نصوص ومقالات مختارة

  • الحياة الطيّبة

  • قال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (النحل: 97). فحياة المؤمن ليست حياة طيّبة في الدار الآخرة فحسب، بل هي كذلك في هذه النشأة أيضاً. قال الطباطبائي في ظلّ هذه الآية: «الإحياء: إلقاء الحياة في الشيء وإفاضتها عليه، فالجملة بلفظها دالّة على أنّ الله سبحانه يكرم المؤمن الذي يعمل صالحاً بحياة جديدة، غير ما يشاركه سائر الناس من الحياة العامّة، فالآية نظيرة قوله: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ} (الأنعام: 122)، فإنّ المراد بهذا النور، العلم الذي يهتدي به الإنسان إلى الحقّ في الاعتقاد والعمل.

    وكما أنّ له من العلم والإدراك ما ليس لغيره، كذلك له من موهبة القدرة على إحياء الحقّ وإماطة الباطل ما ليس لغيره، وقد قال سبحانه: {وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} (الروم: 47).

    وهذا العلم والقدرة الحاصلان له بالتقوى، يمهِّدان له أن يرى الأشياء على ما هي عليها، فيقسّمها إلى قسمين: حقّ باق وباطل فان، فيعرض بقلبه عن الباطل الفاني الذي هو الحياة الدنيا، بزخارفها الغارّة الفتّانة، ويعتزّ بعزّة الله، فلا يستذله الشيطان بوساوسه، ولا النفس بأهوائها وهوساتها، ولا الدنيا بزهرتها، لما يشاهد من بطلان أمتعتها وفناء نعمتها.

    ويتعلّق قلبه بربّه الذي هو يحقّ كلّ حقّ بكلماته، فلا يريد إلّا وجهه، ولا يحب إلّا قربه، ولا يخاف إلّا سخطه وبُعده، يرى لنفسه حياة طاهرة دائمة مخلّدة، لا يدبّر أمرها إلّا ربّه الغفور الودود، ولا يواجهها في طول مسيرها إلّا الحسن الجميل، فقد أحسن كلّ شيء خلقه، ولا قبيح إلّا ما قبّحه الله من معصيته.

    فهذه آثار حيوية لا تترتّب إلّا على حياة حقيقية غير مجازية، وقد رتّبها الله سبحانه على هذه الحياة التي يذكرها ويخصّها بالذين آمنوا وعملوا الصالحات، فهي حياة حقيقية جديدة،يفيضها الله سبحانه عليهم. وليست هذه الحقيقة الجديدة المختصّة، بمنفصلة عن الحياة القديمة المشتركة، وإن كانت غيرها، فإنّما الاختلاف بالمراتب لا بالعدد، فلا يتعدّد بها الإنسان، كما أنّ الروح القدسيّة التي يذكرها الله سبحانه للأنبياء، لا توجب لهم إلّا ارتفاع الدرجة، دون تعدّد الشخصية»([1]).

    وهذه هي الروح التي أشارت إليها آية سورة المجادلة حيث قال تعالى: {أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ} (المجادلة: 22)، ومن الواضح: أنّ ظاهر هذه الآية يفيد أنّ للمؤمنين وراء الروح البشرية التي يشترك فيها المؤمن والكافر، روحاً أخرى تفيض عليهم حياة أخرى، تصاحبها قدرة وعلم، لا يوجدان عند غير المؤمن.

    هذه الحقيقة أكّدتها جملة من الروايات الواردة عن أئمّة أهل البيت ^. عن أبي عبد الله الصادق × قال: في الأنبياء والأوصياء خمسة أرواح: روح البدن، وروح القدس، وروح القوّة، وروح الشهوة، وروح الإيمان. وفي المؤمنين أربعة؛ أفقدها روح القدس: روح البدن، وروح القوّة، وروح الشهوة، وروح الإيمان. وفي الكفّار ثلاثة أرواح: روح البدن، وروح القوّة، وروح الشهوة.

    ثمّ قال ×: روح الإيمان يلازم الجسد، ما لم يعمل بكبيرة، فإذا عمل بكبيرة فارقه الروح، وروح القدس من سكن فيه، فإنّه لا يعمل بكبيرة أبداً([2]).

