نصوص ومقالات مختارة

  • طبقات الناس

  • لكن ما لا يدرك كلّه لا يترك كلّه، فإنّنا إذا نظرنا نظر التدبّر إلى خصوصيات الشريعة الإسلامية، بل جميع الملل الإلهية، وجدنا أنّ المقصود فيها، هو صرف وجه الإنسان إلى ما وراء هذه النشأة الطبيعية والمادية. والناس من حيث درجات الانقطاع إلى الله سبحانه وتعالى، والإعراض عن هذه النشأة الدنيوية، على ثلاث طبقات:

    «الطبقة الأولى: إنسان تامّ الاستعداد، يمكنه الانقطاع قلباً عن هذه النشأة، مع تمام الإيقان باللازم من المعارف الإلهية، والتخلّص إلى الحقّ سبحانه وهذا هو الذي يمكنه شهود ما وراء هذه النشأة المادّية، والإشراف على الأنوار الإلهية، كالأنبياء عليهم السلام»([1]).

    وهؤلاء هم الذين عبّر عنهم القرآن الكريم بقوله تعالى:

    {كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ * لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ * ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ} (التكاثر: 5ـ7). والظاهر أنّ المراد رؤيتها قبل يوم القيامة، رؤية البصيرة، وهي رؤية القلب، على ما يشير إليه قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ} (الأنعام: 75). وهذه هي طبقة المقرّبين.

    «الطبقة الثانية: إنسان تامّ الإيقان، غير تام الانقطاع من جهة ورود هيئات نفسانية وإذعانات قاصرة، تؤيسه أن يذعن بإمكان التخلّص إلى ما وراء هذه النشأة المادّية، وهو فيها . فهذه طبقة تعبد الله كأنّها تراه، فهي تعبد عن صدق من غير لعب، لكن من وراء حجاب إيماناً بالغيب، وهم المحسنون في عملهم. وقد سُئل رسول الله ’ عن الإحسان، فقال: «أن تعبد الله كأنّك تراه، فإن لم تكن تراه فإنّه يراك»([2]).

    والفرق بين هذه الطبقة وسابقتها، فرق ما بين «إنّ» و«كأنّ». وهذا مقام الخلّص من أصحاب رسول الله ’. عن إسحاق بن عمّار، قال: >سمعت أبا عبد الله الصادق × يقول: إنّ رسول الله ’ صلّى بالناس الصبح، فنظر إلى شابّ في المسجد وهو يخفق برأسه([3]) مصفرّاً لونه، قد نحف جسمه  وغارت عيناه في رأسه.

    فقال له رسول الله ’: كيف أصبحت يا فلان؟

    قال: أصبحت يا رسول الله مؤمناً موقناً.

    فعجب رسول الله ’ من قوله (فقد أخبر بشيء نادر الوقوع) وقال: إنّ لكلّ يقين حقيقة فما هي حقيقة يقينك؟

    فقال: إنّ يقيني يا رسول الله هو الذي أحزنني وأسهر ليلي وأظمأ هواجري، فعزفت نفسي عن الدنيا وما فيها، حتى كأنّي أنظر إلى عرش ربّي، وقد نصب للحساب، وحشر الخلائق لذلك، وأنا فيهم، وكأنّي أنظر إلى أهل الجنّة يتنعّمون في الجنّة ويتعارفون، وعلى الأرائك متّكئون، وكأنّي أنظر إلى أهل النار، وهم فيها معذّبون مصطرخون، وكأنّي الآن أسمع زفير النار، يدور في مسامعي.

    فقال رسول الله ’ لأصحابه: هذا عبدٌ نوّر الله قلبه بالإيمان، ثمّ قال له: الزم ما أنت عليه.

    فقال الشاب: ادع الله لي يا رسول الله أن اُرزق الشهادة معك. فدعا له رسول الله ’ فلم يلبث أن خرج في بعض غزوات النبيّ ’ فاستشهد بعد تسعة نفر، وكان هو العاشر»([4]).

    وهذه الطبقة هم الذين وصفهم أمير المؤمنين × في خطبته المعروفة بخطبة همّام، حيث قال: «فالمتّقون فيها هم أهل الفضائل، منطقهم الصواب، وملبسهم الاقتصاد، ومشيهم التواضع، غضّوا أبصارهم عمّا حرّم الله عليهم، ووقفوا أسماعهم على العلم النافع لهم، نُزّلت أنفسهم منهم في البلاء، كالتي نُزِّلت في الرخاء. ولولا الأجل الذي كتب الله عليهم، لم تستقرّ أرواحهم في أجسادهم طَرفة عين، شوقاً إلى الثواب وخوفاً من العقاب. عظم الخالق في أنفسهم فصغر ما دونه في أعينهم، فهم والجنّة كمن قد رآها فهم فيها منعّمون، وهم والنار كمن قد رآها، فهم فيها معذَّبون.

