، مولى عمرو بن العاص السهمي، وكان مسلماً، حتى إذا كانوا ببعض الطريق، مرض ابن أبي مارية، فكتب وصيّته بيده، ودسّها في متاعه، وأوصى إليهما، ودفع المال إليهما، وقال: أبلغا هذا أهلي. فلما مات، فتحا المتاع، وأخذا ما أعجبهما منه، ثم رجعا بالمال إلى الورثة، فلما فتّش القوم المال، فقدوا بعض ما كان قد خرج به صاحبهم، فنظروا إلى الوصية، فوجدوا المال فيها تامّاً، فكلّموا تميماً وصاحبه، فقالا: لا علم لنا به وما دفعه إلينا أبلغناه كما هو، فرفعوا أمرهم إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فنزلت الآية، عن الواقدي، عن أسامة بن زيد، عن أبيه، وعن جماعة المفسّرين، وهو المرويّ عن أبي جعفر عليه السلام)([8]).
ثمّ جاء بعده أعلامنا من المُفسِّرين والمحدِّثين لينقلوا الخبر لنا على كون المرويّ عنه هو الإمام محمّد الباقر عليه السلام؛ وبنفس طريقة الشيخ الطبرسي لا الشيخ الطوسي، من قبيل العلّامة المجلسي في بحاره([9])، والشيخ الحويزي في نور الثقلين([10])، والقطب الراوندي في فقه القرآن([11]).
خطورة المسألة:
أوّلاً: إنَّ هذا الخبر الإسرائيلي قد عُرِّف لنا في أهمّ المصادر التفسيرية بأنه مروي عن الإمام الباقر عليه السلام، وقد عرفت الخطأ في النقل.
ثانياً: إنَّ الاطمئنان المتوارث في نقل الشيخ الطوسي والشيخ الطبرسي والعلّامة المجلسي، وغيرهم، ينبغي أن يُواجه بالتحقيق.
ثالثاً: إنَّ هذه الإسرائيلية المرتبطة بابن جريج وتميم الداري نجدها في أهمِّ كتاب تفسيريّ، وهو تفسير علي بن إبراهيم القمّي (ت: 329 هـ)، المتوفَّى في نفس سنة وفاة الشيخ الكليني، فكان من الطبيعي أن تنقل هذه الإسرائيلية إلى كتاب الكافي، وهي في الكتابين معاً جاءت بلا سند تماماً، أمّا في الأصل وهو (تفسير القمي) فلم يذكر شيئاً سوى تفاصيل الخبر([12])، وأمّا في الكافي فقد عبَّر بهذا الشكل: (عن علي بن إبراهيم، عن رجاله رفعه قال: خرج تميم الداري)([13]).
رابعاً: أن تنتقل هذه الإسرائيلية إلى كتبنا الفقهية، من قبيل ما جاء في الحدائق للبحراني؛ قال: (والأصل فيما ذكرناه من هذه القيود ما رواه في الكافي عن علي بن إبراهيم عن رجاله رفعه، قال: خرج تميم الداري…)([14]).
والمحصّلة من ذلك هي:
أولاً: توكيد ما ندعو له من ضرورة إعادة قراءة موروثنا الروائي والتفسير.
وثانياً: ضرورة عرض السنّة القولية المحكيّة عنهم عليهم السلام على القرآن الكريم والعقل القطعي: لنتثبت من صحَّتها، ونتجاوز الحلول العلمائية التي لم تزد البحث الروائي إلا تعقيداً.
ولا ندري ما هو السرّ في الأكل من القفا؟ فما دام القرآن موجوداً، والمقدّمات العقلية والبراهين القطعية موجودة، وما دام أهل البيت عليهم السلام قد علَّمونا بأن نسأل من القرآن، وأن نراجع القرآن للتثبت ممَّا نُقل إلينا منهم، فلماذا الدوران حول هذه الدعوة الصريحة والتمسّك بحلول قاصرة، لم نجنِ منها إلّا خسارة عدد هائل من الأخبار بحجّة ضعف سندها، كما جعلتنا نقبل بروايات مخالفة في مضمونها للقرآن بحجّة صحّة سندها؟
إذن: فنحن لا نرفض السنّة الواقعيّة البتّة، كما لا نرفض السنّة المحكيّة البتّة أيضاً، وإنّما ندعو لتمحيصها من الشوائب، فما الضير في كلّ ذلك؛ ولكنّه إسلام الحديث الذي طالما عمل على تجاوز القرآن الكريم، حتّى بلغ بالبعض أن يُقدِّم الرؤية العلمائية على رؤية القرآن ورؤية أهل البيت عليهم السلام!.