    وفي رواية أخرى عن الإمام أبي الحسن الرضا × قال: «إنّ الله تبارك وتعالى أيّد المؤمن بروح منه، تحضره في كلّ وقت يُحسن فيه ويتّقي، وتغيب عنه في كلّ وقت يذنب فيه ويعتدي، فهي معه تهتزّ سروراً عند إحسانه، وتسيخ في الثرى عند إساءته، فتعاهدوا عباد الله نعمه بإصلاحكم أنفسكم، تزدادوا يقيناً وتربحوا نفيساً ثميناً، رحم الله امرءاً همّ بخير فعمله، أو همّ بشرّ فارتدع عنه»([3]).

    وقد بيّنت الروايات دور كلّ واحدة من هذه الأرواح، حيث ورد عن المفضل بن عمر، عن أبي عبد الله الصادق × قال: سألته عن علم الإمام بما في أقطار الأرض، وهو في بيته مرخى عليه ستره.

    فقال ×: يا مفضّل إنّ الله تبارك وتعالى، جعل في النبيّ ’ خمسة أرواح، روح الحياة، فبه دبّ ودرج، وروح القوّة، فبه نهض وجاهد، وروح الشهوة، فبه أكل وشرب وأتى النساء من الحلال، وروح الإيمان، فبه آمن وعدل، وروح القدس، فبه حمل النبوّة، فإذا قبض النبيّ ’ انتقل روح القدس فصار إلى الإمام، وروح القدس لا ينام ولا يغفل ولا يلهو ولا يزهو، والأربعة الأرواح تنام وتغفل وتزهو وتلهو، وروح القدس كان يرى به([4]).

    وهذه الروح التي يؤيّد بها المؤمن، لها عينان وأُذنان، كما نسب إلى النبيّ الأكرم ’: «ما من قلب إلّا وله عينان واُذنان، فإذا أراد الله بعبد خيراً فتح عينيه اللتين للقلب ليشاهد بهما الملكوت»([5]).

    وورد عنه أيضاً: «لولا أنّ الشياطين يحومون على قلوب بني آدم لنظروا إلى الملكوت»([6]).

    وهذا المعنى هو الذي ورد في مسند أحمد بن حنبل، بإسناده عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ’: ليلة أُسري بي… فلما نزلت إلى السماء الدنيا، نظرت أسفل منّي، فإذا أنا برهج ودخان وأصوات.

    فقلت: ما هذا يا جبرئيل؟

    قال: هذه الشياطين يحومون على أعين بني آدم، أن لا يتفكّروا في ملكوت السماوات والأرض، ولولا ذلك لرأوا العجائب([7]).

    ويقرب منه ما جاء عن سلّام بن المستنير قال: >كنت عند أبي جعفر الباقر × فدخل عليه حمران بن أعين ، وسأله عن أشياء، فلمّا همَّ حمران بالقيام، قال لأبي جعفر ×: أخبرك أطال الله بقاءك وأمتعنا بك، أنّا نأتيك فما نخرج من عندك حتّى ترقّ قلوبنا وتسلوا أنفسنا عن الدنيا، ويهون علينا ما في أيدي الناس من هذه الأموال. ثمّ نخرج من عندك فإذا صرنا مع الناس والتجّار، أحببنا الدنيا.

    قال: فقال أبو جعفر ×: إنّما هي القلوب، مرّة تصعب ومرّة تسهل.

    ثمّ قال أبو جعفر ×: أما إنّ أصحاب محمّد ’ قالوا: يا رسول الله نخاف علينا النفاق؟

    قال: فقال: ولِمَ تخافون ذلك؟

    قالوا: إذا كنّا عندك فذكّرتنا ورغّبتنا، وَجِلْنا ونسينا الدنيا وزهدنا حتى كأنّا نعاين الآخرة والجنّة ونحن عندك، فإذا خرجنا من عندك ودخلنا هذه البيوت، وشممنا الأولاد، ورأينا العيال والأهل، يكاد أن نحوّل عن الحال التي كنّا عليها عندك، وحتّى كأنّا لم نكن على شيء، أفتخاف علينا أن يكون ذلك نفاقاً؟

    فقال لهم رسول الله ’: كلّا، إنّ هذه خطوات الشيطان، فيرغّبكم في الدنيا، والله لو تدومون على الحالة التي وصفتم أنفسكم بها لصافحتكم الملائكة ومشيتم على الماء<([8]).

