نصوص ومقالات مختارة

  • البعد المعرفي في الإمام

  • بعد أن اتّضحت لنا الأدوار الثلاثة للإمام × والتي تشكّل الأعمدة الأساسية في حركته الوجودية، وهي:

    1- دوره التشريعي.

    2- دوره التكويني.

    3- دوره القيادي السياسي.

    نكون قد وفّرنا المقدّمة الأولى والأساسية في البعد والأثر المعرفي للإمام ×، فإذا أضفنا إلى ذلك ما تقدّم بيانه من كونه يمثّل بنفسه مصدراً شرعيّاً ومدركاً فإنّه سوف يتّضح لدينا حدود هذه المصدرية وأهمّية هذه المدركية.

    إنّ القرآن الكريم يُعدّ مصدراً معرفيّاً أساسياً كما أنّه يتضمّن حقائق كونية كبيرة وعظيمة، إلّا أنّه لا يخرج عن دائرة الخزين المعلوماتي والاستعمال الآلي.

    بعبارة أخرى: إنّه لا يملك القدرة أن يكون مؤثّراً وفاعلاً في الوجود بما هو موجود، وإنّما يستفاد منه في التأثير بواسطة مؤثّر مدرك واقف على حقائقه ومراتبه، فهو لغة التغيير وليس فاعل التغيير. وهذا المعنى منسجم تماماً مع كونه وجوداً صامتاً، حيث عُبّر عنه في جملة من الروايات بأنّه قرآن صامت في قبال القرآن الناطق المتمثّل بأهل البيت ^؛ فعن الإمام أمير المؤمنين علي ×: «ذلك الكتاب الصامت ـ أي القرآن ـ وأنا القرآن الناطق»([1]) والذي نفهمه من الناطقيّة في المقام هو الفاعليّة، فهم ^ القرآن الفاعل الذي يملك القدرة على التأثير بنفسه ولكن بإذن ربّه، كما هو واضح.

    وهذا المعنى العميق لناطقيّتهم وسعة تأثيرهم يجعل منهم الرقم الأوّل في مصادر المعرفة على مستوى التشريع وعلى مستوى التكوين وعلى مستوى الحاكميّة، لأنّه فاعل على مدار هذه المستويات الثلاثة.

    وهنالك معنى آخر في غاية الدقّة لمعنى الصامتية والناطقية في القرآن وأهل البيت ^، وهو أنّ الناطقية فيها حكاية عن تقديم الأجوبة المختلفة على جميع أسئلة الإنسان وغير الإنسان في لوح الوجود، وهذا ما يفتقده الصامت.

    وهذا المعنى ينتهي بنا إلى أنّ القرآن الكريم يمثّل الإجمال في الأدوار الثلاثة (التشريع، والتكوين، والحاكمية) وأمّا الإمام × فإنّه يمثّل التفصيل في ذلك؛ ولذا فالقرآن الكريم لا تؤخذ معارفه إلّا منهم ^، فهم ترجمان القرآن في ظاهره وباطنه، وقد أشير إلى هذا التفصيل بقوله تعالى: {وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} (يس: 12)، حيث فسّر بالإمام نفسه لا بالقرآن، وهو الأنسب لمقام الإمام وموقعه في لوح الوجود، فهو مركز دائرة عالم الإمكان بقوسيها النزولي والصعودي.

    عن أبي جعفر الباقر عن أبيه عن جدّه ^ قال: لمّا أنزلت هذه الآية على رسول الله ’: {وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} ، قام أبو بكر وعمر من مجلسهما فقالا: يا رسول الله هو التوراة؟ قال: لا. قالا: فهو الإنجيل؟ قال: لا. قالا: فهو القرآن؟ قال:لا. قال ×: فأقبل أمير المؤمنين عليّ × فقال رسول الله ’: «هو هذا، إنّه الإمام الذي أحصى الله تبارك وتعالى فيه علم كلّ شيء»([2]).

    وقد عرفت أنّ القرآن هو الكتاب وأنّ الإمام لديه علم الكتاب، فناسب ذلك المقام التفصيل.

    وقد روي عن الإمام محمد الباقر × وهو يخاطب رجلين من أصحابه: «شرّقا أو غرّبا، لن تجدا علماً صحيحاً إلّا شيئاً يخرج من عندنا أهل البيت»([3]).

    إنّ أيادي الإمام المعرفية تجدها واضحة في مجمل المعارف الإسلامية سواءً كانت حصولية أو حضورية؛ كان الحسن بن عليّ الوشا([4]) يقول: إنّي أدركت في هذا المسجد ـ يعني مسجد الكوفة ـ تسعمئة شيخ، كُلٌّ يقول: حدّثني جعفر بن محمد ‘([5]). ما أعيتهم مسألة قطّ، احتاج الكلّ إليهم ولم يحتاجوا إلى أحد البتّة.

    وقد كان أمير المؤمنين علي × يهتف بأهل الكوفة مراراً: «سلوني قبل أن تفقدوني؛ فإنّ عندي علم الأوّلين والآخرين»([6]).

