نصوص ومقالات مختارة

  • البعد التكويني في الإمام

  • ويراد به الولاية التكوينية في قبال الولاية التشريعية المذكورة في الفصل السابق، وكلاهما بمعنى التصرّف إلّا أنّ التشريعية في عالم التشريع، والتكوينية في عالم التكوين. فمن ثبتت له الولاية التكوينية يكون قادراً على التصرّف في مفردات عالم الوجود لا على نحو الاستقلال وإنّما بإذن من الله تعالى، وأمّا التصرّف التكويني الذاتي الاستقلالي فمنحصر بالله تعالى.

    ومن موارد صدق التصرّف في عالم التكوين التحكّم بحركة الرياح، وإحياء الموتى، وإماتة الأحياء، والإشفاء، وما شابه ذلك.

    فما يثبت لغير الله سبحانه من أنماط الولاية التكوينية ـ أيّاً كانت حدودها وعوالمها ـ فإنّها عرضية محضة، وهذه الولاية العرضية؛ بنكتة عرضيّتها، لا تقع في عرض ولاية الله تعالى، أي لا تكون مكافئة لولايته سبحانه، وأيضاً لا تقع في طول ولاية الله سبحانه، لأنّ ولايته مطلقة، فإذا ما افترضنا وجود ولاية أخرى تقع في طولها فهذا يعني محدودية ولايته سبحانه.

    والسؤال هو: إذا لم تكن الولاية التكوينية لغير الله تعالى تقع في عرض ولاية الله تعالى ولا في طولها فبأيّ نحو تكون هي؟

    والجواب: لقد تقدّم في بحث الأسماء الحسنى أنّ المعرفة التحقّقية بها تعني أن يكون العارف والمتحقّق بها مظهراً من مظاهرها. فمن تحقّق بالكريم ـ وهو من أسماء الله الحسنى ـ يكون مظهراً للكرم، وهكذا الحال في سائر الأسماء الحسنى، وذلك التحقّق والمظهرية الحقّة في كلّ اسم إلهي ذات مراتب لا تعدّ ولا تحصى لأنّها بعدد المتحقّقين، فكلّ متحقّق له مرتبته الخاصّة به والمناسبة لسلوكه وسقفه المعرفي.

    في ضوء هذا الفهم للمظهرية والتحقّق بأسماء الله الحسنى سوف يتّضح لنا معنى الولاية التكوينية، فمن تحقّق باسم المحيي سوف يكون مظهراً لذلك، ومعنى مظهريته هو ظهور الأثر الفعلي للاسم فيه. فكما أنّ المتحقّق بالكرم يكون كريماً فإنّ المتحقّق بالمحيي سوف يمتلك قدرة إحياء الموتى، وهكذا في المميت والشافي والآخذ والمعطي…، إلّا في أسماء خاصّة جدّاً استأثر الله تعالى بها ولا يمكن لغيره الاتّصاف بها أبداً من قبيل الألوهية والسرمدية الجامعة للقدم الأزلي والبقاء الأبدي.

    جدير بالذكر: أنّ هذا التحقّق المعرفي النوعي مهما بلغت مراتبه فإنّه موقوف على إذن الله تعالى، وحيث إنّ المتحقّق بالأسماء الحسنى قد بلغ مرتبة من القرب يمتنع معها حصول المخالفة منه ـ وإلّا لزم أن يكون هنالك خلل في أصل معرفته لا في مرتبته المعرفية فحسب ـ فإنّه لا يكون فاعلاً ضمن أرضيّة تحقّقه إلّا بما يوافق إرادة الله تعالى ومشيئته.

    بعبارة أخرى: إنّ المتحقّق بأيّ اسم من أسماء الله الحسنى سوف يكون عارفاً بمجال حركته وتأثيره، فمعرفة رسوم حركته وتأثيره من لوازم مرتبته المعرفية، وهذه المرتبة المعرفية نفس التحقّق بها يكون إذناً للمتحقّق بها أن يتصرّف في ضوئها.

    نعم، لو أراد المتحقّق بمرتبة معرفية من اسم من أسماء الله الحسنى أن يستفيد من مرتبة أعلى من مرتبته فإنّه يتوقّف على إذن الله تعالى، ومعنى طلب الإذن منه هو رفع حالة الاستعداد وتوسيع دائرة المقتضي في المتحقّق الإمكاني أن يكون قابلاً للتحقّق بالمرتبة الأعلى ليكون مؤثّراً وفاعلاً ضمن حدود المرتبة الجديدة، لا أن يبقى في المرتبة الأولى ومؤثّراً ضمن حدود المرتبة الأعلى منه، فذلك غير ممكن البتّة، لأنّه يدور في عالم التكوين لا في عالم الاعتبار.

    وعليه فطلب الأثر الأعلائي الواقع ضمن مرتبة أعلائية لم يبلغها المتحقّق في مرتبة أدنى سوف يدور بين رفع مرتبة المتحقّق إلى المرتبة الأعلى أو يستجاب طلبه بواسطة فاعل آخر متحقّق بتلك المرتبة.