    وهذه العين هي التي يعبّر عنها القرآن بالبصيرة في قوله تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} (يوسف: 108)، في قبال العين التي عبّر عنها القرآن بالبصر، وهي لمشاهدة عالم الشهادة والملك: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (النحل: 78).

    وعين البصيرة هي التي يصيبها العمى من خلال المعصية، قال تعالى: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} (المطفّفين: 14).

    وقال أيضاً: {فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} (الحجّ: 46).

    فتحصّل ممّا تقدّم أنّ من شملته العناية الإلهية وأيّدته بروح منه، وجعلت له نوراً يمشي به في الناس، فإنّه يرى ما لا يراه الناس، ويسمع ما لا يسمعونه، ويعقل ما لا يعقلونه ويريد ما لا يريدونه. قال إمام المتّقين وسيّد العارفين علي أمير المؤمنين × عند تلاوته لقوله تعالى: {…يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ * رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ…} (النور: 36ـ37): «إنّ الله عزّ وجلّ جعل الذكر جلاءً للقلوب، تسمع به بعد الوقرة، وتبصر به بعد العشوة، وتنقاد به بعد المعاندة، وما برح لله ـ عزّت آلاؤه ـ في البرهة بعد البرهة، وفي أزمان الفترات، عباد ناجاهم في فكرهم، وكلّمهم في ذات عقولهم، فاستصبحوا بنور يقظة في الأبصار والأسماع والأفئدة، يذكّرون بأيّام الله، ويخوّفون مقامه، بمنزلة الأدلّة في الفلوات، مَن أخذ القصد حمدوا إليه طريقه، وبشّروه بالنجاة، ومن أخذ يميناً وشمالاً ذمّوا إليه الطريق، وحذّروه من الهلكة، وكانوا كذلك مصابيح تلك الظلمات وأدلّة تلك الشبهات.

    وإنّ للذكر لأهلاً أخذوه من الدنيا بدلاً، فلم تشغلهم تجارة ولا بيع عنه، يقطعون به أيّام الحياة، ويهتفون بالزواجر عن محارم الله في أسماع الغافلين، ويأمرون بالقسط، ويأتمرون به، وينهون عن المنكر ويتناهون عنه، فكأنّما قطعوا الدنيا إلى الآخرة وهم فيها، فشاهدوا ما وراء ذلك، فكأنّما اطّلعوا غيوب أهل البرزخ في طول الإقامة فيه، وحقّقت القيامة عليهم عِداتها، فكشفوا غطاء ذلك لأهل الدنيا، حتّى كأنّهم يرون ما لا يرى الناس، ويسمعون ما لا يسمعون»([9]).

    هذه هي الخصوصية الأولى لأهل التقوى في الدنيا، وهناك آيات كثيرة في القرآن نطقت بهذه الحقيقة، يمكن الرجوع إليها في مظانّها.

     —————————————————–

    ([1]) الميزان في تفسير القرآن: ج12 ص341.

    ([2]) بحار الأنوار: ج25 ص53، الحديث: 14.

    ([3]) الأصول من الكافي: ج2 ص268، كتاب الإيمان والكفر، باب الروح الذي أيّد به المؤمن، الحديث: 1.

    ([4]) الأصول من الكافي: ج1 ص272، كتاب الحجّة، باب فيه ذكر الأرواح التي في الأئمّة ^ الحديث: 3.

    ([5]) تفسير المحيط الأعظم والبحر الخضمّ، السيّد حيدر الآملي: ج1 ص272.

    ([6]) إحياء علوم الدين، الغزالي: ج1 ص232، كتاب أسرار الصوم؛ بحار الأنوار، المجلسي: ج70 ص59.

    ([7]) تفسير المحيط الأعظم والبحر الخضمّ: ج1 ص272.

    ([8]) الأصول من الكافي: ج1 ص423، كتاب الإيمان والكفر، باب في تنقّل أحوال القلب، الحديث: 1.   

    ([9]) نهج البلاغة، الخطبة: 222.

    • تاريخ النشر : 2015/05/09
    • مرات التنزيل : 4274

  • جديد المرئيات