وأمّا ما يقوم به الأعلام من تقديم حلول عقيمة تُعالج بها ما أصاب السنّة القولية المحكيّة من وضعٍ ودسّ، وبلطائف الحيل، من قبيل السند وعلم الجرح والتعديل وعلم الرجال لنصحّح روايةً واحدة، فإنها لم تعد حلولاً ناجعة. فما صُحِّح بهذه الطرق رواياتٌ كثيرةٌ منافيةٌ لتعاليم القرآن، كما أنّها طرقٌ إقصائيةٌ حقيقيةٌ للسنة الشريفة؛ وذلك بإقصائها العدد الأكبر من الروايات ـ التي يشتمل الكثير منها على المضامين العظيمة ـ بحجّة ضعف سندها.
نعم، نحن نطالب بعرض السنّة القولية على كتاب الله، فإن وافقته قبلنا بها، وإلّا فلا، وبهذا نتخلَّص من آفات النقل بالمعنى، ومن التقطيع، ومن ضياع الكثير منها، ومن فهم الصحابة أو الأصحاب([15])، ومن الدسّ والتدليس والكذب والغلوّ والتقية والإسرائيليات؛ بل والتخلّص من عشرات الآفات والأمراض التي ابتليت بها السنّة المحكيّة الموجودة بأيدينا، سواء كانت من الموروث الروائي السنّي أو الموروث الروائي الشيعي.
[1] – انظر: القرآن الكريم وروايات المدرستين، للسيد مرتضى العسكري.
[2] – سيتعرَّض السيد الأُستاذ (دام ظله) إلى ترجمة بطل روايتنا هذه، بمعية رموز آخرين، في درامات لاحقة.
[3] – جامع البيان في تأويل أي القرآن، لابن جرير الطبري: ج7، ص157، ح10093.
[4] – أبو عبد الله، محمد بن عمر بن واقد الواقدي، ولد سنة: (129) أو: (130) هجرية في آخر خلافة مروان بن محمد (آخر خليفة أموي)، واختلفوا في وفاته، فقيل: توفي سنة (206) أو في: (207) هجرية. تاريخ بغداد، للخطيب البغدادي: ج3 ص20؛ وفيات الأعيان، لابن خلكان: ج12 ص641.
[5] – التبيان في تفسير القرآن، للشيخ الطوسي: ج4 ص42.
[6] – التبيان في تفسير القرآن، للشيخ الطوسي: ج1 ص79.
[7] – التبيان في تفسير القرآن، للشيخ الطوسي: ج1 ص169.
[8] – مجمع البيان في تفسير القرآن، للشيخ الطبرسي: ج3 ص438.
[9] – بحار الأنوار، للعلامة المجسي: ج22 ص31.
[10] – تفسير النور الثقلين، للشيخ الجوهري: ج1 ص685 رقم 415.
[11] – فقه القرآن، للقطب الراوندي (ت: 573هـ): ج1 ص418.
[12] – تفسير القمي، لعلي بن إبراهيم القمي: ج1 ص189.
[13] – الفروع من الكافي، للشيخ الكليني: ج7 ص5 ح7.
[14] – الحدائق الناضرة، المحقق البحراني: ج22 ص494.
[15] – الصحابة هم خصوص أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله، وأما الأصحاب فهم أصحاب أهل البيت عليهم السلام، فلا الصحابة قولهم وفهمهم حجة، ولا الأصحاب قولهم وفهمهم حجة، وإنما الحجة هو القرآن بالدرجة الأساس والسنة الواقعية، والسنة المحكية المعروضة على القرآن وتم التثبت من موافقتها للقرآن. منه (دام ظله).