    وبذلك يتّضح لنا معنى دقيق لقوله تعالى: {وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ} (الصافات: 164) ومعنى أدقّ لقوله تعالى {أُولَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ} (الصافات: 41).

    وبذلك سيتّضح لكلّ من طهُر مولده وزكت نفسه وعلت همّته معنى قسيميّة النار والجنّة التي تحقّق بها أمير المؤمنين علي ×، ومعنى أخذ الإذن منه وجوازية المرور بإمضاء منه([1])، إن شاء منح وإن شاء منع، {هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} (ص: 39) وإن رغمت أنوف قوم واعتصرت قلوب قوم آخرين.

    هذا وقد ذكر القرآن الكريم والسنّة الشريفة موارد عديدة للولاية التكوينية التي تمتّع وتحقّق بها جملة من الأئمّة والأنبياء والأوصياء ^، نذكر منها:

    – قوله تعالى {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ} (الأنبياء:81).

    – وقوله تعالى: {وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ} (النمل: 17).

    فهذه المخلوقات جميعا تأتمر بأمره، كما أنّ تحاوره مع الهدهد دليل آخر على ولايته التكوينية. وفي قصّة آصف بن برخيا([2]) الذي وعد سليمان بأن يأتيه بعرش بلقيس قبل أن يرتدّ إليه طرفه؛ قال تعالى: {قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرّاً عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي} (النمل: 40).

    وفي سيرة عيسى × موارد كثيرة جدّاً تدّل على­ ولايته التكوينية؛ فهو يخلق الطيور ويبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى وينبئ الناس بما يأكلون وما يدّخرون؛ قال تعالى: {أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ} (آل عمران: 49)، وما تكليمه للناس وهو في المهد صبيّاً إلّا مصداق لولايته التكوينية.

    وهكذا في قصّة إبراهيم × الذي اطّلع على كيفية إحياء الموتى وقام هو بذلك. وما سلّطة جملة من الملائكة وتدبيرهم لجملة من الأمور في لوح الوجود إلّا انعكاس واضح لولايتهم التكوينية.

    إنّ هذه التصرّفات التكوينية من قبل الأنبياء والأوصياء تحكي لنا مراتبهم المعرفية التي مكّنتهم من أداء مهامّهم الرسالية، ولا ريب أنّ كلّ ما هو ثابت للسابقين من الأنبياء والرسل والأوصياء والصالحين من ولاية تكوينية ـ سعةً وضيقاً ـ فهو ثابت وبأعلى مراتبه للرسول الأكرم محمّد بن عبد الله ’ لأنّه سيّدهم وقائدهم، وما الإسراء والمعراج إلّا نموذجان لذلك، حيث بلغ من المكنة التكوينية ما يؤهّله للوصول إلى أماكن قدسيّة قد خشي جبرئيل × منها على نفسه من الاحتراق لو دنا منها أنملة واحدة([3]).

    وهذه المكنة التكوينية ثابتة للرسول الأكرم ’ أصالة، ولعترته الطاهرة وراثة.

    ———————————-

    ([1]) روى ابن الدمشقي عن أبي بكر حديث >لا يجوز الصراط أحد إلّا بجواز يكتبه علي<، انظر: جواهر المطالب في مناقب الإمام الجليل عليّ بن أبي طالب، محمّد بن أحمد الدمشقي الباعوني الشافعي، تحقيق العلّامة محمّد باقر المحمودي، نشر مجمع إحياء الثقافة الإسلامية، قم: ج1 ص295.

    وعن أنس عن النبيّ ’: «إذا كان يوم القيامة ونصب الصراط على جهنم لم يجز عليه إلّا من معه جواز فيه ولاية علي بن أبي طالب…» انظر: مناقب آل أبي طالب لابن شهر آشوب، طبع مكتبة الحيدرية، 1956م، النجف الأشرف: ج2 ص8، وقد ورد الحديث في كتب عديدة من كتب الخاصّة منها: تفضيل أمير المؤمنين للشيخ المفيد، وغاية المرام للبحراني.

    ([2]) كان وزيراً ووصيّاً للنبيّ سليمان ×. انظر: الميزان في تفسير القرآن، مصدر سابق: ج1 ص96 . وقد كان سليمان قادراً على الإتيان بعرشها أيضاً ولكنّه أحبّ أن تعرف أمتّه من الجنّ والإنس أنّ آصف بن برخيا هو الحجّة من بعده، وقد فهّمه الله ذلك لئلّا يُختلف في إمامة آصف من بعده. انظر: الاختصاص، للشيخ المفيد: ص93.

    ([3]) جاء في حديث الإسراء والمعراج أنّه ’ لما بلغ سدرة المنتهى انتهى إلى الحجب، فقال جبرئيل: «تقدّم يا رسول الله، ليس لي أن أجوز هذا المكان، ولو دنوت أنملة لاحترقت» انظر: بحار الأنوار، مصدر سابق : ج18 ص382.

    • تاريخ النشر : 2015/05/26
    • مرات التنزيل : 3040

  • جديد المرئيات