    ومن كلماته ×: «اندمجتُ على مكنون علم لو بُحت به لاضطربتم اضطراب الأرشية في الطوي البعيدة»([7]).

    وقد كان لندرة المتلقّين أثر سلبيّ كبير أدّى إلى حجب معارف كثيرة عنّا، وها هو الإمام محمد الباقر يصرّح لجابر بن يزيد الجعفي بذلك، بقوله: «يا جابر، ما سترنا عنكم أكثر ممّا أظهرنا لكم»([8])، وجابر نفسه ـ على أنّ ما حمله أو ما أُظهر له من العلم هو القليل ـ كان لا يجد من يودعه هذا القليل، فتضيق نفسه بما حمله من العلم، فيحفر له حفرة ويُدلي رأسه فيها ثم يُحدّث الأرض بما حمله من العلم، ثمّ يطمّ الحفرة فينفّس عن نفسه بذلك، ويطمئنّ بأنّ الأرض تستر عليه ما أذاعه لها([9])، وقد كان يفعل ذلك عملاً بنصيحة من الإمام الباقر ×.

    فإذا كان جابر الجعفي على جلالة قدره وعظيم منزلته ـ حيث كان من حفظة أسرار إمام زمانه ـ لم يقف إلّا على القليل من معارفهم ^ التحقّقية فكيف بمن هم دونه؟!

    وقد كان أمير المؤمنين علي × يؤلمه كثيراً ندرة طلبة العلم، فيفصح عن أذاه لذلك بقوله: «أوّاه، أوّاه ـ وأومأ بيده إلى صدره ـ إنّ هاهنا لعلماً جمّاً لو أجد له حَمَلة…»([10]) وفي رواية أخرى: «…ولكن طلاّبه يسير، وعن قليل يندمون لو فقدوني»([11]).

    لقد كانت الأمّة تجهل قدره أو تتجاهله، وهذا الجهل والتجاهل الذي أُسّس له من قبل يُعدّ من أعظم مظلوميّات أئمّة أهل البيت ^ عموماً والإمام أمير المؤمنين × خصوصاً؛ يُهضم حقّهم ويُجهل قدرهم.

    ولقد كان عبد الله بن مسعود يقول: غدوتُ إلى رسول الله ’ فدخلتُ المسجد والناس أجفل ما كانوا، كأنّ على رؤوسهم الطير، إذ أقبل عليّ بن أبي طالب حتى سلّم على النبيّ ’ فتغامز به بعض من كان عنده، فنظر إليهم النبيّ ’ فقال: «ألا تسألوني عن أفضلكم؟ قالوا: بلى. قال: أفضلكم عليّ بن أبي طالب، أقدمكم إسلاماً وأوفركم إيماناً وأكثركم علماً وأرجحكم حلماً وأشدّكم لله غضباً نكاية في العدوّ، فهو عبد الله وأخو رسول الله، فقد علّمته علمي واستودعته سرّي، وهو أمين على أمّتي». فقال بعض من حضر: لقد افتتن عليّ ٌ رسول الله حتى لا يرى به شيئاً! فأنزل الله سبحانه: {فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ * بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ} (القلم: 5)([12]).

    ولا ريب أنّ الكمالات التي تمتّع بها أمير المؤمنين × خصوصاً وأئمّة أهل البيت ^ عموماً والمكانة الرفيعة التي تبوّأوها عند الرسول الأكرم’ قد جرّتا الحسد عليهم؛ قال الله تعالى: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} (النساء 54).

    وفي ذلك يقول الإمام جعفر الصادق ×: «نحن والله هم، نحن والله المحسودون»([13]).

    المراتب المعرفية بين الأئمّة

    إنّ مقام الإمامة وإن كان هو أشرف المقامات المعرفية وأرفعها مرتبة، إلّا أنّ المرتبة المعرفية تنقسم هي الأخرى إلى مراتب بحسب التحقّق المعرفي الذي يكون عليه الإمام.

    وقد عرفت أنّ السفر المعرفيّ الثاني من الأسفار العملية الأربعة، وهو السفر في الحقّ بالحقّ، فيه تُحدّد المراتب المعرفية للواصلين، لأنّه سير في أسماء الله الحسنى التي لا حصر لها ولا منتهى، فبقدر الرقعة الوجودية لكلّ واصل تكون مرتبته المعرفية.

     ولا ريب أنّ إمامة الرسول الأكرم ’ أشرف وأرفع المراتب على الإطلاق، وما خاتميّته للنبوّة ورسالات السماء إلّا وجه من وجوه تقدّمه على السابقين عليه أجمعين، ولا يراد بخاتميّته الوجه الظاهري منها من كونه متأخّراً عليهم زماناً، وإنّما المراد بخاتميّته في المقام هو خاتميّته لكلّ المراتب المعرفية الوجودية في قوس الصعود فضلاً عن كونه في قوس النزول قد كان قطب رحاها وسنامها وقمّة هرمها.

