بسم الله الرحمن الرحيم وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته يتطلع المؤمنون والمحبون لأهل البيت(ع) في هذا العام وفي كل عام إلى إحياء أكبر ملحمة ونهضة إصلاحية عرفها التأريخ الإنساني، وهي ملحمة كربلاء، حيث يتلمسون من خلال إحياءها الدروس والمواعظ الدينية والأخلاقية والإنسانية والعقائدية، ويستلهمون روح المقاومة والكرامة والتضحية والصبر والإباء، ويشحنون نفوسهم بالمعنوية والروحية، ويتكهربون بجاذبية الحسين(ع) ويستعيدون الثقة والإرادة بأنفسهم. ولا ينبغي أن تكون التحديات والعقبات التي تواجهها الأمة اليوم سواء في الوضع السياسي أو الاقتصادي أو الصحي مانعاً من إحياء هذه المناسبة بما لا يعرّض الناس إلى المخاطر والأذى وإلقاء النفس في التهلكة. ولبيان الموقف من إقامة العزاء في ظل جائحة كورونا نسجل النقاط الآتية: 1 ـ إن تحديد وظيفة المؤمنين من إحياء مراسيم العزاء في أيام عاشوراء مرتهن بالموقف الحكومي الرسمي وخلية الأزمة وضرورة الالتزام بالتوصيات الصادرة من وزارة الصحة ومدى سماحها بالتجمعات والاختلاط وإقامة المآتم المفتوحة أو المغلقة ضمن ضوابط معينة، وهو أمر تابع للموقف الوبائي الذي يشخصه المعنيون، ويخضع لمعرفة حجم التزام الناس بالارشادات الطبية وانخفاض مستويات الإصابة. 2 ـ أفتى أغلب الفقهاء بعدم جواز مخالفة القوانين والتعليمات الصادرة والارشادات الصحية والطبية التي تفرضها الجهات الرسمية، فإن حفظ النفس وحفظ أرواح الآخرين واجب شرعي، ويحرم إلقاء النفس في التهلكة، أو إلحاق الضرر بالآخرين، بل كل من يتسبب في إصابة الآخرين بسبب عدم التزامه بالتوصيات الصحية، فإنه ضامن لكل ما يلحقه بالآخر من أذى، سواء بلغ الإضرار حد الموت أو دون ذلك. 3 ـ ينبغي على المؤمنين تصحيح بعض الأفكار تجاه عقيدتهم بأهل البيت(ع)، وأن إقامة المجالس لا تعطل القوانين والسنن الإلهية، فإن المجالس الحسينية وإن كانت عظيمة ومحل لإجابة الدعاء، ولكنها ليست بديلة عن المستشفيات والأطباء والعلاج في مكافحة الكورونا؛ لوضوح بطلان ذلك لكل عاقل، وإنما هي مجالس لتوثيق الرابطة بين الإنسان وبين أهل البيت(ع) كما لا دليل على استثناء مجالسهم(ع) من السنن الإلهية الحاكمة في عالم الإمكان، ولا يمكن أن نقيس بعض الحالات من الكرامات على أنها قانون مطّرد. 4 ـ إن جائحة كورونا هي بلاء عظيم حلّ بالبشرية وأصابت الحياة العامة بالشلل، وأدخلت العالم بأسره في مرحلة جديدة من مراحل الحياة البشرية، وألقت نسقاً ونمطاً خاصاً على طبيعة حياتنا المتعارفة، حيث أوقفت هذه الجائحة أغلب التواصل والاتصال الفيزيائي بين أفراد المجتمع وأثّرت بشكل مباشر على أعمال الناس وأداء مهامهم، وأوقفت حركة النقل والمطارات، وانخفضت في ظلها نسب الانتاج الصناعي والتجاري من وارد وصادر، وأصيبت الناس في أبدانها وفي أرزاقها، وانخفض مستوى الاقتصاد العالمي، وراح يحصد أرواح مئات الآلاف بصمت دون أن نرى مواجهة مع عدو مرئي. إنه العدو المجهول الذي تفشى بسرعة فائقة دون أن تراه العيون أو ترصده النواظير، فهو شبح خطير يلاحق الجميع وقد تسرّى إلى حياتنا على حين غفلة ودون سابق إنذار ليحدق بنا بمخاطره الكارثية، وليس لنا إلا التعامل بواقعية