    قلوبهم محزونة، وشرورهم مأمونة، وأجسادهم نحيفة، وحاجاتهم خفيفة، وأنفسهم عفيفة. صبروا أيّاماً قصيرة، أعقبتهم راحة طويلة، تجارة مربحة، يسّرها لهم ربّهم، أرادتهم الدنيا فلم يريدوها، وأسرتهم فَفَدوا أنفسهم منها.

    أمّا الليل فصافّون أقدامهم، تالين لأجزاء القرآن يرتّلونها ترتيلاً، يحزّنون به أنفسهم، ويستثيرون به دواء دائهم»([5]).

    «الطبقة الثالثة: غير أهل الطبقتين الأوليين من سائر الناس وعامّتهم. وهذه الطائفة باستثناء المعاند والمكابر والجاحد، طائفة يمكنها الاعتقاد بالعقائد الحقّة الراجعة إلى المبدأ والمعاد، والجريان عملاً على طبقها في الجملة لا بالجملة. وذلك من جهة الإخلاد إلى الأرض واتباع الهوى وحبّ الدنيا، فإنّ حبّ الدنيا وزخارفها يوجب الاشتغال بها، وكونها هي المقصودة من حركات الإنسان وسكناته. وذلك يوجب انصراف النفس إليها، وقصر الهمّة عليها، والغفلة عمّا وراءها، وعمّا توجبه الاعتقادات الحقّة من الأحوال والأعمال، وذلك يوجب ركودها ووقوفها ـ أعني الاعتقادات الحقّة ـ على حالها، من غير تأثير لها وفعلية للوازمها، وجمود الأعمال والمجاهدات البدنية على ظاهر نفسها وأجسادها، من غير سريان أحوالها وأحكامها إلى القلب، وفعلية لوازمها، وهذا من الوضوح بمكان.

    مثال ذلك: أنّنا لو حضرنا عند ملك من الملوك، وجدنا من تغيّر حالنا وسراية ذلك إلى أعمالنا البدنية، من حضور القلب والخشوع والخضوع ما لا نجده في الصلاة البتة، وقد حضرنا فيها عند ربّ العالمين. ولو أشرف على شخصنا ملك من الملوك، وجدنا ما لا نجده في أنفسنا، ونحن نعتقد أنّ الله سبحانه يرى ويسمع، وأنّه أقرب إلينا من حبل الوريد، ونعتمد على الأسباب العادية التي تخطئ وتصيب، اعتماداً لا نجد شيئاً منه في أنفسنا، ونحن نعتقد أنّ الأمر بيد الله سبحانه، يفعل ما يشاء ويحكم مايريد. ونركن إلى وعد إنسان أو عمل سبب، ما لا نركن جزءاً من ألف جزء منه إلى مواعيد الله سبحانه، فيما بعد الموت والحشر والنشر، وأمثال هذه التناقضات لا تحصى في اعتقاداتنا وأعمالنا، وكلّ ذلك من جهة الركون إلى الدنيا.

    وهذه الطائفة لا يمكنها الانقطاع إلى الله سبحانه، أزيد من الاعتقادات الحقّة الإجمالية، ونفس أجساد الأعمال البدنية التي توجب توجّهاً ما وقصداً ما في الجملة إلى المبدأ سبحانه في العبادات.

    ومن هنا يتبيّن أنّ تربية الطبقات الثلاثة، ليس على حدّ سواء، بل هناك أمور مشتركة ومختصّة، فالمشتركة هي الأحكام النظرية والعملية العامّة، التي لا يمكن إهمالها بالنسبة إلى طبقة من الطبقات، من الواجبات والمحرّمات. أمّا المختصّة، فهي التي توجد في الأولى مثلاً، ولا توجد في الثالثة، فربّ مباح أو مستحبّ أو مكروه بالنسبة إلى الثالثة، هو واجب أو محرّم بالنسبة إلى الأولى، فحسنات الأبرار سيّئات المقرّبين. من هنا فإنّ هذه الطبقة تختصّ بأمور وأحكام غير موجودة في الثانية والثالثة، ولا غير هذه الطبقة تكاد تفهم شيئاً من تلك المختصّات ولا يهتدي إلى طريق تعليمها. وذلك كلّه لمكان ميز طبقتهم وأساسها المحبّة الإلهية دون محبّة النفس، فالفرق بينها وبين الآخرين في نحو العلم والإدراك، دون قوّته وضعفه وتأثيره وعدمه»([6]).

     ———————————

    ([1]) رسالة الولاية، العلّامة الطباطبائي: ص17.

    ([2]) رسالة الولاية: ص18.

    ([3]) يقال: خفق رأسه إذا أخذته سِنة من النعاس، فمال رأسه دون سائر جسده.

    ([4]) الأصول من الكافي: كتاب الإيمان والكفر: ج2 ص53، الحديث2.

    ([5]) نهج البلاغة، الخطبة: 193.

    ([6]) رسالة الولاية: ص18.

    • تاريخ النشر : 2015/05/09
    • مرات التنزيل : 3159

  • جديد المرئيات