    هذا وقد عرفت أنّه ’ قد بلغ في سيره المعنوي والمعرفي مقام (أو أدنى) بعد أن تجاوز مقام (قاب قوسين).

    وهذا المقام الثابت للرسول ’ أصالة هو نفسه ثابت لأمير المؤمنين × وراثة، وقد تقدّم قول الرسول الأكرم ’ بحقّ وريثه وأخيه الإمام علي ×: «علّمته علمي، واستودعته سرّي…».

    لقد كان إبراهيم وموسى وعيسى أئمّة قد بلغوا مراتب معرفية سامية إلّا أنّ مراتبهم المعرفية ـ وإن تفاوتت هي الأخرى فيما بينهم ـ لا ترتقي إلى مرتبة الرسول الأكرم ’ ولا إلى مرتبة ورثته ^.

    عن محمد بن عمير السمّان قال: قال أبو عبد الله ×: «ما يقول الناس في أولي العزم، وصاحبكم أمير المؤمنين ×؟

    قال: قلت: ما يقدّمون على أولي العزم أحداً.

    قال: فقال أبو عبد الله ×: «إنّ الله تبارك وتعالى قال لموسى ×: {وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ…} (الأعراف: 145) ولم يقل كلّ شيء، وقال لعيسى ×: {وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ…} (الزخرف: 63) ولم يقل كلّ شيء. وقال لصاحبكم أمير المؤمنين ×: {قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ…} (الرعد: 43)، وقال الله عزّ وجلّ: {وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} (الأنعام: 59)، وقال: {وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} (يس: 12)، وعلم هذا الكتاب عنده([14]).

    وأمّا التفاضل بين أئمّة أهل البيت فقد أثبتوه هم ^، فقد روي عن الإمام محمد الباقر × في ذيل قوله تعالى: {قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ} أنّه × قد قال: «إيّانا عنى، وعليّ × أوّلنا، وعليّ أفضلنا وخيرنا بعد النبيّ ’»([15]) ثمّ يأتي بعدهما سيّدا شباب أهل الجنة وبقية أصحاب الكساء: الإمام الحسن والإمام الحسين ‘، فقد ورد عن الإمام الصادق ×: «أنّ أصحاب الكساء الذين كانوا أكرم الخلق على الله كانوا خمسة…»([16])، ثمّ يأتي التفاضل النسبي حيث يرى البعض أفضلية بقيّة الله في أرضه الإمام الحجّة المهديّ ابن الحسن (عجّل الله فرجه الشريف).

    —————————————-

    ([1]) انظر: بحار الأنوار، مصدر سابق : ج39 ص272 ح 48.

    ([2]) معاني الأخبار، لرئيس المحدّثين محمد بن علي بن الحسين الصدوق، مؤسّسة النشر الإسلامي، الطبعة الرابعة، 1418هـ، قم: ص95 ح2.

    ([3]) بحار الأنوار، مصدر سابق: ج2 ص92 ح2.

    ([4]) من خيرة أصحاب الإمام علي بن موسى الرضا ×.

    ([5]) انظر: رجال النجاشي، للشيخ أبي العباس أحمد بن علي النجاشي، مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرّفة، الطبعة الخامسة، 1416هـ: ص40.

    ([6]) ميزان الحكمة، مصدر سابق: ج1 ص145 ح1068.

    ([7]) نهج البلاغة، مصدر سابق: ج1 ص41 ح5، والأرشية جمع رشاء بمعنى الحبل، والطوي جمع طوية وهي البئر، والبعيدة بمعنى العميقة.

    ([8]) الاختصاص، مصدر سابق: ص272.

    ([9]) المصدر نفسه: ص66.

    ([10]) المعيار والموازنة لأبي جعفر الإسكافي المعتزلي، تحقيق الشيخ محمّد باقر المحمودي، الطبعة الأولى، 1402هـ: ص80.

    ([11]) عيون أخبار الرضا × للشيخ الصدوق، تحقيق الشيخ حسين الأعلمي، مؤسّسة الأعلمي للمطبوعات، الطبعة الأولى، 1404 هـ، بيروت: ص183.

    ([12]) انظر: شواهد التنزيل، مصدر سابق: ج2 ص357 ح1003.

    ([13]) المصدر نفسه: ج1 ص184 ح 197.

    ([14]) انظر: الاحتجاج، للعلّامة أبي منصور أحمد بن علي الطبرسي، تحقيق: الشيخ محمّد البهادري والشيخ محمّد هادي به، انتشارات أسوة، الطبعة الثانية، 1416هـ: ج2 ص302؛ بصائر الدرجات، لمحمّد بن الحسن الصفّار، مؤسّسة الأعلمي،  1404هـ ، طهران: ج5 ص229، الباب الخامس، رقم 6.

    ([15]) بصائر الدرجات، مصدر سابق: ص235 .

    ([16]) ميزان الحكمة، مصدر سابق ج3 ص1984 ح13010 .

    • تاريخ النشر : 2015/05/26
    • مرات التنزيل : 4498

  • جديد المرئيات