مع الوباء وتوخي الحيطة والحذر. أجل، نحن نستقبل تحولٌ مفصلي وتغيّر في نمط الحياة، سواء كان التغير بموجب السنن الإلهية أو بفعل البشر كما هو المعتاد في التغيرات المرحلية التابعة لتغير الإنسان وتطوره وتحكّمه، وقد تكون الغاية من وراء ذلك هيمنة مجموعة تتحكم بمصير العالم بما فيها الدول العظمى من خلال التحوّل نحو حياة آلية وإلكترونية تخضع لسيطرتهم وتحكّمهم. وإن مقياس القوة والقدرة في هذه الحياة الجديدة يتمثل بتصنيع وامتلاك الأسلحة البايلوجية وطرق نشرها، وتكون الهيمنة لمن يمتلك عقلاً إلكترونياً يمكّنه من شن الحرب السايبرانية الإلكترونية واختراق المنظومات المعلوماتية السرية والعسكرية والأمنية والصناعية للعدو وهكر مواقعها والتحكم بأجهزتها الكمبيوترية المركزية المرتبطة بأنظمتها الدفاعية العسكرية من قبيل التحكم بمنصات الصواريخ النووية وغيرها، وإن من يسيطر على الفضاء الإلكتروني هو المهيمن على العالم، وبالقدر الذي يمتلك الإنسان فيه برامج تمنع من اختراق معلوماته يقاس مستوى قوته، وهذا ما يفسّر لنا السر الكامن وراء بعض الأحداث التي تتحطم فيها هيبة بعض الدول العظمى من خلال بعض الدول النامية التي ليست بمصاف تلك الدول في تجهيزاتها العسكرية والصناعية. وهذا النمط الجديد من الحياة يجبر الإنسان على أن يتماشى ويدخل هذا العالم حتى وإن كان رافضاً له وغير مقتنع به، لارتباط الأمن الاجتماعي والاقتصادي والإعلامي والصناعي والعسكري بهذا النمط، ولا دور لنا فيها لتقرير مصيرنا أو مصير العالم من هذه الجهة بعد أن أهملنا العلوم الإنسانية والتجريبية. وبمقتضى هذه القراءة الواعية للحياة يفترض التعاطي مع الموضوعات المستجدة والمحاطة بالمخاطر بنمطها الجديد والتواصل من خلال الفضاء المجازي الافتراضي دون مكابرة أو تجاهل للواقع أو تحدّي للسنن الطبيعية والتعامل بمقتضى شرائط العصر ومقتضياته، فتجاهل الواقع لن يغير الحقائق. وهذا ما يدعونا إلى التأكيد على ضرورة ملاحظة عنصر الزمان والمكان وإعماله كمبنى أساسي حاكم على الموضوعات الحياتية والفقهية والعرفية والمعرفية عموماً نتيجة تغير الفكر البشري. فإن التعامل بالطريقة التقليدية الفيزيائية في موضوعة (إقامة المجالس) في ظل التغيرات الخطيرة سيحوّل هذه المراسيم إلى مآتم على أرواح حاضريها ويسبب في حدوث كوارث إنسانية، و(المؤمن لا يلدغ من جحر مرتين). نعم، إذا توفرت إمكانية الحضور الفيزيائي في الحسينيات والمساجد مع مراعاة الارشادات الصحية ووجود الفواصل الآمنة بين الأفراد، أو السماح بالحضور لأعداد محددة يرتفع معها احتمال خطر الإصابة بالوباء، فلا إشكال في ذلك، بل تعد من أفضل القربات. 5 ـ إن إقامة العزاء من خلال برامج التواصل الاجتماعي والفضائيات يعد مصداقاً للاجتماع والمجلس على الحسين× وإن كان افتراضياً، خصوصاً مع تحقق الغرض من الاجتماع، ولا دليل على حصر الإحياء للمجالس بالحضور الفيزيائي، وتشملها روايات استحباب المجالس، فقد ورد عن الإمام الرضا(ع): (... من جلس مجلساً يحيى فيه امرنا لم يمت قلبه يوم تموت القلب). عيون أخبار الرضا(ع): ج2، 264 . 6 ـ نؤكد على ضرورة الابتعاد عن الممارسات الدخيلة التي الصقت بالشعائر الحسينية وأدت إلى تشويه ثورة الإمام الحسين(ع) وعرضها للآخرين بصورة سوداوية مشوّهة، فإن جميعنا يدرك حجم المؤامرة على تشويه النهضة الحسينية المباركة قديماً وحديثاً وبمختلف الأساليب الخبيثة، فعلينا أن نحذر من هذه الدسائس التي تلقى ترويجاً من البعض بدافع الحب والولاء لأهل البيت(ع) دون أن يعوا ما وراء ذلك من مخاطر تنال من الثورة المباركة والمذهب والدين. لذا إن تحديد وتشخيص مصاديق الشعائر الحسينية ليست من وظيفة عوام الناس والمكلفين، بل هي من تكاليف المرجع الديني العارف بزمانه، ولا تكون الممارسة من الشعائر الحسينية أو الدينية إلا بملاحظة الشروط الآتية: أ ـ أن لا تتعارض الممارسة مع الضوابط الشرعية الثابتة والمعتبرة. ب ـ أن لا تكون الممارسة سبباً في نقض الأهداف التي قامت عليها ثورة الحسين(ع)، بحيث توجب الوهن والنيل من الأهداف الحسينية المقدسة. ج ـ أن لا تكون الممارسة مخالفة للقيم الإنسانية والحضارية والثقافية الحاكمة في المجتمعات. بمعنى: ينبغي أن يكون الفعل ملائماً لثقافة العصر ومسايراً لشرائط الزمان والمكان التي يرجع في تقديرها إلى المرجع الديني، بحيث لا تعد بحسب ثقافة العصر من الخرافات والظواهر المتخلفة. لذا نهيب بجميع المؤمنين الابتعاد عن كل السلوكيات التي تحوّل الحدث الحسيني من قضية عالمية وإنسانية إلى قضية مذهبية تحمل ألوان الصراعات والاختلافات الداخلية. 7 ـ ينبغي على المؤمنين أن يجعلوا من تلك الأهداف التي قامت عليها ثورة الإمام الحسين(ع) مقياساً وميزاناً في تقويم الأقوال والأفعال والسياسات العامة لمدعي التبعية للنهج الحسيني الشريف، وأن لا نُخضِع عقولنا وقلوبنا للمظاهر الفارغة والمسميات والشعارات البراقة لتعود المأساة من جديد وتصاب الأمة في ضميرها، ويقتل الحسين(ع) مرة أخرى باسم الدين وشق عصا المسلمين. 8 ـ إن يوم الحسين(ع) ينبغي أن يجدّد في نفوسنا الروح الحسينية والحركية في مقارعة الظالمين والمستأثرين بالسلطة والعابثين بالأموال العامة وهدرها والاستيلاء عليها، فقد وصف الإمام الحسين(ع) أولئك بقوله: (اتخذوا أموال دولاً وعباده خولاً وأظهروا الفساد وعطلوا الحدود واستأثروا بالفيء وأحلوا حرام الله وحرّموا حلاله وأنا أحق من غيّر...) تاريخ الطبري، محمد بن جرير الطبري: ج4، 304 . وقد حاولت الحكومة آنذاك خنق هذا الصوت الهادر وإسكاته بشتى وسائل الترغيب والترهيب، كما هو حال أغلب الحكومات اليوم، خصوصاً في العراق الجريح الذي ما إن تخلص من أعتى طاغية عرفه التاريخ المعاصر حتى حكم البلاد والعباد من لا يلين قلبه لأنين الثكالى وبكاء الأيتام، وعادت المأساة ذاتها ولكن بثوب جديد وبشعارات إسلامية وسياسية وإنسانية من مختلف الطوائف والمكونات الحاكمة ، وشهدنا معاناة الحسين(ع) مرة أخرى، فقد واجه(ع) حكومةً ترفع شعار الإسلام في العلن وتذبح المسلمين وتصادر حرياتهم وتنهب ثرواتهم في السر، فوقف(ع) يقارع الظالمين كاسراً حاجز الخوف، غير مبالٍ بالعقل والرأي الجمعي، رافضاً كل المساومات، صارخاً: (هيهات منا الذلة). نسأل الله تعالى أن يرفع هذا الوباء عن الجميع ويشافي المرضى ويؤجر العاملين في مكافحة الجائحة، وأن يرزقنا شفاعة الحسين(ع) يوم الورود، ويتقبل أعمالكم بأحسن قبوله إنه سميع الدعاء.